قوله تعالى : { إذ أنتم } ، أي : إذ أنتم نزول يا معشر المسلمين .
قوله تعالى : { بالعدوة الدنيا } ، أي : بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة ، والدنيا تأنيث الأدنى .
قوله تعالى : { وهم } ، يعني عدوكم من المشركين .
قوله تعالى : { بالعدوة القصوى } بشفير الوادي الأقصى من المدينة ، والقصوى تأنيث الأقصى ، قرأ ابن كثير وأهل البصرة : بالعدوة بكسر العين فيهما ، والباقون بضمهما ، وهما لغتان : كالكسوة والكسوة ، والرشوة والرشوة .
قوله تعالى : { والركب } ، يعني : العير ، يريد أبا سفيان وأصحابه .
قوله تعالى : { أسفل منكم } ، أي : في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر ، على ثلاثة أميال من بدر .
قوله تعالى : { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } ، وذلك أن المسلمين خرجوا ليأخذوا العير ، وخرج الكفار ليمنعوها ، فالتقوا على غير ميعاد ، فقال تعالى : { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } لقلتكم ، وكثرة عدوكم .
قوله تعالى : { ولكن } الله جمعكم على غير ميعاد .
قوله تعالى : { ليقضي الله أمراً كان مفعولا } ، من نصر أوليائه ، وإعزاز دينه ، وإهلاك أعدائه .
قوله تعالى : { ليهلك من هلك عن بينة } أي ليموت من يموت على بينة رآها ، وعبرة عاينها ، وحجة قامت عليه .
قوله تعالى : { ويحيي من حي عن بينة } ، ويعيش من يعيش على بينة لوعده ، { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] . وقال محمد بن إسحاق : معناه ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك ، فالهلاك هو الكفر ، والحياة هي الإيمان ، وقال قتادة : ليضل من ضل عن بينة ، ويهتدي من اهتدى على بينة ، قرأ أهل الحجاز ، وأبو بكر ، ويعقوب ، حيي بيائين ، مثل خشي ، وقرأ الآخرون : بياء واحدة مشددة ، لأنه مكتوب بياء واحدة مشددة .
{ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا ْ } أي : بعدوة الوادي القريبة من المدينة ، وهم بعدوته أي : جانبه البعيدة من المدينة ، فقد جمعكم واد واحد .
{ وَالرَّكْبُ ْ } الذي خرجتم لطلبه ، وأراد اللّه غيره { أَسْفَلَ مِنْكُمْ ْ } مما يلي ساحل البحر .
{ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ ْ } أنتم وإياهم على هذا الوصف وبهذه الحال { لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ْ } أي : لا بد من تقدم أو تأخر أو اختيار منزل ، أو غير ذلك ، مما يعرض لكم أو لهم ، يصدفكم عن ميعادكم{[347]}
{ وَلَكِنْ ْ } اللّه جمعكم على هذه الحال { لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ْ } أي : مقدرا في الأزل ، لا بد من وقوعه .
{ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ْ } أي : ليكون حجة وبينة للمعاند ، فيختار الكفر على بصيرة وجزم ببطلانه ، فلا يبقى له عذر عند اللّه .
{ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ْ } أي : يزداد المؤمن بصيرة ويقينا ، بما أرى اللّه الطائفتين من أدلة الحق وبراهينه ، ما هو تذكرة لأولي الألباب .
{ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ْ } سميع لجميع الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات ، عليم بالظواهر والضمائر والسرائر ، والغيب والشهادة .
ثم حكى - سبحانه - بعض مظاهر فضله وحكمه في غزوة بدر ، فبين الأماكن التي نزل فيها كل فريق ، كما يبن الحكمة في لقاء المؤمنين والكافرين على غير ميعاد ، والحكمة في تقليل كل فريق منهما في عين الآخر . . فقال تعالى : { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ . . . تُرْجَعُ الأمور } .
قوله : { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا } بدل من قوله { يَوْمَ الفرقان } أو معمول لفعل محذوف . والتقدير : اذكروا .
والعدوة - مثلثة العين - جانب الوادى وحافته . وهى من العدو بمعنى التجاوز سميت بذلك لأنها عدت . . - أي منعت - ما في الوادى من ماء ونحوه أن يتجاوزها .
والدنيا : تأنيث الأدنى بمعنى الأقرب . والقصوى : تأنيث الأقصى بمعنى الأبعد والركب : اسم جمع لراكب ، وهم العشرة فصاعدا من راكبى الإِبل .
قال القرطبى : ولا تقول العرب : ركب إلا للجماعة الراكبى الإِبل . .
