قوله تعالى : { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ، { بما صبروا } على دينهم . قال مجاهد : نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأوذوا .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنبأنا أبو علي زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن حفص الجويني ، أنبأنا أحمد بن سعيد الدرامي ، أنبأنا عثمان ، أنبأنا شعبة ، عن صالح ، عن الشعبي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده " . قوله عز وجل : { ويدرؤون بالحسنة السيئة } قال ابن عباس رضي الله عنهما : يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك ، قال مقاتل : يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو والمغفرة { ومما رزقناهم ينفقون } في الطاعة .
{ أُولَئِكَ } الذين آمنوا بالكتابين { يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ } أجرا على الإيمان الأول ، وأجرا على الإيمان الثاني ، { بِمَا صَبَرُوا } على الإيمان ، وثبتوا على العمل ، فلم تزعزعهم{[607]} عن ذلك شبهة ، ولا ثناهم عن الإيمان رياسة ولا شهوة .
و من خصالهم الفاضلة ، التي من آثار إيمانهم الصحيح ، أنهم { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي : دأبهم وطريقتهم الإحسان لكل أحد ، حتى للمسيء إليهم بالقول والفعل ، يقابلونه بالقول الحميد والفعل الجميل ، لعلمهم بفضيلة هذا الخلق العظيم ، وأنه لا يوفق له إلا ذو حظ عظيم .
ثم بين - سبحانه - ما أعده لهؤلاء الأخيار من ثواب فقال : { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } .
أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة يؤتون أجرهم مضاعفا بسبب صبرهم على مغالبة شهواتهم ، وبسبب صبرهم على ما يستلزمه اتباع الحق من تكاليف .
قال القرطبى : قوله - تعالى - { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } ثبت فى صحيح مسلم عن أبى موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ، وأدرك النبى صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله - عز وجل - وحق سيده فله أجران ، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن تغذيتها ، ثم أدبها فأحسن تأديبها ، ثم أعتقها وتزوجها ، فله أجران " .
قال علماؤنا : لما كان كل واحد من هؤلاء مخاطبا بأمرين من جهتين استحق كل واحد منهم أجرين ، فالكتابى كان مخاطبا من جهة نبيه ، ثم إنه خوطب من جهة نبينا ، فأجابه واتبعه فله أجر الملتين .
وقوله - تعالى - { وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة } بيان لصفة أخرى من صفاتهم الحسنة .
و { وَيَدْرَؤُنَ } من الدرء بمعنى الدفع ومنه الحديث الشريف : " ادرءوا الحدود بالشبهات " .
أى : لا يقابلون السيئة بمثلها ، وإنما يعفون ويصفحون ، ويقابلون الكلمة الخبيثة بالكلمة الحسنة .
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أى : ومما أعطيناهم من مال يتصدقون ، بدون إسراف أو تقتير .
هؤلاء الذين أسلموا لله من قبل ، ثم صدقوا بالقرآن بمجرد سماعه :
أؤلئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا . .
الصبر على الإسلام الخالص . إسلام القلب والوجه . ومغالبة الهوى والشهوة . والاستقامة على الدين في الأولى والآخرة . أولئك يؤتون أجرهم مرتين ، جزاء على ذلك الصبر ، وهو عسير على النفوس ، وأعسر الصبر ما كان على الهوى والشهوة والالتواء والانحراف . وهؤلاء صبروا عليها جميعا ، وصبروا على السخرية والإيذاء كما سبقت الرواية ، وكما يقع دائما للمستقيمين على دينهم في المجتمعات المنحرفة الضالة الجاهلة في كل زمان ومكان :
وهذا هو الصبر كذلك . وهو أشد مؤنة من مجرد الصبر على الإيذاء والسخرية . إنه الاستعلاء على كبرياء النفس ، ورغبتها في دفع السخرية ، ورد الأذى ، والشفاء من الغيظ ، والبرد بالانتقام ! ثم درجة أخرى بعد ذلك كله . درجة السماحة الراضية . التي ترد القبيح بالجميل وتقابل الجاهل الساخر بالطمأنينة والهدوء وبالرحمة والإحسان ؛ وهو أفق من العظمة لا يبلغه إلا المؤمنون الذين يعاملون الله فيرضاهم ويرضونه ، فيلقون ما يلقون من الناس راضين مطمئنين .
