قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا } ، قرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، وحمزة ، وحفص ، ( يحسبن ) بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء ، ( سبقوا ) أي : فأتوا ، نزلت في الذين انهزموا يوم بدر من المشركين . فمن قرأ بالياء يقول ( لا يحسبن الذين كفروا ) أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا ، ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب ، قرأ ابن عامر .
قوله تعالى : { أنهم لا يعجزون } . بفتح الألف ، أي : لأنهم لا يعجزون ، ولا يفوتونني . وقرأ الآخرون بكسر الألف على الابتداء .
{ 59 ْ } { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ْ }
أي : لا يحسب الكافرون بربهم المكذبون بآياته ، أنهم سبقوا اللّه وفاتوه ، فإنهم لا يعجزونه ، واللّه لهم بالمرصاد .
وله تعالى الحكمة البالغة في إمهالهم وعدم معاجلتهم بالعقوبة ، التي من جملتها ابتلاء عباده المؤمنين وامتحانهم ، وتزودهم من طاعته ومراضيه ، ما يصلون به المنازل العالية ، واتصافهم بأخلاق وصفات لم يكونوا بغيره بالغيها ، فلهذا قال لعباده المؤمنين :
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن الكافرين لن ينجوا من عقابه ، وبشر المؤمنين بالنصر فقال : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } وقوله { يَحْسَبَنَّ } من الحسبان بمعنى الظن ، وقد قرأ ابن عامر وحفص وحمزة " يحسبن " بالياء ، وقرأ الباقون بالتاء .
وقوله : { يُعْجِزُونَ } من العجز ، وأصله - كما يقول الراغب - : التأخر عن الشئ . . ثم صار في التعارف اسماً للقصور عن فعل الشئ ، وهو ضد القدرة . . والعجوز سميت بذلك لعجزها في كثير من الأمور . .
والمعنى - على القراءة بالياء - : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم أنهم قد سبقوا الله فنجوا من عقابه ، وخلصوا من عذابه .
. كلا إن حسبانهم هذا باطل - لأنهم لا يعجزون الله ، بل هو - سبحانه - قادر على إهلاكهم وتعذيبهم في كل وقت . .
وأن نجاتهم من القتل أو الأسرفي الدنيا لن تنفعهم شيئاً من العذاب المهين في الآخرة .
وعلى هذه القراءة يكون فاعل { يَحْسَبَنَّ } قوله { الذين كَفَرُواْ } ويكون المفعول الأول ليحسبن محذوف أى : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم ، والمفعول الثانى جملة { سبقوا } .
وأما على القراءة الثانية { وَلاَ يَحْسَبَنَّ } فيكون قوله { الذين كَفَرُواْ } هو المفعول الأول . وجملة { سبقوا } هى المفعول الثانى .
أى : ولا تحسبن - أيها الرسول الكريم - أن هؤلاء الكافرين قد سبقونا خيانتهم لك ، أو أفلتوا من عقابنا وصاروا في مأمن منا . . كلا ، إنهم لا يعجزوننا عن إدراكهم وإنزال العقوبة بهم في أي وقت نريده فنحن لا يعجزنا شئ . .
وعلى كلتا القراءتين فالمقصود من الآية الكريمة قطع أطماع الكافرين في النجاة ، وإقناطهم من الخلاص ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إن من لم يصبه عذاب الدنيا ، فسوف يصيبه عذاب الآخرة ، ولا مفر له من ذلك ما دام قد استحب الكفر على الإِيمان ، أما المؤمنون فلهم من الله - تعالى - التأييد والنصر وحسن العقابة
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ
ويجب أن نذكر أن هذه الأحكام كانت تتنزل والبشرية بجملتها لا تتطلع إلى مثل هذا الأفق المشرق . لقد كان قانون الغابة هو قانون المتحاربين حتى ذلك الزمان . قانون القوة التي لا تتقيد بقيد متى قدرت . ويجب أن نذكر كذلك أن قانون الغابة هو الذي ظل يحكم المجتمعات الجاهلية كلها بعد ذلك إلى القرن الثامن عشر الميلادي حيث لم تكن أوربا تعرف شيئاً عن المعاملات الدولية إلا ما تقتبسه في أثناء تعاملها مع العالم الإسلامي . ثم هي لم ترتفع قط حتى اللحظة إلى هذا الأفق في عالم الواقع ؛ حتى بعد ما عرفت نظرياً شيئاً اسمه القانون الدولي ! وعلى الذين يبهرهم " التقدم الفني في صناعة القانون " أن يدركوا حقيقة " الواقع " بين الإسلام والنظم المعاصرة جميعاً !
