اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوٓاْۚ إِنَّهُمۡ لَا يُعۡجِزُونَ} (59)

قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ } الآية .

قرأ ابن{[17428]} عامر وحمزة وحفص عن عاصم " يَحْسبنَّ " بياء الغيبة هنا ، وفي النور في قوله :{ لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ } [ النور : 57 ] كذلك ، خلا حفصاً ، والباقون بتاء الخطابِ ، وفي قراءة الغيبة تخريجاتٌ كثيرة سبق نظائرها في أواخر آل عمران ، ولا بدَّ من التنبيه هنا على ما تقدَّم ، فمنها ، أنَّ الفعل مسندٌ إلى ضميرٍ يُفسِّره السياق ، تقديره : ولا يحسبنَّ هو أي : قبيل المؤمنين ، أو الرسول ، أو حاسب .

أو يكون الضمير عائداً على : " مَنْ خَلفهُمْ " .

وعلى هذه الأقوالِ ، فيجوزُ أن يكون " الذينَ كفرُوا " مفعولاً أول و " سَبَقُوا " جملة في محل نصب مفعولاً ثانياً .

وقيل : الفعلُ مسندٌ إلى " الذينَ كفرُوا " ثم اختلف هؤلاء في المفعولين ، فقال قوم : الأول محذوفٌ تقديره : ولا يَحْسبنَّهم الذين كفروا سبقوا ، ف " هَم " مفعول أول ، و " سَبَقُوا " في محل الثاني : أو يكون التقدير : لا يحسبنَّ الذين كفروا أنفسهم سبقُوا . وهو في المعنى كالذي قبله .

وقال قومٌ : بل " أنْ " الموصولة محذوفة ، وهي وما في حيَّزها سادةٌ مسدَّ المفعولين ، والتقدير : ولا يسحبن الذين كفروا أن سبقُوا ، فحذفت " أنْ " الموصولة وبقيت صلتها ، كقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] وقوله : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] .

قاله الزجاج : والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقونا ، وحذف " أن " الموصولة في القرآن ، وفي كلام العرب كثير ، فأمَّا القرآن فكالآيات ، ومن كلام العربِ : تسمعُ بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه ؛ وقوله : [ الطويل ]

ألاَ أيُّهذا الزَّاجِرِي أحضرُ الوغَى *** . . . {[17429]}

ويؤيد هذا الوجه قراءة{[17430]} عبد الله " أنهم سبقوا " .

وقال قومٌ : بل " سَبَقُوا " في محلِّ نصب على الحال ، والسادُّ مسدَّ المفعولين : { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } ، وتكون " لا " مزيدةً ليصح المعنى .

قال الزمخشري{[17431]} - بعد ذكره هذه الأوجه - " وليست هذه القراءةُ التي تفرَّد بها حمزةُ بنيِّرة " وقد ردَّ عليه جماعةٌ هذا القول ، وقالوا : لم ينفرد بها حمزةُ ، بل وافقه عليها من قُرَّاء السبعة ابنُ عامر أسنُّ القراءة وأعلاهُم إسناداً ، وعاصمُ في رواية حفص ثم هي قراءة أبي جعفر المدني شيخ نافع ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، وابن محيصن وعيسى ، والأعمش ، والحسن البصري ، وأبي رجاء ، وطلحة ، وابن أبي ليلى . وقد ردَّ عليه أبو حيان أيضاً أنَّ " لا يحْسبَنَّ " واقع على " أنهم لا يُعْجِزون " وتكون " لا " صلة ، بأنَّهُ لا يتأتَّى على قراءة حمزة ، فإنَّهُ يقرأ بكسر الهمزة ، يعني فكيف تلتئم قراءةُ حمزة على هذا التخريج ؟ .

قال شهابُ الدِّين{[17432]} : " هو لم يلتزم التخريج على قراءة حمزة في الموضعين ، أعني : " لا يَحْسبنَّ " وقوله : " أنهم لا يعجزون " ، حتى نلزمه ما ذكر " وأما قراءةُ الخطاب فواضحةٌ ، أي : لا تحسبنَّ يا محمدُ ، أو يا سامعُ ، و " الذين كفرُوا " مفعول أول ، والثاني : " سبقوا " ، وقد تقدَّم في آل عمران وجهُ أنه يجوز أن يكون الفاعل الموصول ، وإنَّما أتى بتاءِ التأنيث ، لأنه بمعنى " القوم " ، كقوله :

{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] . وقرأ الأعمش{[17433]} " ولا يَحْسبَ الذينَ كَفَرُوا " بفتح الباء .

وتخريجها على أن الفعل مؤكدٌ بنون التَّوكيد الخفيفة ، فحذفها ؛ لالتقاء الساكنين ، كما يحذفُ له التنوين ؛ فهو كقوله : [ المنسرح ]

لا تُهِينَ الفَقيرَ علَّكَ أنْ *** تَرْكعَ يوماً والدَّهْرُ قد رفعهْ{[17434]}

أي : لا تُهينن ، ونقل بعضهم : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين } من غير توكيدٍ ألبتَّة ، وهذه القراءةُ بكسر الباء ، على أصل التقاء الساكنين .

قوله : " سَبَقُوا " أي : فاتوا . نزلت في الذين انهزموا يوم بدرٍ من المشركين ، فمن قرأ بالياء ، يقول لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا ، ومن قرأ بالتَّاءِ فعلى الخطاب .

