قوله تعالى : { إذ قالت امرأة عمران } وهي حنة بنت فاقوذا أم مريم ، وعمران هو عمران بن ماثان وليس بعمران أبي موسى عليه السلام وبينهما ألفا وثمانمائة سنة ، وقيل كان بين إبراهيم وموسى عليهما السلام ألف سنة ، وبين موسى وعيسى عليهما السلام ألفا سنة ، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم ، وقيل عمران بن أشهم .
قوله تعالى : { رب إني نذرت لك ما في بطني محررا } أي جعلت لك الذي في بطني محرراً نذراً مني لك .
قوله تعالى : { فتقبل مني إنك أنت السميع العليم } . والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه ، محرراً أي عتيقاً خالصاً لله مفرغاً لعباده الله ولخدمة الكنيسة ، لا أشغله بشيء من الدنيا . وكل ما أخلص فهو محرر يقال : حررت العبد إذا أعتقته وخلصته من الرق . قال الكلبي محمد بن إسحاق وغيرهما : كان المحرر إذا حرر جعل في الكنيسة يقوم عليها ويكنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم ، ثم يخير أن أحب أقام فيه ، وإن أحب ذهب حيث شاء ، وإن أراد أن يخرج بعد التخيير لم يكن له ذلك ، ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلا من نسله محرر لبيت المقدس ، ولم يكن محرراً إلا الغلمان ، ولا تصلح له الجارية لما يصيبها من الحيض والأذى ، فحررت أم مريم ما في بطنها .
وكانت القصة في ذلك أن زكريا وعمران تزوجا أختين وكانت إيشاع بنت قافوذا أم يحيى عند زكريا ، وكانت حنة بنت قافوذا أم مريم عند عمران ، وكان قد أمسك عن حنة الولد حتى أسنت وكانوا أهل بيت من الله بمكان ، فبينما هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخاً فتحركت بذلك نفسها للولد فدعت الله أن يهب لها ولداً وقالت : اللهم لك علي إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه ، فحملت بمريم ، فحررت ما في بطنها ولم تعلم ما هو ؟ فقال لها زوجها : ويحك ما صنعت ؟ أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى لا تصلح لذلك ؟ فوقعاً جميعاً في هم من ذلك فهلك عمران وحنة حامل بمريم .
ولما ذكر فضائل هذه البيوت الكريمة ذكر ما جرى لمريم والدة عيسى وكيف لطف الله بها في تربيتها ونشأتها ، فقال : { إذ قالت امرأة عمران } أي : والدة مريم لما حملت { رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا } أي : جعلت ما في بطني خالصا لوجهك ، محررا لخدمتك وخدمة بيتك { فتقبل مني } هذا العمل المبارك { إنك أنت السميع العليم } تسمع دعائي وتعلم نيتي وقصدي ، هذا وهي في البطن قبل وضعها .
ثم حكى سبحانه ما قالته امرأة عمران عندما أحست بعلامات الحمل فقال تعالى : { إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي } والظرف " إذا " في محل النصب على المفعولية بفعل محذوف والتقدير : أذر لهم وقت قولها رب إنى نذرت . . . ألخ . وقيل هو متعلق بقوله { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أى أنه - سبحانه - يعلم علم ما يسمع في الوقت الذي قالت فيه امرأة عمران ذلك القول .
وامرأة عمران هذه هى " حنة " بنت فاقوذا بن قنبل وهى أم مريم وجدة عيسى عليه السلام وعمران هذا هو زوجها ، وهو أبو مريم .
وقوله { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } من النذر وهو التزام التقرب إلى الله - تعالى - بأمر من جنس العبادات التي شرعها - سبحانه - لعباده ليتقربوا بها إليه .
وقوله { نَذَرْتُ } أى عتيقا مخلصا للعبادة متفرغا من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس . يقال : حررت العبد إذا خلصته من الرق وحررت الكتابة إذا أصلحته ولم تبق فيه شيئاً من وجوه الخطأ ، ورجل حر إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه سلطان .
والمعنى : اذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن لجأت امرأة عمران إلى ربها تدعوه بضراعة وخشوع فتقول : يا رب إني نذرت لخدمة بيتك هذا الجنين الذى في بطني مخلصا لعبادتك متفرغا لطاعتك فتقبل منى هذا النذر الخالص ، وتلك النية الصادقة ، { إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } لقولي ولأقوال خلقك { العليم } بنيتى وبنوايا سائر عبادك .
