قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ } الآية .
قرأ ابن{[17428]} عامر وحمزة وحفص عن عاصم " يَحْسبنَّ " بياء الغيبة هنا ، وفي النور في قوله :{ لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ } [ النور : 57 ] كذلك ، خلا حفصاً ، والباقون بتاء الخطابِ ، وفي قراءة الغيبة تخريجاتٌ كثيرة سبق نظائرها في أواخر آل عمران ، ولا بدَّ من التنبيه هنا على ما تقدَّم ، فمنها ، أنَّ الفعل مسندٌ إلى ضميرٍ يُفسِّره السياق ، تقديره : ولا يحسبنَّ هو أي : قبيل المؤمنين ، أو الرسول ، أو حاسب .
أو يكون الضمير عائداً على : " مَنْ خَلفهُمْ " .
وعلى هذه الأقوالِ ، فيجوزُ أن يكون " الذينَ كفرُوا " مفعولاً أول و " سَبَقُوا " جملة في محل نصب مفعولاً ثانياً .
وقيل : الفعلُ مسندٌ إلى " الذينَ كفرُوا " ثم اختلف هؤلاء في المفعولين ، فقال قوم : الأول محذوفٌ تقديره : ولا يَحْسبنَّهم الذين كفروا سبقوا ، ف " هَم " مفعول أول ، و " سَبَقُوا " في محل الثاني : أو يكون التقدير : لا يحسبنَّ الذين كفروا أنفسهم سبقُوا . وهو في المعنى كالذي قبله .
وقال قومٌ : بل " أنْ " الموصولة محذوفة ، وهي وما في حيَّزها سادةٌ مسدَّ المفعولين ، والتقدير : ولا يسحبن الذين كفروا أن سبقُوا ، فحذفت " أنْ " الموصولة وبقيت صلتها ، كقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] وقوله : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] .
قاله الزجاج : والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقونا ، وحذف " أن " الموصولة في القرآن ، وفي كلام العرب كثير ، فأمَّا القرآن فكالآيات ، ومن كلام العربِ : تسمعُ بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه ؛ وقوله : [ الطويل ]
ألاَ أيُّهذا الزَّاجِرِي أحضرُ الوغَى *** . . . {[17429]}
ويؤيد هذا الوجه قراءة{[17430]} عبد الله " أنهم سبقوا " .
وقال قومٌ : بل " سَبَقُوا " في محلِّ نصب على الحال ، والسادُّ مسدَّ المفعولين : { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } ، وتكون " لا " مزيدةً ليصح المعنى .
قال الزمخشري{[17431]} - بعد ذكره هذه الأوجه - " وليست هذه القراءةُ التي تفرَّد بها حمزةُ بنيِّرة " وقد ردَّ عليه جماعةٌ هذا القول ، وقالوا : لم ينفرد بها حمزةُ ، بل وافقه عليها من قُرَّاء السبعة ابنُ عامر أسنُّ القراءة وأعلاهُم إسناداً ، وعاصمُ في رواية حفص ثم هي قراءة أبي جعفر المدني شيخ نافع ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، وابن محيصن وعيسى ، والأعمش ، والحسن البصري ، وأبي رجاء ، وطلحة ، وابن أبي ليلى . وقد ردَّ عليه أبو حيان أيضاً أنَّ " لا يحْسبَنَّ " واقع على " أنهم لا يُعْجِزون " وتكون " لا " صلة ، بأنَّهُ لا يتأتَّى على قراءة حمزة ، فإنَّهُ يقرأ بكسر الهمزة ، يعني فكيف تلتئم قراءةُ حمزة على هذا التخريج ؟ .
قال شهابُ الدِّين{[17432]} : " هو لم يلتزم التخريج على قراءة حمزة في الموضعين ، أعني : " لا يَحْسبنَّ " وقوله : " أنهم لا يعجزون " ، حتى نلزمه ما ذكر " وأما قراءةُ الخطاب فواضحةٌ ، أي : لا تحسبنَّ يا محمدُ ، أو يا سامعُ ، و " الذين كفرُوا " مفعول أول ، والثاني : " سبقوا " ، وقد تقدَّم في آل عمران وجهُ أنه يجوز أن يكون الفاعل الموصول ، وإنَّما أتى بتاءِ التأنيث ، لأنه بمعنى " القوم " ، كقوله :
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] . وقرأ الأعمش{[17433]} " ولا يَحْسبَ الذينَ كَفَرُوا " بفتح الباء .