قوله { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } قرأ ابن عامر{[17435]} بالفتح ، والباقون بالكسر . فالفتح إمَّا على حذفِ لام العلة ، أي : لأنهم . واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر ، ووجهُ الاستبعادِ أنَّها تعليلٌ للنَّهْي ، أي : لا تحسبنَّهم فائتين ؛ لأنَّهم لا يعجزون ، أي : لا يقع منك حُسبانٌ لفوتهم ؛ لأنَّهم لا يعجزون ، وإمَّا على أنَّها بدلٌ من مفعولي الحسبان .

وقال أبُو البقاء{[17436]} : " إنَّه متعلقٌ ب " حسب " ، إمَّا مفعولٌ ، أو بدلٌ من سَبَقُوا " .

وعلى كلا الوجهين تكون " لا " زائدة " ، وهو ضعيفٌ ، لوجهين :

أحدهما : زيادة " لا " .

والثاني : أن مفعول " حسبن " إذا كان جملة ، وكان مفعولاً ثانياً كانت " إنَّ " فيه مكسورة ؛ لأنَّه موضع ابتداء وخبر .

وقرأ العامة : " لا يُعْجِزُونَ " بنون واحدة خفيفةٍ مفتوحةٍ ، وهي نونُ الرفع . وقرأ ابن{[17437]} مُحَيْصِن " يُعْجِزُوني " بنون واحدة ، بعدها ياء المتكلم ، وهي نون الوقاية ، أو نون الرفع ، وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك في سورة الأنعام في : " أتحاجُّوني " .

قال الزجاج : ألاختيارُ الفتحُ في النُّونِ ، ويجوزُ كسرها ، على أنَّ المعنى : لا يُعجزُونَنِي وتحذف النون الأولى ، لاجتماع النونين " ؛ كما قال عمر بن أبي ربيعة : [ الوافر ]

تَراهُ كالثَّغَامِ يعلُّ مِسْكاً *** يسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْنِي{[17438]}

وقال متمم بنُ نُويرَةَ : [ الكامل ]

ولقَدْ علمْتِ ولا مَحَالَة أنَّنِي *** للحَادِثاتِ فَهَلْ تَرَيْنِي أجْزَعُ{[17439]}

قال الأخفشُ : " فهذا البيتُ يجوز على الاضطرار " . وقرأ ابنُ محيصن{[17440]} أيضاً " يُعجزُونِّ " بنون مشددة مكسورةٍ ، أدغم نون الرفع في نون الوقاية ، وحذف ياء الإضافة مُجْتَزِئاً عنها بالكسرة ، وعنه أيضاً فتحُ العين{[17441]} وتشديدُ الجيم وكسر النون ، مِنْ " عَجَّزَ " مشدداً .

قال أبو جعفرٍ : " وهذا خطأ من وجهين :

أحدهما : أنَّ معنى " عَجّزه " ضعَّفه وضعَّف أمره . والآخر : كان يجب أن يكون بنونين " .

قال شهابُ الدِّين : " أمَّا تخطئة النَّحاس لهُ فخطأٌ ؛ لأن الإتيان بالنُّونين ليس بواجب بل هو جائز ، وقد قرئ به في مواضع في المتواتر ، سيأتي بعضها ، وأمَّا " عجَّز " بالتشديد فليس معناه مقتصراً على ما ذكر ، بل نقل غيره من أهل اللغة أن معناه نسبني إلى العجز ، أو معناه : بَطَّأ ، وثبَّط ، والقراءة معناها لائقٌ بأحد المعنيين " . قرأ طلحة{[17442]} بكسر النون خفيفة .


[17428]:ينظر:/ السبعة ص (307)، الحجة 4/154-155، حجة القراءات ص (312) إعراب القراءات 1/230، إتحاف 2/81-82.
[17429]:تقدم.
[17430]:ينظر: حجة القراءات ص (312) الكشاف 2/231، المحرر الوجيز 2/545، البحر المحيط 4/505-506، الدر المصون 3/429.
[17431]:ينظر: الكشاف 2/231.
[17432]:ينظر: الدر المصون 3/430.
[17433]:ينظر: المحرر الوجيز 2/544، البحر المحيط 4/506، الدر المصون 3/430.
[17434]:تقدم برقم 448.
[17435]:ينظر: حجة القراءات ص (312)، السبعة ص (308)، الحجة للقراء السبعة 4/157، إعراب القراءات 1/230، إتحاف 2/82.
[17436]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 2/9.
[17437]:ينظر: إعراب القراءات 1/230، إتحاف 2/82، الحجة 1/230، الكشاف 2/231، المحرر الوجيز 2/545، البحر المحيط 4/506، الدر المصون 3/430-431.
[17438]:البيت تقدم وهو لعمرو بن معد يكرب ، وليس لعمر بن أبي ربيعة ينظر: الكتاب 3/520 وشرح المفصل 3/91 والهمع 1/95 والعيني 1/379.
[17439]:البيت ينظر: في الوساطة 319 شرح المفضليات للتبريزي 1/164 البحر المحيط 4/506 الدر المصون 3/430.
[17440]:ينظر: البحر المحيط 4/506 الدر المصون 3/431.
[17441]:ينظر: الدر المصون 3/431.
[17442]:انظر السابق.