فأنت ترى في هذا الدعاء الخاشع الذى حكاه القرآن عن امرأة عمران أسمى ألوان الأدب والإخلاص ، فقد توجهت إلى ربها بأعز ما تملك وهو الجنين الذى في بطنها ، ملتمسة منه - سبحانه - أن يقبل نذرها الذى وهبته لخدمة بيته ، واللام في قوله " لك " للتعليل أى نذرت لخدمة بيتك .
وقوله { مُحَرَّراً } حال من " ما " والعامل فيه " نذرت " .
قال بعضهم : " وكان هذا النذر يلزم في شريعتهم فكان المحرر عندهم إذا حرر جعل في الكنيسة يخدمها ولا يبرح مقيما فيها حتى يبلغ الحلم ، ثم يتخير فإن أحب ذهب حيث شاء ، وإن اختار الإقامة لا يجوز له بعد ذلك الخروج . ولم يكن أحد من أنبياء بنى إسرائيل وعلمائهم إلا ومن أولاده من حرر لخدمة بيت المقدس ولم يكن يحرر إلا العلمان ، ولا تصلح الجارية لخدمة بيت المقدس لما يصيبها من الحيض والأذى " . وجملة { إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } تعليلية لاستدعاء القبول ، من حيث أن علمه - سبحانه - بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لقبول نذرها تفضلا منه وكرما .
ومن هذا الإعلان التمهيدي ينتقل السياق مباشرة إلى آل عمران ومولد مريم :
( إذ قالت امرأة عمران : رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم . فلما وضعتها قالت : رب : إني وضعتها أنثى - والله أعلم بما وضعت - وليس الذكر كالأنثى ، وإني سميتها مريم ؛ وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم . فتقبلها ربها بقبول حسن ، وأنبتها نباتا حسنا ، وكفلها زكريا . كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا . قال : يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) . .
وقصة النذر تكشف لنا عن قلب " امرأة عمران " - أم مريم - وما يعمره من إيمان ، ومن توجه إلى ربها بأعز ما تملك . وهو الجنين الذي تحمله في بطنها . خالصا لربها ، محررا من كل قيد ومن كل شرك ومن كل حق لأحد غير الله سبحانه . والتعبير عن الخلوص المطلق بأنه تحرر تعبير موح . فما يتحرر حقا إلا من يخلص لله كله ، ويفر إلى الله بجملته وينجو من العبودية لكل أحد ولك شيء ولكل قيمة ، فلا تكون عبوديته إلا لله وحده . . فهذا هو التحرر إذن . . وما عداه عبودية وإن تراءت في صورة الحرية !
ومن هنا يبدو التوحيد هو الصورة المثلى للتحرر . فما يتحرر إنسان وهو يدين لأحد غير الله بشيء ما في ذات نفسه ، أو في مجريات حياته ، أو في الأوضاع والقيم والقوانين والشرائع التي تصرف هذه الحياة . . لا تحرر وفي قلب الإنسان تعلق أو تطلع أو عبودية لغير الله . وفي حياته شريعة أو قيم أو موازين مستمدة من غير الله . وحين جاء الإسلام بالتوحيد جاء بالصورة الوحيدة للتحرر في عالم الإنسان . .
وهذا الدعاء الخاشع من امرأة عمران ، بأن يتقبل ربها منها نذرها - وهو فلذة كبدها - ينم عن ذلك الإسلام الخالص لله ، والتوجه إليه كلية ، والتحرر من كل قيد ، والتجرد إلا من ابتغاء قبوله ورضاه :
( رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني . إنك أنت السميع العليم ) . .
