البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسۡـَٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (134)

{ تلك أمّة قد خلت } ، تلك : إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وأبنائهما .

ومعنى خلت : ماتت وانقضت وصارت إلى الخلاء ، وهو الأرض الذي لا أنيس به .

والمخاطب هم اليهود والنصارى الذين ادّعوا لإبراهيم وبنيه اليهودية والنصرانية .

والجملة من قوله : قد خلت ، صفة لأمّة .

{ لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } : أي تلك الأمّة مختصة بجزاء ما كسبت ، كما أنكم كذلك مختصون بجزاء ما كسبتم من خير وشرّ ، فلا ينفع أحداً كسب غيره .

وظاهر ما أنها موصولة وحذف العائد ، أي لها ما كسبته .

وجوّزوا أن تكون ما مصدرية ، أي لها كسبها ، وكذلك ما في قوله : { ولكم ما كسبتم } .

ويجوز أن تكون الجملة من قوله : { لها ما كسبت } استئنافاً ، ويجوز أن تكون جملة حالية من الضمير في خلت ، أي انقضت مستقراً ثابتاً ، لها ما كسبت .

والأظهر الأول ، لعطف قوله : { ولكم ما كسبتم } على قوله : { لها ما كسبت } .

ولا يصح أن يكون { ولكم ما كسبتم } عطفاً على جملة الحال قبلها ، لاختلاف زمان استقرار كسبها لها .

وزمان استقرار كسب المخاطبين ، وعطف الحال على الحال ، يوجب اتحاد الزمان .

افتخروا بأسلافهم ، فأخبروا أن أحداً لا ينفع أحداً ، متقدّماً كان أو متأخراً .

وروي : يا بني هاشم ! لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم ! يا فاطمة ، لا أغني عنك من الله شيئاً ! قال ابن عطية : وفي هذا الآية ردّ على الجبرية القائلين : لا اكتساب للعبد . انتهى .

وهذه مسألة يبحث فيها في أصول الدين ، وهي من المسائل المعضلة ، ومذاهب أهل الإسلام فيها أربعة .

أحدها : قول الجبرية ، وهو أن العبد مجبور على فعله ، وأنه لا اختيار له في ذلك ، بل هو ملجأ إليه ، وأن نسبة الفعل إليه كنسبة حركة الغصن إليه ، إذا حركه محرك .

والثاني : قول القدرية ، وهو أنهم ليسوا مجبورين على الفعل ، بل لهم قدرة على إيجاد الفعل .

والثالث : قول المعتزلة ، أن العبد له قدرة يخلقها الله له قبل الفعل ، وهو متمكن من إيقاعه وعدم إيقاعه .

والرابع : مذهب أهل السنة والجماعة : أن الله يخلق للعبد تمكيناً وقدرة مع الفعل يفعل بها الخير والشر ، لا على سبيل الاضطرار والإلجاء ، وهذا التمكين هو مناط التكليف الذي يترتب عليه العقاب والثواب .

ثم بعد اتفاقهم على هذا الأصل ، اختلفوا في تفسيره على ثلاثة تفاسير : أحدها : قول أبي الحسن : أن القدرة صفة متعلقة بالمقدور من غير تأثير في المقدور ، بل القدرة والمقدور حصلاً بخلق الله ، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله ، وهو متعلق القدرة الحادثة ، هو الكسب .

والثاني : قول الباقلاني : أن ذات الفعل لم تحصل له صفة ، كونه طاعة ومعصية ، بل هذه الصفة حصلت له بالقدرة الحادثة .

والثالث : قول أبي إسحاق الإسفرائني : أن القدرتين ، القديمة والحديثة ، إذا تعلقتا بمقدور وقع بهما ، فكان فعل العبد يوقع بإعانة ، فهذا هو الكسب .

{ ولا تسألون عما كانوا يعملون } : جملة توكيدية لما قبلها ، لأنه قد أخبر بأن كل أحد مختص بكسبه من خير ، وإذا كان كذلك ، فلا يسأل أحد عن عمل أحد .

فكما أنه لا ينفعكم حسناتهم ، فكذلك لا تسألون ولا تؤاخذون بسيئات من اكتسبها .

{ ولا تزر وازرة وزر أخرى } كل شاة برجلها تناط .

قالوا : وفي هذه الآية ، وما قبلها ، دليل على أن للإنسان أن يحتج على غيره بما يجري مجرى المناقضة لقوله ، إفحاماً له ، وإن لم يكن ذلك حجة في نفسه ، لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يحتج على نبوّته بأمثال هذه الكلمات ، بل كان يحتج بالمعجزات الباهرة .

لكنه لما أقام الحجة بها وأزاح العلة ، وجدهم معاندين مستمرين على باطلهم .

فعند ذلك أورد عليهم من الحجة ما يجانس ما كانوا عليه ، فقال : إن كان الدين بالاتباع ، فالمتفق عليه أولى .

وفي قوله : { لها ما كسبت } إلى آخره ، دلالة على بطلان قول من يقول بجواز تعذيب أولاد المشركين بذنوب آبائهم .

وفي الآية قبلها دلالة على أن الأبناء يثابون على طاعة الآباء .

/خ141