وفي مقابل هذه النصاعة وهذه النظافة يعد الله المسلمين النصر ، ويهوّن عليهم أمر الكفار والكفر !
( ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا ، إنهم لا يعجزون ) . .
فتبييتهم الغدر والخيانة لن يمنحهم فرصة السبق ، لأن الله لن يترك المسلمين وحدهم ، ولن يفلت الخائنين لخيانتهم . والذين كفروا أضعف من أن يعجزوا الله حين يطلبهم ، وأضعف من أن يعجزوا المسلمين والله ناصرهم .
فليطمئن أصحاب الوسائل النظيفة - متى أخلصوا النية فيها لله - من أن يسبقهم أصحاب الوسائل الخسيسة . فإنما هم منصورون بالله الذي يحققون سنته في الأرض ، ويعلون كلمته في الناس ، وينطلقون باسمه . يجاهدون ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك .
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلا تَحْسَبَنَّ } يا محمَّد { الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا } أي : فاتونا فلا نقدر عليهم ، بل هم تحت قهر قدرتنا وفي قبضة مشيئتنا فلا يعجزوننا ، كما قال تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ العنكبوت : 4 ]أي : يظنون ، وقال تعالى : { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ النور : 57 ] ، وقال تعالى{[13104]} { لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ آل عمران : 196 ، 197 ] .
وقوله تعالى : { ولا يحسبنَّ الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي «ولا تحسِبن » بالتاء مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وبكسر السين غير عاصم فإنه فتحها ، و { الذين كفروا } مفعول أول ، و { سبقوا } مفعول ثان ، والمعنى فأتوا بأنفسهم وأنجوها «إنهم لا يعجزون » بكسر ألف «إن » على القطع والابتداء ، و { يعجزون } معناه مفلتون ويعجزون طالبهم ، فهو ُمَعَّدى ( عجز ) بالهمزة تقول عجز زيد وأعجزه غيره وعجزه أيضاً ، قال سويد : [ الوافر ]
وأعجزنا أبو ليلى طفيل*** صحيح الجلد من أثر السلاحِ
وروي أن الآية نزلت فيمن أفلت من الكفار في حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، كقريش في بدر وغيرهم ، فالمعنى لا تظنهم ناجين بل هم مدركون ، وقيل معناه لا يعجزون في الدنيا ، وقيل المراد في الآخرة ، قال أبو حاتم وقرأ مجاهد وابن كثير وشبل «ولا تِحسبن » بكسر التاء ، وقرأ الأعرج وعاصم وخالد بن الياس «تَحسَبن » بفتح التاء من فوق وبفتح السين ، وقرأ الأعمش «ولا يَحسَب » بفتح السين والياء من تحت وحذف النون ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو عبد الرحمن وابن محيصن وعيسى «ولا يحسِبنّ » بياء من تحت وسين مكسورة ونون مشددة ، وقرأ حفص عن عاصم وابن عامر وحمزة «ولا يحسبْنَ » بالياء على الكناية عن غائب وبفتح السين ، فإما أن يكون في الفعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يكون التقدير ولا يحسبن أحد ، ويكون { قوله الذين كفروا } مفعولاً أولاً و { سبقوا } مفعولاً ثانياً ، وإما أن يكون { الذين كفروا } هم الفاعلون ، ويكون المفعول الأول مضمراً و { سبقوا } مفعول ثان ، وتقدير هذا الوجه ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا ، وإما أن يكون { الذين كفروا } هو الفاعل وتضمر «أن » فيكون التقدير ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا ، وتسد أن سبقوا مسد المفعولين ، قال الفارسي : ويكون هذا كما تأوله سيبويه في قوله عز وجل قال { أفغير الله تأمروني أعبد }{[5428]} التقدير أن أعبد .