وتخريجها على أن الفعل مؤكدٌ بنون التَّوكيد الخفيفة ، فحذفها ؛ لالتقاء الساكنين ، كما يحذفُ له التنوين ؛ فهو كقوله : [ المنسرح ]
لا تُهِينَ الفَقيرَ علَّكَ أنْ *** تَرْكعَ يوماً والدَّهْرُ قد رفعهْ{[17434]}
أي : لا تُهينن ، ونقل بعضهم : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين } من غير توكيدٍ ألبتَّة ، وهذه القراءةُ بكسر الباء ، على أصل التقاء الساكنين .
قوله : " سَبَقُوا " أي : فاتوا . نزلت في الذين انهزموا يوم بدرٍ من المشركين ، فمن قرأ بالياء ، يقول لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا ، ومن قرأ بالتَّاءِ فعلى الخطاب .
قوله { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } قرأ ابن عامر{[17435]} بالفتح ، والباقون بالكسر . فالفتح إمَّا على حذفِ لام العلة ، أي : لأنهم . واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر ، ووجهُ الاستبعادِ أنَّها تعليلٌ للنَّهْي ، أي : لا تحسبنَّهم فائتين ؛ لأنَّهم لا يعجزون ، أي : لا يقع منك حُسبانٌ لفوتهم ؛ لأنَّهم لا يعجزون ، وإمَّا على أنَّها بدلٌ من مفعولي الحسبان .
وقال أبُو البقاء{[17436]} : " إنَّه متعلقٌ ب " حسب " ، إمَّا مفعولٌ ، أو بدلٌ من سَبَقُوا " .
وعلى كلا الوجهين تكون " لا " زائدة " ، وهو ضعيفٌ ، لوجهين :
والثاني : أن مفعول " حسبن " إذا كان جملة ، وكان مفعولاً ثانياً كانت " إنَّ " فيه مكسورة ؛ لأنَّه موضع ابتداء وخبر .
وقرأ العامة : " لا يُعْجِزُونَ " بنون واحدة خفيفةٍ مفتوحةٍ ، وهي نونُ الرفع . وقرأ ابن{[17437]} مُحَيْصِن " يُعْجِزُوني " بنون واحدة ، بعدها ياء المتكلم ، وهي نون الوقاية ، أو نون الرفع ، وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك في سورة الأنعام في : " أتحاجُّوني " .
قال الزجاج : ألاختيارُ الفتحُ في النُّونِ ، ويجوزُ كسرها ، على أنَّ المعنى : لا يُعجزُونَنِي وتحذف النون الأولى ، لاجتماع النونين " ؛ كما قال عمر بن أبي ربيعة : [ الوافر ]
تَراهُ كالثَّغَامِ يعلُّ مِسْكاً *** يسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْنِي{[17438]}
وقال متمم بنُ نُويرَةَ : [ الكامل ]
ولقَدْ علمْتِ ولا مَحَالَة أنَّنِي *** للحَادِثاتِ فَهَلْ تَرَيْنِي أجْزَعُ{[17439]}
قال الأخفشُ : " فهذا البيتُ يجوز على الاضطرار " . وقرأ ابنُ محيصن{[17440]} أيضاً " يُعجزُونِّ " بنون مشددة مكسورةٍ ، أدغم نون الرفع في نون الوقاية ، وحذف ياء الإضافة مُجْتَزِئاً عنها بالكسرة ، وعنه أيضاً فتحُ العين{[17441]} وتشديدُ الجيم وكسر النون ، مِنْ " عَجَّزَ " مشدداً .
قال أبو جعفرٍ : " وهذا خطأ من وجهين :
أحدهما : أنَّ معنى " عَجّزه " ضعَّفه وضعَّف أمره . والآخر : كان يجب أن يكون بنونين " .
قال شهابُ الدِّين : " أمَّا تخطئة النَّحاس لهُ فخطأٌ ؛ لأن الإتيان بالنُّونين ليس بواجب بل هو جائز ، وقد قرئ به في مواضع في المتواتر ، سيأتي بعضها ، وأمَّا " عجَّز " بالتشديد فليس معناه مقتصراً على ما ذكر ، بل نقل غيره من أهل اللغة أن معناه نسبني إلى العجز ، أو معناه : بَطَّأ ، وثبَّط ، والقراءة معناها لائقٌ بأحد المعنيين " . قرأ طلحة{[17442]} بكسر النون خفيفة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.