وكأنما أراد أن يذكر سماحة نفوسهم بالمال ، عقب ذكره لسماحة نفوسهم بالإحسان . فهما من منبع واحد : منبع الاستعلاء على شهوة النفس ، والاعتزاز بما هو أكبر من قيم الأرض . الأولى في النفس ، والثانية في المال . وكثيرا ما يردان متلازمين في القرآن .
و { أجرهم مرتين } معناه على ملتين وبحظوة شريعتين ، وهذا المعنى هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة يؤتيهم أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ، والعبد الناصح في عبادة ربه وخدمة سيده ، ورجل كانت له أمة فأدبها وعلمها ثم أعتقها وتزوجها »{[9156]} وقوله تعالى : { بما صبروا } عام في صبرهم على ملتهم ثم على هذه وعلى الأذى الذي يلقونه من الكفار وغير ذلك من أنوع الصبر ، وقوله تعالى : { ويدرؤون } معناه يدفعون هذا وصف لمكارم الأخلاق ، أي : يتعاونون ، ومن قال لهم سوءاً لا َيُنوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه ، وهذه آية مهادنة وهي في صدر الإسلام وهي مما نسخته آية السيف وبقي حكمها فيما دون الكفر يتعاطاها أمة محمد إلى يوم القيامة ، وقوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون } مدح لهم بالنفقة في الطاعات وعلى رسم الشرع ، وفي ذلك حض على الصدقات ونحوها ، .
التعبير عنهم باسم الإشارة هنا للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف التي ذكرت قبل اسم الإشارة مثل ما تقدم في قوله { أولئك على هدى من ربهم } في سورة [ البقرة : 5 ] .
عَدَّ الله لهم سبع خصال من خصال أهل الكمال :
إحداها : أخروية ، وهي { يؤتون أجرهم مرتين } أي أنهم يؤتون أجرين على إيمانهم ، أي يضاعف لهم الثواب لأجل أنهم آمنوا بكتابهم من قبل ثم آمنوا بالقرآن ، فعبر عن مضاعفة الأجر ضعفين بالمرتين تشبيهاً للمضاعفة بتكرير الإيتاء وإنما هو إيتاء واحد .
وفائدة هذا المجاز إظهار العناية حتى كأن المثيب يعطي ثم يكرر عطاءه ففي { يؤتون أجرهم مرتين } تمثيلة . وفي الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيئه وأدركني فآمن بي واتبعني وصدقني فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله تعالى وحق سيده فله أجران ، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران » رواه الشعبي وقال لعطاء الخراساني : خذه بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة .
والثانية : الصبر ، والصبر من أعظم خصال البر وأجمعها للمبرات ، وأعونها على الزيادة والمراد بالصبر صبرهم على أذى أهل ملتهم أو صبرهم على أذى قريش ، وهذا يتحقق في مثل الوفد الحبشي . ولعلهم المراد من هذه الآية ولذلك أتبع بقوله { ويدرؤون بالحسنة السيئة } وقوله { وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم } .
والخصلة الثالثة : درؤهم السيئة بالحسنة وهي من أعظم خصال الخير وأدعاها إلى حسن المعاشرة قال تعالى { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } [ فصلت : 34 ] ، فيحصل بذلك فائدة دفع مضرة المسيء عن النفس ، وإسداء الخير إلى نفس أخرى ، فهم لم يردوا جلافة أبي جهل بمثلها ولكن بالإعراض مع كلمة حسنة وهي { سلام عليكم } .
وأما الإنفاق فلعلهم كانوا ينفقون على فقراء المسلمين بمكة ، وهو الخصلة الرابعة ولا يخفى مكانها من البر .
والخصلة الخامسة : الإعراض عن اللغو ، وهو الكلام العبث الذي لا فائدة فيه ، وهذا الخلق من مظاهر الحكمة ، إذ لا ينبغي للعاقل أن يشغل سمعه ولُبّه بما لا جدوى له وبالأولى يتنزه عن أن يصدر منه ذلك .
والخصلة السادسة : الكلام الفصل وهو قولهم { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم } وهذا من أحسن ما يجاب به السفهاء وهو أقرب لإصلاحهم وأسلم من تزايد سفههم .
ولقد أنطقهم الله بحكمة جعلها مستأهلة لأن تُنظم في سلك الإعجاز فألهمهم تلك الكلمات ثم شرّفها بأن حيكت في نسج القرآن ، كما ألهم عمر قوله