الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوٓاْۚ إِنَّهُمۡ لَا يُعۡجِزُونَ} (59)

قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ } : قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم " يَحْسَبَنَّ " بياء الغيبة هنا ، وفي النور في قوله " لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا معجزين [ في الأرض ] " كذلك خلا حَفْصاً . والباقون بتاء الخطاب .

وفي قراءة الغَيْبةِ تخريجاتٌ كثيرة سَبَقَ نظائرُها في أواخر آل عمران . ولا بد مِنْ ذكر ما ينبِّهك هنا على ما تقدَّم فمنها : أن الفعلَ مسندٌ إلى ضميرٍ يُفَسِّره السياق تقديره : ولا يَحْسَبَنَّ هو أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو حاسب ، أو يكون الضمير عائداً على مَنْ خلفهم . وعلى هذه الأقوالِ فيجوزُ أن يكون " الذين كفروا " مفعولاً أولَ ، و " سبقوا " جملة في محل نصب مفعولاً ثانياً . وقيل : الفعلُ مسندٌ إلى " الذين كفروا " ثم اختلفوا هؤلاء في المفعولين : فقال قوم : الأولُ محذوفٌ تقديره : ولا يَحْسَبَنَّهم الذين كفروا سبقوا ، ف " هم " مفعول أول ، و " سَبَقوا " في محلِّ الثاني ، أو يكون التقدير : لا يَحْسَبنَّ الذين كفروا أنفسَهم سَبَقوا ، وهو في المعنى كالذي قبله . وقال قومٌ : بل " أن " الموصولة محذوفة ، وهي وما في حيِّزها سادةٌ مَسَدَّ المفعولين ، والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أنْ سبقوا ، فحذفت " أن " الموصولة وبقيت صلتها كقوله { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ }

[ الروم : 24 ] ، أي : أن يريكم وقولهم : " تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ من أن تراه " وقوله :

ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى *** . . . . . . . . . . . . . . . .

ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُ عبد الله " أنهم سبقوا " . وقال قوم : " بل " سبقوا " في محلِّ نصبٍ على الحال ، والسادُّ مَسَدَّ المفعولين " أنهم لا يعجزون " في قراءة مَنْ قرأ بفتح " أنهم " وهو ابن عامر ، والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا سابقين أنهم لا يعجزون ، وتكون " لا " مزيدةً ليصح المعنى " .

قال الزمخشري بعد ذِكْره هذه الأوجهَ : " وليست هذه القراءةُ التي تَفَرَّد بها حمزةُ بنيِّرة " . وقد رَدَّ عليه جماعةٌ هذا القولَ وقالوا : لم ينفرد بها حمزةُ بل وافقه عليها مِنْ قُرَّاء السبعةِ ابنُ عامر أسنُّ القراءِ وأعلاهم إسناداً ، وعاصمٌ في رواية حفص ، ثم هي قراءةُ أبي جعفر المدني شيخِ نافع وأبي عبد الرحمن السلمي وابن محيصن وعيسى والأعمش والحسن البصري وأبي رجاء وطلحة وابن أبي ليلى . وقد رَدَّ الشيخ عليه أيضاً أنَّ " لا يحسبَنَّ " واقع على " أنهم لا يُعْجِزون " وتكونُ " لا " صلة بأنه لا يتأتَّى على قراءة حمزة ، فإنَّ حمزة يقرأ بكسر الهمزة يعني فكيف تلتئم قراءةُ حمزة على هذا التخريج ؟ قلت : هو لم يلتزم التخريج على قراءةِ حمزة في الموضعين : أعني " لا يَحْسَبَنَّ " وقولهم " أنهم لا يعجزون " حتى نُلْزِمه ما ذكر .

وأمَّا قراءةُ الخطاب فواضحةٌ أي : لا تَحْسبَنَّ يا محمدُ أو يا سامعُ ، و " الذين كفروا " مفعولٌ أولُ ، والثاني " سبقوا " ، وكان قد تقدَّم في آل عمران وجهٌ : أنه يجوز أن يكون الفاعلُ الموصولَ ، وإنما أتى بتاءِ التأنيث لأنه بمعنى القوم كقوله : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] ، وتقدَّمَ لك فيه بحثٌ وهو عائدٌ ههنا .