قال القاضي أبو محمد : ونحوه قول الشاعر : [ الطويل ]
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5429]}
قال أبو علي : وقد حذفت «أن » وهي مع صلتها في موضع الفاعل ، وأنشد أحمد بن يحيى في ذلك : [ الطويل ]
وما راعنا إلا يسير بشرطة*** وعهدي به قيناً يفش بكير{[5430]}
وقرأ ابن عامر وحده من السبعة «أنهم لا يعجزون » بفتح الألف من «أنهم » ، ووجهه أن يقدر بمعنى لأنهم لا يعجزون أي لا تحسبن عليهم النجاة لأنهم لا ينجون ، وقرأ الجمهور «يعْجزون » بسكون العين ، وقرأ بعض الناس فيما ذكر أبو حاتم «يعَجّزون » بفتح العين وشد الجيم ، وقرأ ابن محيصن «يعجزونِ » بكسر النون ومنحاها يعجِزوني بإلحاق الضمير ، قال الزجّاج : الاختيار فتح النون ويجوز كسرها على المعنى أنهم لا يعجزونني ، وتحذف النون الأولى لاجتماع النونين ، كما قال الشاعر : [ الوافر ]
تراه كالثغام يعل مسكاً*** يسوء الفاليات إذا فليني{[5431]}
قال القاضي أبو محمد : البيت لعمرو بن معد يكرب وقال أبو الحسن الأخفش في قول متمم بن نويرة : [ الكامل ]
ولقد علمت ولا محالة أنَّني*** للحادثات فهل تريني أجزع{[5432]} ؟
هذا يجوز على الاضطرار ، فقال قوم حذف النون الأولى وحذفها لا يجوز لأنها موضع الإعراب ، وقال أبو العباس المبرد : أرى فيما كان مثل هذا حذف الثانية ، وهكذا كان يقول في بيت عمرو بن معد يكرب ، وفي مصحف عبد الله «ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا أنهم لا يعجزون » قال أبو عمرو الداني بالياء من تحت وبغير نون في يحسب .
تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما بدأه به أعداؤه من الخيانة مثل ما فعلت قريظة ، وما فعل عبد الله بن أبي سلول وغيرهم من فلول المشركين الذين نجوا يوم بدر ، وطمأنة له وللمسلمين بأنّهم سيدالون منهم ، ويأتون على بقيتهم ، وتهديد للعدوّ بأنّ الله سيمكّن منهم المسلمين .
والسبق مستعار للنجاة ممّن يَطلب ، والتفلّت من سلطته . شبه المتخلّص من طالبه بالسابق كقوله تعالى : { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا } [ العنكبوت : 4 ] وقال بعض بني فقعس
كأنكَ لم تُسبَق من الدهر مرة *** إذا أنت أدركتَ الذي كنت تطلب
أي كأنّك لم يفتك ما فاتك إذا أدركته بعد ذلك ، ولذلك قوبل السبق هنا بقوله تعالى : { إنهم لا يعجزون } ، أي هم وإن ظهرت نجاتهم الآن ، فما هي إلاّ نجاة في وقت قليل ، فهم لا يعجزون الله ، أو لا يعجزون المسلمين ، أي لا يُصِيِّرون من أفلِتوا منه عاجزاً عن نوالهم ، كقول إياس بن قبيصة الطائي :
ألم تر أنّ الأرض رحب فسيحة *** فهل تعج زَنِّي بُقعة من بقاعها
وحذف مفعول { يعجزون } لظهور المقصود .
وقرأ الجمهور { ولا تحسبن } بالتاء الفوقية . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وحفص ، وأبو جعفر { ولا تحسبن } بالياء التحتية وهي قراءة مشكلة لعدم وجود المفعول الأول لحسب ، فزعم أبو حاتم هذه القراءة لحناً ، وهذا اجتراء منه على أولئك الايمة وصحة روايتهم ، واحتجّ لها أبو علي الفارسي بإضمار مفعول أول يدلّ عليه قوله : { إنهم لا يعجزون } أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا ، واحتج لها الزجاج بتقدير ( أنَّ ) قبل { سبقوا } فيكون المصدر سادّاً مسدّ المفعولين ، وقيل : حذف الفاعل لدلالة الفعل عليه . والتقدير : ولا يحسبنّ حاسب .
وقوله : { إنهم لا يعجزون } قرأه الجمهور بكسر همزة { إنهم } استئناف بياني جواباً عن سؤال تثيره جملة : { ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا } وقرأ ابن عامر { أنهم بفتح همزة ( أنّ ) على حذف لام التعليل فالجملة في تأويل مصدر هو علة للنهي ، أي لأنّهم لا يعجزون ، قال في « الكشّاف » : كلّ واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل إلاّ أنّ المكسورة على طريقة الاستئناف والمفتوحة تعليل صريح .