امرأة عمران هذه أم مريم [ بنت عمران ]{[4951]} عليها السلام{[4952]} وهي حَنَّة بنت فاقوذ ، قال محمد بن إسحاق : وكانت امرأة لا تحمل ، فرأت يوما طائرًا يَزُقُّ فرخه ، فاشتهت الولد ، فدعت الله ، عز وجل ، أن يهبها ولدا ، فاستجاب الله دعاءها ، فواقعها زوجها ، فحملت منه ، فلما تحققت الحمل نذرته أن يكون { مُحَرَّرًا } أي : خالصا مفرغا للعبادة ، ولخدمة بيت المقدس ، فقالت : { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : السميع لدعائي ، العليم بِنيتي ، ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكرا أم أنثى ؟
{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّراً فَتَقَبّلْ مِنّي إِنّكَ أَنتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا فَتَقَبّلْ مِنّي } ف«إذْ » من صلة «سميع » . وأما امرأة عمران ، فهي أمّ مريم ابنة عمران أم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه ، وكان اسمها فيما ذكر لنا حنة ابنة فاقوذ بن قتيل . كذلك :
حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في نسبه . وقال غير ابن حميد : ابنة فاقود بالدال ابن قتيل .
فأما زوجها فإنه عمران بن ياشهم بن آمنون بن منشا بن حزقيا بن أحريق بن يويم بن عزاريا بن أمصيا بن ياوش بن احريهو بن يازم بن يهفاشاط بن اشابرابان بن رحبعم بن سليمان بن داود بن إيشا . كذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، في نسبه .
وأما قوله : { رَبّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطنِي مُحَرّرا } فإن معناه : إني جعلت لك يا ربّ نذرا أن لك الذي في بطني محرّرا لعبادتك ، يعني بذلك : حبسته على خدمتك وخدمة قدسك في الكنيسة ، عتيقة من خدمة كل شيء سواك ، مفرغة لك خاصة . ونصب «محرّرا » على الحال من «ما » التي بمعنى «الذي » . { فَتَقَبّلْ مِنّي } أي فتقبل مني ما نذرت لك يا ربّ . { إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ العّلِيمُ } يعني : إنك أنت يا ربّ السميع لما أقول وأدعو ، العليم لما أنوي في نفسي وأريد ، لا يخفى عليك سرّ أمري وعلانيته . وكان سبب نذر حنة ابنة فاقوذ امرأة عمران الذي ذكره الله في هذه الاَية فيما بلغنا ، ما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : تزوّج زكريا وعمران أختين ، فكانت أمّ يحيى عند زكريا ، وكانت أمّ مريم عند عمران ، فهلك عمران وأمّ مريم حامل بمريم ، فهي جنين في بطنها . قال : وكانت فيما يزعمون قد أمسك عنها الولد حتى أسنّت ، وكانوا أهل بيت من الله جل ثناؤه بمكان . فبينا هي في ظلّ شجرة نظرت إلى طائر يطعم فرخا له ، فتحرّكت نفسها للولد ، فدعت الله أن يهب لها ولدا ، فحملت بمريم وهلك عمران . فلما عرفت أن في بطنها جنينا ، جعلته لله نذيرة¹ والنذيرة أن تعبّده لله ، فتجعله حبسا في الكنيسة ، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : ثم ذكر امرأة عمران ، وقولها : { رَبّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } أي نذرته ، تقول : جعلتُه عتيقا لعبادة الله لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا . { فَتَقَبّلْ مِنّي إنكَ أنتَ السّمِيعُ العَلِيمُ } .
حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطّفاوي ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، قال : حدثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد في قوله : { مُحَرّرا } قال : خادما للبِيعة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد ، قال : خادما للكنيسة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا إسماعيل ، عن الشعبي في قوله : { إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } قال : فرّغته للعبادة .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي في قوله : { إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } قال : جعلته في الكنيسة ، وفرّغته للعبادة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن إسماعيل ، عن الشعبي ، نحوه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } قال : للكنيسة يخدمها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد : { إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } قال : خالصا لا يخالطه شيء من أمر الدنيا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : { إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } قال : للبيعة والكنيسة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : { إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } قال : محرّرا للعبادة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } . . . الاَية . كانت امرأة عمران حرّرت لله ما في بطنها ، وكانوا إنما يحررون الذكور ، وكان المحرر إذا حرّر جعل في الكنيسة لا يبرحها ، يقوم عليها ويكنسها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } قال : نذرت ولدها للكنيسة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { إذْ قَالَتِ امْرأةُ عِمْرَانَ رَبّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا فَتَقَبّلْ مِنّي إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ } قال : وذلك أن امرأة عمران حملت ، فظنت أن ما في بطنها غلام ، فوهبته لله لا يعمل في الدنيا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : كانت امرأة عمران حرّرت لله ما في بطنها . قال : وكانوا إنما يحرّرون الذكور ، فكان المحرّر إذا حرر جعل في الكنيسة لا يبرحها ، يقوم عليها ويكنسها .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك في قوله : { إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } قال : جعلت ولدها لله وللذين يدرسون الكتاب ويتعلمونه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزة أنه أخبره عن عكرمة وأبي بكر ، عن عكرمة : أن امرأة عمران كانت عجوزا عاقرا تسمى حنة ، وكانت لا تلد . فجعلت تغبط النساء لأولادهن ، فقالت : اللهمّ إن علي نذرا شكرا إن رزقتني ولدا أن أتصدّق به على بيت المقدس ، فيكون من سَدَنته وخدامه . قال : وقوله : { نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا } إنها للحرّة ابنة الحرائر محرّرا للكنيسة يخدمها .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ } . . . الاَية كلها ، قال : نذرت ما في بطنها ثم سَيّبَتْها .