وأمَّا قراءةُ الباقين في النور ففيها ما ذُكِر ههنا إلا الوجهَ الذي فيه تقديرُ " أنْ " الموصولة لتعذُّرِ ذلك ، ولكن يَخْلُفُه وجهٌ آخر لا يتأتى ههنا : وهو أن يكون " الذين كفروا " فاعلاً ، و " مُعْجزين " مفعول أول و " في الأرض " الثاني . أي : لا تَحْسَبوا أحداً يعجز الله في الأرض أي بقوته . وأمَّا قراءةُ الخطاب فواضحةٌ على ما قدَّمته لك .

وقرأ الأعمش : " ولا يَحْسَبَ الذين كفروا " بفتح الباء . وتخريجها أن الفعلَ مؤكَّد بنون التوكيد الخفيفة ، فَحَذَفَها لالتقاء الساكنين ، كما يُحْذَفُ له التنوين فهو كقول الآخر :

لا تُهينَ الفقير عَلَّكَ أَنْ تَرْ *** كَعَ يوماً والدهرُ قد رفعهْ

أي : لا تهينَنَّ . ونقل بعضهم : " ولا تحسَبِ الذين " من غير توكيدٍ البتة . وهذه القراءةُ بكسرِ الباء على أصل التقاء الساكنين .

قولهم : { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } قرأ ابن عامر بالفتح ، والباقون بالكسر . فالفتح : إمَّا على حَذْفِ لام العلة ، أي : لأنهم . واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر . ووجهُ الاستبعادِ أنها تعليل للنهي أي : لا تَحْسَبَنَّهم فائتين لأنهم لا يُعْجزون ، أي : لا يقع منك حسبانٌ لقولهم لأنهم لا يُعْجزون ، وإمَّا على أنها بدلٌ من مفعول الحسبان .

وقال أبو البقاء : " إنه متعلقٌ بتحسب :/ إمَّا مفعولٌ أو بدلٌ من " سَبَقوا " ، وعلى كلا الوجهين تكون " لا " زائدةً . وهو ضعيفٌ لوجهين : أحدهما : زيادة لا ، والثاني : أن مفعول " حَسِب " إذا كان جملةً وكان مفعولاً ثانياً كانت " إنَّ " فيه مكسورة لأنه موضعُ ابتداء وخبر " .

قوله : { لاَ يُعْجِزُونَ } العامَّةُ بنون واحدة خفيفةٍ مفتوحةٍ وهي نونُ الرفع . وقرأ ابن محيصن " يُعْجِزوني " بنونٍ واحدةٍ بعدها ياء المتكلم ، وهي نون الوقاية أو نون الرفع . وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك في سورة الأنعام في { أَتُحَاجُّونِّي } . قال الزجاج : " الاختيارُ الفتحُ في النون ، ويجوز كسرُها على أن المعنى : لا يُعْجزونني ، وتُحْذف النونُ الأولى لاجتماع النونين كما قال عمر بن أبي ربيعة :

تراه كالثَّغام يُعَلُّ مِسْكاً *** يَسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْني

وقال متمم بن نويرة :

ولقد عِلِمْتِ ولا محالةَ أنني *** للحادثات فهل تَرَيْني أجزعُ

قال الأخفش في هذا البيت : " فهذا يجوز على الاضطرار " .

وقرأ ابن محيصن أيضاً " يُعْجِزونِّ " بنون مشددة مكسورةٍ ، أدغم نونَ الرفع في نون الوقاية وحذف ياء الإِضافة مُجْتزِئاً عنها بالكسرة . وعنه أيضاً فتحُ العين وتشديدُ الجيم وكسر النون ، مِنْ " عَجَّز " مشدَّداً . قال أبو جعفر : " وهذا خطأٌ من وجهين أحدهما : أن معنى عجَّزه ضعَّفه وضعَّف أمره ، والآخر : كان يجب أن يكون بنونين " قلت : أمَّا تخطئة النحاسِ له فخطأٌ ، لأن الإِتيان بالنونين ليس بواجب ، بل هو جائز ، وقد قرئ به في مواضع في المتواتر سيأتي بعضُها . وأما عجَّز بالتشديد فليس معناه مقتصراً على ما ذكر بل نَقَل غيرُه من أهل اللغة أن معناه نسبتي إلى العجز ، وأن معناه بَطَّأ وثبَّط ، والقراءة معناها لائقٌ بأحد المعنيين . وقرأ طلحة بكسر النونِ خفيفةً .