والمراد بهذا الركب : أبو سفيان ومن معه من رجال قريش الذين كانوا قادمين بتجارتهم من بلاد الشام ومتجهين بها إلى مكة ، فلما بلغ النبى - صلى الله عليه وسلم - أمرها ، أشار على أصحابه بالخروج لملاقاته ، كما سبق أن بينا عند تفسيرنا لقوله - تعالى - { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق . . } والمعنى : اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن خرجتم إلى بدر ، فسرتم إلى أن كنتم { بِالْعُدْوَةِ الدنيا } أى : بجانب الوادى وحافته الأقرب الى المدينة ، وكان اعداؤكم الذين قدموا لنجدة العير { بالعدوة القصوى } أى : بالجانب الآخر الأبعد من المدينة ، وكان أبو سفيان ومن معه من حراس العير { أَسْفَلَ مِنكُمْ } أى : في مكان أسفل من المكان الذي أنتم فيه ، بالقرب من ساحل البحر الأحمر ، على بعد ثلاثة أميال منكم .
قال الجمل : قوله { والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ } الأحسن في هذه الواو ، والواو التي قبلها الداخلة على { هُم } أن تكون عاطفة ما بعدها على { أَنتُمْ } لأنها مبدأ تقسيم أحوالهم وأحوال عدوهم ويجوز أن يكونا واو حال ، واسفل منصوب على الظرف النائب عن الخبر ، وهو في الحقيقة صفة لظرف مكان محذوف . أى : والركب في مكان أسفل من مكانكم وكان الركب على ثلاثة أميال من بدر . .
وقال الإِمام الزمخشرى - رحمه الله - فإن قلت : ما فائدة هذا التوقيت ، وذكر مراكز الفريقين ، وأن العير كانت أسفل منهم ؟ .
قلت : الفائدة فيه الإِخبار عن الحال الدالة على قوة الشأن للعدو ، وتكامل عدته ، وتمهد أسباب الغلبة له ، وضعف شأن المسلمين ، والتياث أمرهم ، وأن غلبتهم في هذه الحال ليس إلا صنعا من الله - سبحانه - ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرته .
وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون ، كان فيه الماء ، وكانت أرضا لا بأس بها . ولا ماء العدوة الدنيا ، وهى خبار - أي أرض لينة رخوة - تسوخ فيها الأرجل ، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة .
وكانت العير وراء ظهور العدو ، مع كثرة عددهم ، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم ، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ، ليبعثهم الذب عن الحريم على بذل جهودهم في القتال .
وفيه تصوير ما دبر - سبحانه - من أمر غزوة بدر { لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } ومن إعزاز دينه ، وإعلاء كلمته ، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج ، وأقلق قريشا ما بلغهم من تعرض المسلمين لأموالهم ، فنفروا لمنع عيرهم ، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى ، وراءهم العير يحامون عليها ، حتى قامت الحرب في ساق ، وكان ما كان .
وقوله : { وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد ولكن لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } بيان لتدبير الله الحكيم ، وإرادته النافذة .
أى : ولو تواعدتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال ، لتخلفتم عن الميعاد المضروب بينكم ، لأن كل فريق منكم كان سيتهيب الإِقدام على صاحبه ، ولكن الله - تعالى - بتدبيره الخفى شاء أن يجمعكم للقتال على غير ميعاد ، ليقضى - سبحانه - أمراً كان مفعولا ، أى : ثابتا في علمه وحكمته ، وهو : إعزاز الإِسلام وأهله ، وخذلان الشرك وحزبه .
روى ابن جرير من حديث كعب بن مالك - رضى الله عنه - قال : إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يريدون عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد . وروى - أيضا - عن عمير بن إسحاق قال : أقبل أبو سفيان في الكرب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فالتقوا ببدر ، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ، ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقى السقاة قال : ونظر الناس بعضهم إلى بعض .
وقوله { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } بدل من قوله { لِّيَقْضِيَ } بإعادة الحروف ، أو هو متعلق بقوله { مَفْعُولاً } .
والمراد بالهلاك والحياة هنا ما يشمل الحسى والمعنوى منهما .
والمراد بالبينة الحجة الدالة على حقية الإِسلام وبطلان الكفر .
قال الآلوسى : أى : ليموت من يموت عن حجة عاينها ، ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها ، فلا يبقى محل للتعليل بالأعذار ، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة والحجج الغر المحجَّلة .
ويجوز أن يراد بالحياة : الإِيمان ، وبالموت : الكفر على سبيل الاستعارة أو المجاز المرسل بأن يراد بالبينة : إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدامغة .
أى : ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن ووضح وبينة وإلى هذا ذهب قتادة وابن اسحاق . والظاهر أن { عَن } هنا بمعنى بعد كقوله - تعالى - { قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر ويعقوب { حيى } - على وزن تعب - بفك الإِدغام . وقرأ الباقون بإدغام الياء الأولى في الثانية على وزن شد ومد .