واختلف الناس{[3104]} في العامل في قوله { إذ قالت } فقال أبو عبيدة معمر : { إذ } زائدة ، وهذا قول مردود ، وقال المبرد والأخفش : العامل فعل مضمر تقديره ، اذكر إذ وقال الزجاج : العامل معنى الاصطفاء ، التقدير : واصطفى آل عمران إذ :
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا القول يخرج عمران من الاصطفاء ، وقال الطبري ما معناه : إن العامل في { إذ } قوله { سميع } و { امرأة عمران } اسمها حنة بنت قاذوذ فيما ذكر الطبري عن ابن إسحاق ، وهي أم مريم بنت عمران ، ومعنى قوله : { نذرت لك ما في بطني محرراً } أي جعلت نذراً أن يكون هذا الولد الذي في بطني حبيساً على خدمة بيتك محرراً من كل خدمة وشغل من أشغال الدنيا ، أي عتيقاً من ذلك فهو من لفظ الحرية ، ونصبه على الحال ، قال مكي : فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدره ، غلاماً محرراً ، وفي هذا نظر{[3105]} ، والبيت الذي نذرته له هو بيت المقدس .
قال ابن إسحاق{[3106]} : كان سبب نذر حنة لأنها كانت قد أمسك عنها الولد حتى أسنت فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائراً يزق فرخاً له فتحركت نفسها للولد فدعت الله أن يهب لها ولداً فحملت بمريم وهلك عمران ، فلا علمت أن في بطنها جنيناً جعلته نذيرة لله ، أن يخدم الكنيسة لا ينتفع به في شيء من أمر الدنيا ، وقال مجاهد : { محرراً } معناه خادماً للكنيسة وقال مثله الشعبي وسعيد بن جبير ، وكان هذا المعنى من التحرير للكنائس عرفاً في الذكور خاصة ، وكان فرضاً على الأبناء التزام ذلك{[3107]} ، فقالت { ما في بطني } ولم تنص على ذكورته لمكان الإشكال ، ولكنها جزمت الدعوة رجاء منها أن يكون ذكراً ، وتقبل الشيء وقبوله أخذه حيث يتصور الأخذ والرضى به في كل حال ، فمعنى قولها { فتقبل مني } أي ارضَ عني في ذلك واجعله فعلاً مقبولاً مجازى به ، والسميع ، إشارة إلى دعائها العليم إشارة إلى نيتها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إذ قالت امرأت عمران}: وهي أم مريم، وهي حبلى، لئن نجاني الله عز وجل ووضعت ما في بطني، لأجعلنه محررا، والمحرر: الذي لا يعمل للدنيا... ويعمل للآخرة، ويلزم المحراب: فيعبد الله عز وجل فيه، ولم يكن يحرر في ذلك الزمان إلا الغلمان، فقال زوجها: أرأيت إن كان الذي في بطنك أنثى؟ كيف تصنعين؟ فاهتمت لذلك، فقالت: {رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم} لدعائهما، العليم بنذرهما، يعنى بالتقبل والاستجابة لدعائهما...
