{ أَوَلَمْ يَرَوْا } بأبصارهم نعمتنا ، وكمال حكمتنا { أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ } التي لا نبات فيها ، فيسوق اللّه المطر ، الذي لم يكن قبل موجودًا فيها ، فيفرغه فيها ، من السحاب ، أو من الأنهار . { فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا } أي : نباتًا ، مختلف الأنواع { تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ } وهو نبات البهائم { وَأَنْفُسهمْ } وهو طعام الآدميين .
{ أَفَلَا يُبْصِرُونَ } تلك المنة ، التي أحيا اللّه بها البلاد والعباد ، فيستبصرون فيهتدون بذلك البصر ، وتلك البصيرة ، إلى الصراط المستقيم ، ولكن غلب عليهم العمى ، واستولت عليهم الغفلة ، فلم يبصروا في ذلك ، بصر الرجال ، وإنما نظروا إلى ذلك ، نظر الغفلة ، ومجرد العادة ، فلم يوفقوا للخير .
ثم نبههم - سبحانه - إلى نعمة من نعمه الكثيرة فقال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } والأرض والجرز : هى الأرض اليابسة التى جرز نباتها وقطع ، إما لعدم نزول الماء عليها ، وإما لرعيه منها .
قال القرطبى ما ملخصه : والأرض الجرز هى التى جرز نباتها أى : قطع ، إما لعدم الماء ، وإما لأنه رعى وأزيل ، ولا يقال للتى لا تنبت كالسباخ جرز .
وهو مشتق من قولهم : رجل جروز إذا كان لا يبقى شيئاً إلا أكله ، وكذلك ناقة جروز : إذا كانت تأكل كل شئ تجده ، وسيف جراز ، أى : قاطع . .
أى : أعموا ولم يشاهدوا بأعينهم { أَنَّا نَسُوقُ } بقدرتنا ورحمتنا { المآء } الذى تحمله السحب { إِلَى الأرض الجرز } أى : اليابسة الخالية من النبات ، فينزل عليها .
{ فَنُخْرِجُ بِهِ } أى : فنخرج بهذا الماء النازل على الأرض القاحلة { زَرْعاً } كثيراً نافعاً { تَأْكُلُ مِنْهُ } أى : من هذا الزرع { أَنْعَامُهُمْ } أى : تأكل منه ما يصلح لأكلها كالأوراق والأغصان وما يشبه ذلك .
وقوله { وَأَنفُسُهُمْ } معطوف على أنعامهم . أى : تأكل أنعامهم من الزرع ما يناسبها ، ويأكل منه الناس ما يناسبهم كالبقول والحبوب .
وقدم - سبحانه - الأنعام على بنى آدم للترقى من الأدنى إلى الأشرف .
وقوله - تعالى - { أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } حض لهم على التأميل فى هذه النعم ، والحرص على شكر المنعم عليها ، وإخلاص العبادة له .
وبعد لمسة البلى والدثور ، وما توقعه في الحس من رهبة وروعة ، وما تثيره في القلب من رجفة ورعشة . يلمس قلوبهم بريشة الحياة النابضة في الموات ؛ ويجول بهم جولة في الأرض الميتة تدب فيها الحياة ، كما جال بهم من قبل في الأرض التي كانت حية فأدركها البلى والممات :
أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز ، فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ? .
فهذه الأرض الميتة البور ، يرون أن يد الله تسوق إليها الماء المحيي ؛ فإذا هي خضراء ممرعة بالزرع النابض بالحياة . الزرع الذي تأكل منه أنعامهم وتأكل منه أنفسهم . وإن مشهد الأرض الجدبة والحيا يصيبها فإذا هي خضراء . . إن هذا المشهد ليفتح نوافذ القلب المغلقة لاستجلاء هذه الحياة النامية واستقبالها ؛ والشعور بحلاوة الحياة ونداوتها ؛ والإحساس بواهب هذه الحياة الجميلة الناضرة ؛ إحساس حب وقربى وانعطاف ؛ مع الشعور بالقدرة المبدعة واليد الصناع ، التي تشيع الحياة والجمال في صفحات الوجود .
وهكذا يطوف القرآن بالقلب البشري في مجالي الحياة والنماء ، بعدما طوف به في مجالي البلى والدثور ، لاستجاشة مشاعره هنا وهناك ، وإيقاظه من بلادة الألفة ، وهمود العادة ؛ ولرفع الحواجز بينه وبين مشاهد الوجود ، وأسرار الحياة ، وعبر الأحداث ، وشواهد التاريخ .
ثم أقام عز وجل الحجة عليهم في معنى الإيمان بالقدرة وبالبعث بأن نبههم على إحياء الأرض الموات بالماء والنبات ، و «السوق » هو بالسحاب ، وإن كان سوق بنهر فأصله من السحاب و { الجرز } الأرض العاطشة التي قد أكلت نباتها من العطش والغيظ ، ومنه قيل للأكول جروز . قال الشاعر :
خب جروز وإذا جاع بكى{[9436]} . . . ومن عبر عنها بأنها الأرض التي لا تنبت فإنها عبارة غير مخلصة ، وعم تعالى كل أرض هي بهذه الصفة لأن الآية فيها والعبرة بينة ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره { الأرض الجرز } أرض أبين{[9437]} من اليمن ، وهي أرض تشرب بسيول لا بمطر ، وجمهور الناس على ضم الراء ، وقال الزجاج وتقرأ «الجرْز » بسكون الراء{[9438]} ، ثم خص تعالى «الزرع » بالذكر تشريفاً ولأنه عظم ما يقصد من النبات ، وإلا فعرف أكل الأنعام إنما هو من غير الزرع ، لكنه أوقع الزرع موقع النبات على العموم ، ثم فصل ذلك بأكل الأنعام وبني آدم ، وقرأ أبو بكر بن عياش وأبو حيوة «يأكل » بالياء من تحت ، وقرأ ابن مسعود «يبصرون » ، وقرأ جمهور الناس «تبصرون » بالتاء من فوق .