وقوله { وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } تذييل قصد به الترغيب في الإِيمان - والترهيب من الكفر ، أى : وإن الله لسميع لأقوال أهل الايمان والكفر عليم بما تنطوى عليه قلوبهم وضمائرهم ، وسيجازى - كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب على حساب ما يعلم وما يسمع منه .
وهنا يعود السياق إلى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . يعود إلى المعركة ، فيعيد عرضها بأسلوب عجيب في استحضار مشاهدها ومواقفها ، كما لو كانت معروضة فعلاً ، ويكشف عن تدبير الله في إدارتها . حتى ليكاد الإنسان يرى يد الله - سبحانه - من وراء الأحداث والحركات كما يكشف عن غاية ذلك التدبير التي تحققت كما أرادها الله سبحانه :
إذ أنتم بالعدوة الدنيا ، وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم . ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً . ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة ، وإن الله لسميع عليم . إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ، ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ، ولكن الله سلم ، إنه عليم بذات الصدور . وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، وإلى الله ترجع الأمور .
إن المعركة شاخصة بمواقع الفريقين فيها ؛ وشاهدة بالتدبير الخفي من ورائها . . إن يد الله تكاد ترى ، وهي توقف هؤلاء وهؤلاء هناك والقافلة من بعيد ! والكلمات تكاد تشف عن تدبير الله في رؤيا الرسول [ ص ] وفي تقليل كل فريق في عين الفريق الآخر وفي إغراء كل منهما بالآخر . . وما يملك إلا الأسلوب القرآني الفريد ، عرض المشاهد وما وراء المشاهد بهذه الحيوية ، وبهذه الحركة المرئية ، وفي مثل هذه المساحة الصغيرة من التعبير !
وهذه المشاهد التي تستحضرها النصوص ، قد مر بنا في استعراض الوقعة من السيرة الإشارة إليها . . ذلك أن المسلمين حين خرجوا من المدينة نزلوا بضفة الوادي القريبة من المدينة ؛ ونزل جيش المشركين بقيادة أبي جهل بالضفة الأخرى البعيدة من المدينة ؛ وبين الفريقين ربوة تفصلهما . . أما القافلة فقد مال بها أبو سفيان إلى سيف البحر أسفل من الجيشين .
ولم يكن كل من الجيشين يعلم بموقع صاحبه . وإنما جمعهما الله هكذا على جانبي الربوة لأمر يريده . حتى لو أن بينهما موعداً على اللقاء ما اجتمعا بمثل هذه الدقة والضبط من ناحية المكان والموعد ! وهذا ما يذكر الله به العصبة المسلمة ليذكرها بتدبيره وتقديره .
( إذ أنتم بالعدوة الدنيا ، وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم ، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ) . .
{ إذ أنتم بالعُدوة الدنيا } بدل من { يوم الفرقان } ، والعدوة بالحركات الثلاث شط الوادي وقد قرئ بها ، والمشهور الضم والكسر وهو قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب . { وهم بالعدوة القصوى } البعدى من المدينة ، تأنيث الأقصى وكان قياسه قلب الواو ياء كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة فجاء على الأصل كالقود وهو أكثر استعمالا من القصيا . { كالرّكب } أي العير أو قوادها . { أسفل منكم } مكان أسفل من مكانكم يعني الساحل ، وهو منصوب على الظرف واقع موقع الخبر والجملة حال من الظرف قبله ، وفائدتها الدلالة على قوة العدو واستظهارهم بالركب وحرصهم على المقاتلة عنها وتوطين نفوسهم على أن لا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى جهدهم ، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم واستبعاد غلبتهم عادة ، وكذا ذكر مراكز الفريقين فإن العدوة الدنيا كانت رخوة تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ولم يكن بها ماء ، بخلاف العدوة القصوى وكذا قوله : { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } أي لو تواعدتم أنتم وهم القتال ثم علمتم حالكم وحالهم لاختلفتم انتم في الميعاد هيبة منهم ، ويأسا من الظفر عليهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صنعا من الله تعالى خارقا للعادة فيزدادوا إيمانا وشكرا . { ولكن } جميع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد . { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } حقيقا بأن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه ، وقوله : { ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حيّ عن بيّنة } بدل منه أو متعلق بقوله مفعولا والمعنى : ليموت من يموت عن بينة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة ، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة . أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة على استعارة الهلاك والحياة للكفر والإسلام ، والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة ، أو من هذا حاله في علم الله وقضائه . وقرئ " ليهلك " بالفتح وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر ويعقوب من " حيي " بفك الإدغام للحمل على المستقبل . { وإن الله لسميع عليم } بكفر من كفر وعقابه ، وإيمان من آمن وثوابه ، ولعل الجمع بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد .
العامل في { إذ } قوله { التقى } و { العدوة } شفير الوادي وحرفه الذي يتعذر المشي فيه بمنزلة رجا البئر لأنها عدت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوز الوادي أي منعته ، ومنه قول الشاعر :
عدتني عن زيارتك العوادي*** وحالت دونها حرب زبون
ولأنها ما عدا الوادي أي جاوزه ، وتسمى الضفة والفضاء المساير للوادي عدوة للمجاورة ، وهذه هي العدوة التي في الآية{[5367]} ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «بالعُدوة » بضم العين ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «بالعِدوة » بكسر العين ، وهما لغتان ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وقتادة وعمرو «بالعَدوة » بفتح العين ، ويمكن أن تكون تسمية بالمصدر ، قال أبو الفتح : الذي في هذا أنها لغة ثالثة كقولهم في اللبن رَغوة ورِغوة ورُغوة ، وروى الكسائي : كلمته بحضرة فلان وحضرته إلى سائر نظائر ، ذكر أبو الفتح كثيراً منها ، وقوله { الدنيا } و { القصوى } إنما بالإضافة إلى المدينة ، وفي حرف ابن مسعود «إذا أنتم بالعدوة العليا وهم بالعدوة السفلى » ، ووادي بدر آخذ بين الشرق والقبلة منحرف إلى البحر الذي هو قريب من ذلك الصقع ، والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق وبينهما مرحلتان ، حدثني أبي بأنه رأى هذه المواضع على ما وصفت وقال ابن عباس : بدر بين مكة والمدينة ، و { الدنيا } من الدنو ، و { القصوى } من القصو ، وهو البعد ، وكان القياس أن تكون القصيا لكنه من الشاذ ، وقال الخليل في العين : شذت لفظتان وهما القصوى والفتوى ، وكان القياس فيهما بالياء كالدنيا والعليا{[5368]} ، و { الركب } بإجماع من المفسرين غير أبي سفيان ، ولا يقال ركب إلا لركاب الإبل وهو من أسماء الجمع ، وقد يجمع راكب عليه كصاحب وصحب وتاجر وتجر ، ولا يقال ركب لما كثر جداً من الجموع .
وقال القتبي : الركب الشعرة ونحوها ، وهذا غير جيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، قد قال «والثلاثة ركب »{[5369]} الحديث وقوله { أسفل } في موضع خفض تقديره في مكان أسفل كذا قال سيبويه ، قال أبو حاتم : نصب «أسفلَ » على الظرف ويجوز «الركب أسفل » على معنى وموضع الركب أسفل أو الركب مستقراً أسفل .
قال القاضي أبو محمد : وكان الركب ومدبر أمره أبو سفيان بن حرب قد نكب عن بدر حين نذر{[5370]} بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأخذ سيف البحر{[5371]} فهو أسفل بالإضافة إلى أعلى الوادي من حيث يأتي ، وقال مجاهد في كتاب الطبري : أقبل أبو سفيان وأصحابه من الشام تجاراً لم يشعروا بأصحاب بدر ولم يشعر أصحاب محمد بكفار قريش ولا كفار قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى التقوا على ماء بدر من يسقي لهم كلهم ، فاقتتلو فغلبتهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأسروهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا تعقب ، وكان من هذه الفرق شعور يبين من الوقوف على القصة بكمالها ، وقوله { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } قال الطبري وغيره : لو تواعدتم على الاجتماع ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لخالفتم ولم تجتمعوا معهم ، وقال المهدوي : المعنى أي لاختلفتم بالقواطع والعوارض القاطعة بين الناس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا نيل{[5372]} واضح ، وإيضاحة أن المقصد من الآية نعمة الله وقدرته في قصة بدر وتيسيره ما يسر من ذلك ، فالمعنى : إذ هيأ الله لكم هذه الجمال ، ولو تواعدتم لها لاختلفتم إلا مع تيسير الذي تمم ذلك ، وهذا كما تقول لصاحبك في أمر سناه الله{[5373]} دون تعب كثير : ولو بنينا على هذا وسعينا فيه لم يتم هكذا ، ثم بين تعالى أن ذلك إنما كان بلطف الله عز وجل { ليقضي أمراً } أي لينفذ ويظهر أمراً قد قدره في الأول { مفعولاً } لكم بشرط وجودكم في وقت وجودكم ، وذلك كله معدوم عنده ، وقوله تعالى : { ليهلك من هلك عن بينة } الآية ، قال الطبري : المعنى ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم ببيان من الله وإعذار بالرسالة ، { ويحي } أيضاً ويعيش من عاش عن بيان منه أيضاً وإعذار لا حجة لأحد عليه ، فالهلاك والحياة على هذا التأويل حقيقتان ، وقال ابن إسحاق وغيره : معنى { ليهلك } أي ليكفر { ويحيى } أي ليؤمن فالحياة والهلاك على هذا مستعارتان والمعنى أن الله تعالى جعل قصة بدر عبرة وآية ليؤمن من آمن عن وضوح وبيان ويكفر أيضاً من كفر عن مثل ذلك ، وقرأ الناس «ليهلِك » بكسر اللام الثانية وقرأ الأعمش «ليهلَك » بفتح اللام ، ورواها عصمة عن أبي بكر عن عاصم ، و «البينة » صفة أي عن قضية بينة ، واللام الأولى في قوله { ليهلك } رد على اللام في قوله { ليقضي } .