قوله تعالى: {إني نذرت لك ما في بطني محررا} [آل عمران: 35]. 213- ابن العربي: قال أشهب عن مالك: جعلته نذرا تفي به...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا فَتَقَبّلْ مِنّي}: ف«إذْ» من صلة «سميع». وأما امرأة عمران، فهي أمّ مريم ابنة عمران أم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، فأما زوجها فإنه عمران. {رَبّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطنِي مُحَرّرا}: إني جعلت لك يا ربّ نذرا أن لك الذي في بطني محرّرا لعبادتك، يعني بذلك: حبسته على خدمتك وخدمة قدسك في الكنيسة، عتيقة من خدمة كل شيء سواك، مفرغة لك خاصة. وكانوا إنما يحرّرون الذكور، فكان المحرّر إذا حرر جعل في الكنيسة لا يبرحها، يقوم عليها ويكنسها. {فَتَقَبّلْ مِنّي}: فتقبل مني ما نذرت لك يا ربّ. {إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ العّلِيمُ}: إنك أنت يا ربّ السميع لما أقول وأدعو، العليم لما أنوي في نفسي وأريد، لا يخفى عليك سرّ أمري وعلانيته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا} لما أخبر جل وعلا أنه اصطفى آل عمران، واختارهم على سائر العالمين، وكان أقل ما في صفوته واختياره أن جعلت امرأة عمران ما في بطنها محررا، والمحرر هو العتيق عن المعاش بالعبادة،... المحرر: هو الذي يعبد الله خالصا مطيعا، لا يشغله شيء عن عبادته فارغا لذلك، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه... الواجب على كل أحد أنه إذا طلب ولدا أن يطلب للوجه الذي طلبت المرأة عمران وزكريا حين {قال رب هب لي من لدنك ذرية طبية} [آل عمران: 38] وما سأل إبراهيم عليه السلام: {رب هب لي من الصالحين} [الصافات: 100] كقوله: {ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا} الآية [الفرقان: 74]...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لما قالت {إني نَذَرْتُ لَكَ مَا في بطني مُحَرَّرًا} قالت {فَتَقَبَّلْ مِنِّى} فاستجاب، وظهرت آثار القبول عليها وعلى ابنها، ونجا بحديثها عَالَمٌ وَهَلَكَ بسببها عَالَمٌ، ووقعت الفتنة لأجلهما في عَالَم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والبيت الذي نذرته له هو بيت المقدس...
فقالت {ما في بطني} ولم تنص على ذكورته لمكان الإشكال، ولكنها جزمت الدعوة رجاء منها أن يكون ذكراً، وتقبل الشيء وقبوله أخذه حيث يتصور الأخذ والرضى به في كل حال، فمعنى قولها {فتقبل مني} أي ارضَ عني في ذلك واجعله فعلاً مقبولاً مجازى به، والسميع، إشارة إلى دعائها العليم إشارة إلى نيتها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان جل المقصود هنا بيان الكرامات في آل عمران لا سيما في الولادة، وكان آدم الممثل به عليه الصلاة والسلام قد تقدم بيان أمره في سورة البقرة سورة الكتاب المثمر للعلم، وكذا بيان كثير مما اصطفى به إبراهيم وآله عليهم الصلاة والسلام إذ كان معظم القصد بالكلام لذريته، وكان معظم المقصود من ذكر نوح عليه الصلاة والسلام كونه في عمود النسب، وليس في أمر ولادته ما هو خارج عن العادة قال طاوياً لمن قبل: {إذ} أي اذكر جواباً لمن يجادلك في أمرهم ويسألك عن حالهم حين {قالت امرأة عمران} وهي حامل.
