اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسۡـَٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (134)

" تلْكَ " مُبْتَدَأٌ ، و " أمَّةٌ " خبره ، ويجوز أنْ تَكُونَ " أُمَّة " بدلاً من " تلك " ، و " قد خلت " خبر للمبتدأ .

وأصل " تلك " : " تي " ، فلمَّا جاء باللاَّم للبعد حُذِفَتِ الياء لالتقاء الساكنين ، فإن قيل : لِمَ لَمْ تكسر اللام حتى لا تحذف الياء ؟

فالجواب : أنَّهُ يثقل اللفظ بوقوع الياء بين كسرتين .

وزعم الكوفيون أنَّ التاء وحدَها هي الاسم ، وليس ثَمَّ شيء محذوف .

وقوله : " قد خلت " جملة فعلية في محل رفع صفة ل " أُمَّة " إنْ قيل إنها خبر " تلك " أو خبرُ " تلك " إن قيل : إن " أمة " بدل من " تلك " كما تقدم ، و " خلت " أي صارت إلى الخلاء ، وهي الأرض التي لا أنيس بها ، والمراد به ماتت ، والمشار إليه هو إبراهيم ويعقوب وأبناؤهم .

والأمة : الجماعة ، وقيل : الصنف .

قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون صفة ل " أمة " أيضاً ، فيكون محلها رفعاً .

والثاني : أن تكون حالاً من الضمير في " خلت " فمحلها نصب ، أي : خلت ثابتاً لَهَا كَسْبُها .

والثالث : أن تكون استئنافاً فلا محلّ لها .

وفي " ما " من قوله : " ما كسبت " ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنها بمعنى الذي .

والثاني : أنها نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف أي : كسبته ، إلا أن الجملة لا محلّ لها على الأول .

والثالث : أن تكون مصدرية ، فلا تحتاج إلى عائد على المشهور ، ويكون المصدر واقعاً موقع المفعول أي : لها مكسوبها أو يكون ثَمَّ مضاف ، أي : لها جزاء كسبها .

قوله : { وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ } إن قيل : إن قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } مستأنف كانت هذه الجملة عطفاً عليه .

وإن قيل : إنه صفة أو حال فلا .

أما الصفة فلعدم الرابط فيها .

وأما الحال فلاختلاف زمان استقرار كسبها لها ، وزمان استقرار كسب المخاطبين ، وعطف الحال على الحال يوجب اتحاد الزمان ، و " ما " من قوله : " ما كسبتم " ك " ما " المتقدمة .

فصل فيمن استدل بالآية على إضافة بعض الأكساب إلى العبد

دلت هذه الآية على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب ، وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك ، إن كان خيراً فبفضله وإن كان شرًّا فبعدله ، فالعبد مكتسب لأفعاله ، على معنى أنه خلقت له قدرة مُقَارنة للفعل يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرَّعشة مثلاً ، وذلك التمكن هو مَنَاط التكليف ، وهذا مذهب أهل السُّنة .

وقالت الجبرية بنفي اكتساب العَبْدِ ، وأنه كالنبات الذي تصرفه الرياح .

وقالت القدرية والمعتزلة خلاف هذين القولين ، وأن العبد يخلق أفعاله ، نقلهُ القرطبي .

قوله : " وَلاَ تُسْأَلُونَ " هذه الجملة استئناف ليس إلاَّ ، ومعناها التوكيد لما قبلها ؛ لأنه لما تقدم أن أحداً لا ينفعه كسب أحد ، بل هو مختص به إن خَيْراً وإن شرًّا ، فلذلك لا يسأل أحد عن غيره ، وذلك أن اليهود افتخروا بأسلافهم ، فأُخْبروا بذلك .

و " ما " يجوز فيها الأوجه الثلاثة من كونها موصولة اسمية ، أو حرفية ، أو نكرة ، وفي الكلام حذف ، أي : ولا يُسْألون عما كنتم تعملون .

قال أبو البقاء : ودلّ عليه : لها ما كسبت ، ولكم ما كسبتم انتهى .

ولو جُعِل الدالُّ قوله : { ولا تسألون عما كانوا يعملون } كان أوْلى ؛ لأنه مقابلة .