وقرأ ابن كثير في رواية قنبل وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «من حيّ » بياء واحدة مشددة ، وقرأ نافع وابن كثير في رواية البزي وعاصم في رواية أبي بكر «من حيِيَ » بإظهار الياءين وكسر الأولى وفتح الثانية ، قال من قرأ «حيّ » فلأن الياء قد لزمتها الحركة فصار الفعل بلزوم الحركة لها مشبهاً بالصحيح مثل عض وشم ونحوه ، ألا ترى أن حذف الياء من جوارٍ في الجر والرفع لا يطرد في حال النصب إذا قلت رأيت جواري لمشابهتها بالحركة سائر الحروف الصحاح ، ومنه قوله { كلا إذا بلغت التراقي }{[5374]} ، وعلى نحو «حيّ » جاء قول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]
عيّوا بأمرهم كما*** عيّتْ ببيضتها الحمامه{[5375]}
سألتني جارتي عن أمتي*** وإذا ما عيَّ ذو اللب سأل{[5376]}
فهذا أوان العرض حيّ ذبابه*** زنابيره والأزرق المتلمس{[5377]}
ويروى جن ذبابه{[5378]} ، قال أبو علي وغيره : هذا أن كل موضع تلزم الحركة فيه ياء مستقبلية{[5379]} فالإدغام في ماضيه جائز ، ألا ترى أن قوله تعالى : { على أن يحيي الموتى }{[5380]} لا يجوز الإدغام فيه لأن حركة النصب غير لازمة ، ألا ترى أنها تزول في الرفع وتذهب في الجزم ، ولا يلتفت إلى ما أنشد بعضهم لأنه بيت مجهول : [ الكامل ]
وكأنها بين النساء سبيكة*** تمشي بسدة بيتها فتعي{[5381]}
قال أبو علي : وأما قراءة من قرأ «حيي » ، فبين ولم يدغم ، فإن سيبويه قال : أخبرنا بهذه اللغة يونس ، قال وسمعنا بعض العرب يقول أحيياء{[5382]} قال أبو حاتم : القراءة إظهار الياءين والإدغام حسن فاقرأ كيف تعلمت فإن اللغتين مشهورتان في كلام العرب ، والخط فيه ياء واحدة .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذه اللفظة استوعب أبو علي القول فيما تصرف من «حيي » كالحي الذي هو مصدر منه وغيره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر المؤمنين عن حالهم التي كانوا عليها، فقال: أرأيتهم معشر المؤمنين: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا}، يعنى من دون الوادي على شاطئ مما يلي المدينة، {وهم بالعدوة القصوى} من الجانب الآخر مما يلي مكة، يعنى مشركي مكة، فقال: {والركب أسفل منكم}، يعنى على ساحل البحر أصحاب العير أربعين راكبا أقبلوا من الشام إلى مكة فيهم: أبو سفيان، وعمرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل {ولو تواعدتم} أنتم والمشركون، {لاختلفتم في الميعاد ولكن} الله جمع بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد، أنتم ومشركو مكة {ليقضى الله أمرا} في علمه، {كان مفعولا} يقول: أمرا لا بد كائنا؛ ليعز الإسلام وأهله، ويذل الشرك وأهله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أيقنوا أيها المؤمنون واعلموا أن قسم الغنيمة على ما بينه لكم ربكم إن كنتم آمنتم بالله وما أنزل على عبده يوم بدر، إذ فرق بين الحقّ والباطل من نصر رسوله، "إذْ أنْتُمْ "حينئذ "بالعُدْوةِ الدّنْيا" يقول: بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة، "وَهُمْ بالعُدْوَةِ القُصْوَى" يقول: وعدوّكم من المشركين نزول بشفير الوادي الأقصى إلى مكة، "وَالرّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ" يقول: والعير فيها أبو سفيان وأصحابه في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر.
"وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أمْرا كانَ مَفْعُولاً"
يعني تعالى ذكره: ولو كان اجتماعكم في الموضع الذي اجتمعتم فيه أنتم أيها المؤمنون وعدوّكم من المشركين عن ميعاد منكم ومنهم، لاختلفتم في الميعاد لكثرة عدد عدوّكم وقلة عددكم ولكن الله جمعكم على غير ميعاد بينكم وبينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولاً، وذلك القضاء من الله كان نصره أولياءه من المؤمنين بالله ورسوله، وهلاك أعدائه وأعدائهم ببدر بالقتل والأسر... "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ وَيحْيا مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ وَإنّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ"
يقول تعالى ذكره: ولكن الله جمعهم هنالك ليقضي أمرا كان مفعولاً، "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ". وهذه اللام في قوله: "لِيَهْلِكَ" مكررة على اللام في قوله: "لِيَقْضِيَ" كأنه قال: ولكن ليهلك من هلك عن بينة، جَمَعَكُمْ.
ويعني بقوله: "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ" ليموت من مات من خلقه عن حجة لله قد أثبتت له وقطعت عذره، وعبرة قد عاينها ورآها. "وَيحْيا مَنْ حَيّ عَنْ بَينَةٍ" يقول: وليعيش من عاش منهم عن حجة لله قد أثبتت له وظهرت لعينه فعلمها، جمَعنا بينكم وبين عدوكم هنالك.
وقال ابن إسحاق في ذلك...: "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَةٍ" لما رأى من الآيات والعبر، ويؤمن من آمن على مثل ذلك.
وأما قوله: "وَإنّ اللّهَ لَسَمِيِعٌ عَلِيمٌ" فإن معناه: وإن الله أيها المؤمنون لسميع لقولكم وقول غيركم حين يرى الله نبيه في منامه، ويريكم عدوكم في أعينكم قليلاً وهم كثير، ويراكم عدوكم في أعينهم قليلاً، عليم بما تضمره نفوسكم وتنطوي عليه قلوبكم، حينئذ وفي كل حال. يقول جلّ ثناؤه لهم ولعباده: واتقوا ربكم أيها الناس في منطقكم أن تنطقوا بغير حقّ، وفي قلوبكم أن تعتقدوا فيها غير الرشد، فإن الله لا يخفى عليه خافية من ظاهر أو باطن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) إما للخروج نفسه وإما للميعاد نفسه؛ أتخرجون، أو لا تخرجون؟ أو منكم من يؤخر الخروج عن وقت الميعاد، ومنكم من لا يخرج رأسا ليقضي ذلك.
وقوله تعالى: (وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً)... لينجز الله ما كان وعد من الظفر والنصر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يخبر -سبحانه- أنَّ ما جرى يَومَ بدرٍ من القتال، وما حَصَلَ من فنون الأحوال كان بحكم التقدير، لا بما يحصل من الخَلْق من التدبير، أو بحكم تقتضيه رَوِيَّةُ التفكير. بل لو كان ذلك على اختيار وتَوَاعُد، كنتم عن تلك الجملة على استكراه وتَبَاعدُ، فجرى على ما جرى ليقضِيَ الله أمراً كان مقضيًّا، وحصل من الأمور ما سَبَقَ به التقدير. قوله جلّ ذكره: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَي عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}. أي ليُضِلَّ منْ زاغ عن الحقِّ بعد لزومه الحجة، ويهتديَ مَنْ أقام على الحقِّ بعد وضوح الحُجَّة. ويقال الحقُّ أوْضَحَ السبيلَ ونَصَبَ الدليلَ، ولكن سَدَّ بصائرَ قومٍ عن شهود الرشد، وَفَتح بصائرَ آخرين لإدراك طرق الحق.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين «وأن العير كانت أسفل منهم»؟ قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدوّ وشوكته، وتكامل عدّته، وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم وأنّ غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من الله سبحانه، ودليلاً على أنّ ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوّته وباهر قدرته... وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر.
{لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} يعلم كيف يدبر أموركم ويسوي مصالحكم، أو لسميع عليم بكفر من كفر وعقابه، وبإيمان من آمن وثوابه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... {ليهلك} أي ليكفر {ويحيى} أي ليؤمن. والمعنى أن الله تعالى جعل قصة بدر عبرة وآية ليؤمن من آمن عن وضوح وبيان، ويكفر أيضاً من كفر عن مثل ذلك.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وفي حديث كعب بن مالك قال: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عِيرَ قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ} أي: لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به {عَلِيمٌ} أي: بكم وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر لهم يوم ملتقاهم، صور لهم حالتهم الموضحة للأمر المبينة لما كانوا فيه من اعترافهم بالعجز تذكيراً لهم بذلك ردعاً عن المنازعة ورداً إلى المطاوعة فقال مبدلاً من {يوم الفرقان} {إذ أنتم} نزول {بالعدوة الدنيا} أي القربى إلى المدينة {وهم} أي المشركون نزول {بالعدوة القصوى} أي البعدى منها القريبة إلى البحر،... والعدوة -بالكسر في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب، وبالضم في قراءة غيرهم: جانب الوادي وشطه، ومادتها- بأي ترتيب كان -تدور على الاضطراب ويلزمه المجاورة والسكون والإقبال والرجوع والاستباق والمحل القابل لذلك، فكأنها الموضع الذي علا عن محل فكان السيل موضعاً للعدو {والركب} أي العير الذي فيه المتجر الذي خرجتم لاقتطاعه ورئيس جماعته أبو سفيان، ونصب على الظرف قوله: {أسفل منكم} أي أيها الجمعان إلى جانب البحر على مدى من قرية تكادون تقعون عليه وتمدون أيديكم إليه مسافة ثلاثة أميال- كما قال البغوي، وهو كان قصدكم وسؤلكم، فلو كانت لكم قوة على طرقه لبادرتم إلى الطرف وغالبتم عليه الحتف، ولكن منعكم من إدراك مأمولكم منه من كان جاثماً بتلك العدوة جثوم الأسد واثقاً بما هو فيه من القوى والعدد كما قال صلى الله عليه وسلم لسلمة بن سلامة بن وقش رضي الله عنه -لما قال في تحقيرهم بعد قتلهم وتدميرهم: إن وجدنا إلا عجائز صلعاً، ما هو إلا أن لقيناهم فمنحونا أكتافهم- جواباً له "أولئك يا ابن أخي الملأ لو رأيتهم لهبتهم ولو أمروك لأطعتهم "مع استضعافكم لأنفسكم عن مقاومتهم لولا رسولنا يبشركم وجنودنا تثبتكم، وإلى مثل هذه المعاني أشار تصوير مكانهم ومكان الركب إيماء إلى ما كان فيه العدو من قوة الشوكة وتكامل العدة وتمهد أسباب الغلبة وضعف حال المسلمين وأن ظفرهم في مثل هذا الحال ليس إلا صنعاً من الله. {ولو تواعدتم} أي أنتم وهم على الموافاة إلى تلك المواضع في آن واحد {لاختلفتم في الميعاد} أي لأن العادة قاضية بذلك لأمرين: أحدهما بعد المسافة التي كنتم بها منها وتعذر توقيت سير كل فريق بسير صاحبه، والثاني كراهتكم للقائهم لما وقر في أنفسهم من قوتهم وضعفكم، وقد كان الذي كرّه إليكم لقاءهم قادر على أن يكره إليهم لقاءكم، فيقع الاختلاف من جهتهم كما كان في بدر الموعد، وأما في هذه الغزوة فدعاهم من حماية غيرهم داع لم يستطيعوا التخلف معه، وطمس الله بصائرهم وقسى قلوبهم مع قول أبي جهل الذي كان السبب الأعظم في اللقاء لمن عرض عليه المدد بالسلاح والرجال: إن كنا نقاتل الناس فما بنا ضعف عنهم، وإن كنا إنما نقاتل -كما يزعم محمد- الله، فما لأحد بالله من طاقة، وقوله أيضاً في هذه الغزوة للأخنس بن شريق: إن محمداً صادق وما كذب قط. فعل الله ذلك لما علم في ملاقاتهم لكم من إعلاء كلمته وإظهار دينه {ولكن} أي دبر ذلك سبحانه حتى توافيتم إلى موطن اللقاء كلكم في يوم واحد من غير ميعاد ولم تختلفوا في موافاة ذلك الموضع مع خروج ذلك عن العادة لكونه أتقن أسبابه، فأطمعكم في العير أولاً مع ما أنتم فيه من الحاجة ثم وعدكم إحدى الطائفتين مبهماً وأخرج قريشاً لحماية عيرهم إخراجاً لم يجدوا منه بداً، ولما نجت عيرهم أوردهم الرياء والسمعة والبطر بما هم فيه من الكثرة والقوة كما قال أبو جهل: لا نرجع حتى نرد بدراً فننحر بها الجزور ونشرب الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم من حضرنا من العرب فلا يزالون يهابوننا مدى الزمان -{ليقضي الله} أي الذي له جميع الأمر من إعزاز دينه بإعزازكم وإذلالهم {أمراً كان} كما تكون الجبلات والطبائع في التمكن والتمام {مفعولاً} أي مقدراً في الأزل من لقائهم وما وقع فيه من قتلهم وأسرهم على ذلك الوجه العظيم فهو مفعول لا محالة ليتبين به أيمان من آمن باعتماده على الله وتصديقه بموعده وكفر من كفر.