وقال الحرالي: لما كان من ذكر في الاصطفاء إنما ذكر توطئة لأمر عيسى عليه الصلاة والسلام اختص التفصيل بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام دون سائر من ذكر معه، وكان في هذه المناظرة بين الصورتين حظ من التكافؤ من حيث ذكر أمر خلق آدم عليه الصلاة والسلام في سورة البقرة، فذكر خلق المثل المناظر له في السورة المناظرة لسورة البقرة وهي هذه السورة، فعاد توقيت هذا القول إلى غاية هذا الاصطفاء، فأنبأ عن ابتداء ما اختص منه بعيسى عليه الصلاة والسلام من قول أم مريم امرأة عمران حين أجرى على لسانها وأخطر بقلبها أن تجعل ما في بطنها نذراً، ففصل ما به ختم من اصفطاء آل عمران، ولذلك عرفت أم مريم في هذا الخطاب بأنها امرأة عمران ليلتئم التفصيل بجملته السابقة {رب إني نذرت لك ما في بطني} وكان نذر الولد شائعاً في بني إسرائيل إلا أنه كان عندهم معهوداً في الذكور لصلاحهم لسدانة بيت الله والقيام به، فأكمل الله سبحانه وتعالى مريم لما كمل له الرجال -كما قال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع "فذكر مريم بنت عمران عليها السلام، فكان من كمالها خروج والدتها عنها، وكان أصله من الأم التي لها الإشفاق، فكان خروجها أكمل من خروج الولد لأنها لها في زمن الحمل والرضاع والتربية إلى أن يعقل الولد أباه فحينئذ يترقى إلى حزب أبيه، ولذلك- والله سبحانه وتعالى أعلم -أري إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح ولده عند تمييزه، وخرجت امرأة عمران عن حملها وهو في بطنها حين ما هو أعلق بها- انتهى. ونذرته لله تعالى حال كونه {محرراً} أي لا اعتراض ولا حكم لأحد من الخلق عليه، قال الحرالي: والتحرير طلب الحرية، والحرية رفع اليد عن الشيء من كل وجه، وفي الإتيان بصيغة التكثير والتكرير إشعار بمضي العزيمة في قطع الولاية عنه بالكلية لتسلم ولايته لله تعالى -انتهى. {فتقبل مني} ولما كان حسن إجابة المهتوف به الملتجأ إليه على حسب إحاطة سمعه وعلمه عللت سؤالها في التقبل بأن قصرت السمع والعلم عليه سبحانه فقالت: {إنك أنت} أي وحدك {السميع العليم} فقالت كما قال سلفها إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام {ربنا تقبل منا} [البقرة: 127]، أي فلا يسمع أحد قولي مثل سمعك، ولا يعلم أحد نيتي مثل علمك ولا أنا، فإن كان فيهما شيء لا يصلح فتجاوز عنه..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقصة النذر تكشف لنا عن قلب "امرأة عمران "-أم مريم- وما يعمره من إيمان، ومن توجه إلى ربها بأعز ما تملك. وهو الجنين الذي تحمله في بطنها. خالصا لربها، محررا من كل قيد ومن كل شرك ومن كل حق لأحد غير الله سبحانه. والتعبير عن الخلوص المطلق بأنه تحرر تعبير موح. فما يتحرر حقا إلا من يخلص لله كله، ويفر إلى الله بجملته وينجو من العبودية لكل أحد ولك شيء ولكل قيمة، فلا تكون عبوديته إلا لله وحده.. فهذا هو التحرر إذن.. وما عداه عبودية وإن تراءت في صورة الحرية!... ومن هنا يبدو التوحيد هو الصورة المثلى للتحرر. فما يتحرر إنسان وهو يدين لأحد غير الله بشيء ما في ذات نفسه، أو في مجريات حياته، أو في الأوضاع والقيم والقوانين والشرائع التي تصرف هذه الحياة.. لا تحرر وفي قلب الإنسان تعلق أو تطلع أو عبودية لغير الله. وفي حياته شريعة أو قيم أو موازين مستمدة من غير الله. وحين جاء الإسلام بالتوحيد جاء بالصورة الوحيدة للتحرر في عالم الإنسان...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ومعنى هذا أنها التزمت بأن تقدم جنينها ووليدها، الذي هو فلذة كبدها، إلى المعبد، هبة لله، وقربة إليه ابتغاء مرضاته، وذلك لما هي عليه من التقوى والنسك والتجرد لله، غير أن في تعبيرها كلمة جديرة بالتعليق ولفت النظر، ألا وهي كلمة (محررا) بعد قولها {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} فهذه الكلمة تعني عزم امرأة عمران بنية صادقة على أن تجعل جنينها ووليدها (محررا) من كل التكاليف العادية، والالتزامات العائلية واليومية، حتى يكرس حياته كلها لعبادة الله دون شاغل يشغله، لا من أمر نفسه ولا من أمر عائلته، كما تعني هذه الكلمة أن امرأة عمران تتمنى على الله أن يكون جنينها ووليدها عبدا خالصا لله، محررا من كل رق أو خضوع لسواه، بحيث لا يسلم وجهه إلا إليه، ولا يعتمد إلا عليه، إذ إن التعبد لله على وجهه الصحيح هو التحرر الكامل، نفسيا وأخلاقيا...