ولما علل ذلك التدبير في اللقاء بقوله: {ليقضي الله} علل تلك العلة بقوله: {ليهلك} أي بعد رؤية ذلك القضاء الخارق للعادة {من هلك} أي من الفريقين: الكفار في حالة القتال وبعدها، والمسلمين هلاكاً متجاوزاً وناشئاً {عن} حالة {بينة} لما بان من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الوقعة في كل ما وعد به وكذب الكفار في كل ما كانوا يقولونه قاطعين به مع أن ظاهر الحال يقضي لهم، فكان ذلك من أعظم المعجزات {ويحيى من حيّ} أي بالإسلام حياة هي في أعلى الكمال بما تشير إليه قراءة نافع والبزي عن ابن كثير وأبي بكر عن عاصم بإظهار الياءين، أو في أدنى الكمال بما يشير إليه إدغام الباقين تخفيفاً حياة متجاوزة وناشئة {عن} حالة {بينة} أي كائنة بعد البيان في كون الكافرين على باطل والمؤمنين على حق لما سيأتي من أنهم كانوا يقولون
{غر هؤلاء دينهم} [الأنفال: 49] فحينئذ تبين المغرور وكشفت عجائب المقدور عن أعين القلوب المستور.
ولما كان التقدير: فإن الله في فعل ذلك لعزير حكيم، عطف عليه قوله: {وإن الله لسميع} أي لما كنتم تقولونه وغيره {عليم} بما كنتم تضمرونه وغيره فاستكينوا لعظمته وارجعوا عن منازعتكم لخشيته.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
وقوله: {كان مفعولا} أي حقيقا بأن يفعل. وقيل: {كان} بمعنى {صار} أي صار مفعولا، بعد أن لم يكن. وقيل: إنه عبر به عنه لتحققه حتى كأنه مضى وقوله تعالى: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} أي إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد، لينصركم عليهم ويرفع حجة الحق على الباطل ليصير الأمر ظاهرا والحجة قاطعة، والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ يهلك من هلك، أي يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره، أنه مبطل لقيام الحجة عليه. ويؤمن من آمن عن حجة وبصيرة ويقين، بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه، والتمسك به، وذلك أن ما كان من وقعة (بدر) من الآيات الغر المحجلة، التي من كفر بعدها، كان مكابرا لنفسه مغالطا لها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} أي فعل ذلك ليترتب على قضاء هذا الأمر أن يهلك من هلك من الكفار عن حجة بينة مشاهدة بالبصر على حقية الإسلام، بإنجاز وعده تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، بحيث تنفي الشبهة، وتقطع لسان الاعتذار عند الله عن إجابة الدعوة، ويحيا من حي من المؤمنين عن بينة قطعية حسية كذلك فيزدادوا يقينا بالإيمان، ونشاطا في الأعمال...
{وإن الله لسميع عليم} لا يخفى عليه شيء من أقوال أهل الإيمان والكفر ولا من عقائدهم وأفعالهم، فهو يسمع ما يقول كل فريق من الأقوال الصادرة عن عقيدته، والأعذار التي يعتذر بها عن تقصيره في أعماله، عليم بما يخفيه ويكنه من ذلك وغيره، فيجازي كلا بحسب ما يعلم وما يسمع منه.
وجملة القول: إن هذا الفرقان الذي رتبه الله على غزوة بدر قامت به حجة الله البالغة للمؤمنين بنصرهم كما بشرهم صلى الله عليه وسلم، وهي حجته البالغة على الكافرين بخذلانهم وانكسارهم كما أنذرهم صلى الله عليه وسلم، إذ لا مجال للمكابرة فيها ولا للتأويل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا يعود السياق إلى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.. يعود إلى المعركة، فيعيد عرضها بأسلوب عجيب في استحضار مشاهدها ومواقفها، كما لو كانت معروضة فعلاً، ويكشف عن تدبير الله في إدارتها. حتى ليكاد الإنسان يرى يد الله -سبحانه- من وراء الأحداث والحركات كما يكشف عن غاية ذلك التدبير التي تحققت كما أرادها الله سبحانه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والغرض من التقييد بهذا الوقت، وبتلك الحالة: إحضارها في ذكْرهم، لأجل ما يلزم ذلك من شكر نعمة الله، ومن حسن الظنّ بوعده والاعتماد عليه في أمورهم، ومعنى {أمراً} هنا الشيء العظيم، فتنكيره للتعظيم المعنى: لينجز الله ويوقع حدثاً عظيماً متّصفاً منذ القدم بأنّه محقّق الوقوع عند إبّانه، أي حقيقاً بأن يُفعل حتّى كأنّه قد فعل لأنّه لا يمنعه ما يحفّ به من الموانع المعتادة.