{ 34-35 } { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ }
يخبر تعالى عن حال الكفار الفظيعة عند عرضهم على النار التي كانوا يكذبون بها وأنهم يوبخون ويقال لهم : { أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ } فقد حضرتموه وشاهدتموه عيانا ؟ { قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } فاعترفوا بذنبهم وتبين كذبهم { قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } أي : عذابا لازما دائما كما كان كفركم صفة لازمة .
ثم كرر - سبحانه - التذكير للناس بأحوال الكافرين يوم الحساب ليعتبروا ويتعظوا فقال : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار } أى : واذكر - أيها العاقل - يوم يلقى الذين كفروا فى النار ، بعد مشاهدتها ورؤيتها . .
ثم يقال لهم على سبيل الزجر والتهكم { أَلَيْسَ هذا بالحق } أى : أليس هذا العذاب كنتم تنكرونه فى الدنيا . قد ثبت عليكم ثبوتا لا مفر لكم منه ، ولا محيد لكم عنه . .
{ قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا } أى : قالوا فى الجواب . . بلى يا ربنا إن هذا العذاب حق ، وإنكارنا له فى الدنيا إنما كان عن جهل وغفلة وغرور منا . .
فهم قد اعترفوا بأن الحساب حق ، الجزاء حق . . فى وقت لا ينفع فيه الاعتراف .
ولذا جاء الرد عليهم بقوله - تعالى - : { قَالَ } - سبحانه - { فَذُوقُواْ العذاب } أى : فتذوقوا طعمه الأليم ، ووقعه المهين { بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أى : بسبب كفركم وجحودكم .
وعند ذكر الإحياء يرتسم مشهد الحساب كأنه شاخص للعيون :
( ويوم يعرض الذين كفروا على النار . أليس هذا بالحق ? قالوا : بلى وربنا . قال : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) . .
يبدأ المشهد حكاية أو مقدمة لحكاية : ( ويوم يعرض الذين كفروا على النار ) . .
وبينما السامع في انتظار وصف ما سيكون ، إذا المشهد يشخص بذاته . وإذا الحوار قائم في المشهد المعروض :
ويا له من سؤال ? بل يا لها من قارعة للذين كانوا يكذبون ويستهزئون ويستعجلون ، واليوم تتلوى أعناقهم على الحق الذي كانوا ينكرون .
والجواب في خزي وفي مذلة وفي ارتياع :
هكذا هم يقسمون : ( وربنا ) . . ربهم الذي كانوا لا يستجيبون لداعيه ، ولا يستمعون لنبيه ولا يعترفون له بربوبية . ثم هم اليوم يقسمون به على الحق الذي أنكروه !
عندئذ يبلغ السؤال غاية من الترذيل والتقريع ، ويقضى الأمر ، وينتهي الحوار :
( قال : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) . .
[ كلمة ورد غطاها ] . . كما يقال ! الجريمة ظاهرة . الجاني معترف . فإلى الجحيم !
وسرعة المشهد هنا مقصودة . فالمواجهة حاسمة ، ولا مجال لأخذ ولا رد . لقد كانوا ينكرون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الّذِينَ كَفَرُواْ عَلَىَ النّارِ أَلَيْسَ هََذَا بِالْحَقّ قَالُواْ بَلَىَ وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ويوم يعرض هؤلاء المكذّبون بالبعث ، وثواب الله عباده على أعمالهم الصالحة ، وعقابه إياهم على أعمالهم السيئة ، على النار ، نار جهنم ، يقال لهم حينئذٍ : أليس هذا العذاب الذي تعذّبونه اليوم ، وقد كنتم تكذّبون به في الدنيا بالحقّ ، توبيخا من الله لهم على تكذيبهم به ، كان في الدنيا قالُوا بَلى وَرَبّنا يقول : فيجيب هؤلاء الكفرة من فورهم بذلك ، بأن يقولوا بلى هو الحقّ والله قال : فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ يقول : فقال لهم المقرّر بذلك : فذوقوا عذاب النار الاَن بما كنتم تجحدونه في الدنيا ، وتنكرونه ، وتأبَون الإقرار إذا دُعيتم إلى التصديق به .
موقع هذا الكلام أن عرض المشركين على النار من آثار الجزاء الواقع بعد البعث ، فلما ذكر في الآية التي قبلها الاستدلال على إمكان البعث أعقب بما يحصل لهم يوم البعث جمعاً بين الاستدلال والإنذار ، وذكر من ذلك ما يقال لهم مما لا ممندوحة لهم عن الاعتراف بخطئهم جمعاً بين ما رُدّ به في الدنيا من قوله : { بلى } [ الأحقاف : 33 ] وما يُردون في علم أنفسهم يوم الجزاء بقولهم : { بلى وربنا } . والجملة عطف على جملة { أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض } [ الأحقاف : 33 ] الخ . وأول الجملة المعطوفة قوله : { أليسَ هذا بالحق } لأنه مقول فعل قول محذوف تقديره : ويُقال للذين كفروا يوم يعرضون على النار .
وتقديم الظرف على عامله للاهتمام بذكر ذلك اليوممِ لزيادة تقريره في الأذهان .
وذِكر { الذين كفروا } إظهار في مقام الإضمار للإيماء بالموصول إلى علة بناء الخبر ، أي يقال لهم ذلك لأنهم كفروا . والإشارة إلى عذاب النار بدليل قوله بعده { قال فذوقوا العذاب } . والحق : الثابت .
والاستفهام تقريري وتنديمٌ على ما كانوا يزعمون أن الجزاء باطل وكَذب ، وقالوا { وما نحن بمعذبين } [ الصافات : 59 ] ، وإنما أقسموا على كلامهم بقسم { وربّنا } قسماً مستعملاً في الندامة والتغليظ لأنفسهم وجعلوا المقسم به بعنوان الرب تَحَنُّناً وتخضُّعاً . وفرع على إقرارهم { فذوقوا العذاب } . والذوق مجاز في الإحساس . والأمر مستعمل في الإهانة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويوم يعرض هؤلاء المكذّبون بالبعث، وثواب الله عباده على أعمالهم الصالحة، وعقابه إياهم على أعمالهم السيئة، على النار، نار جهنم، يقال لهم حينئذٍ: أليس هذا العذاب الذي تعذّبونه اليوم، وقد كنتم تكذّبون به في الدنيا بالحقّ، توبيخا من الله لهم على تكذيبهم به، كان في الدنيا قالُوا بَلى وَرَبّنا يقول: فيجيب هؤلاء الكفرة من فورهم بذلك، بأن يقولوا بلى هو الحقّ والله قال:"فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ" يقول: فقال لهم المقرّر بذلك: فذوقوا عذاب النار الاَن بما كنتم تجحدونه في الدنيا، وتنكرونه، وتأبَون الإقرار إذا دُعيتم إلى التصديق به...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
مرة قيل لهم: {ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم ويُنذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى} [الزمر: 71] ومرة قيل لهم: {أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا} نقض هذا عليهم يومئذ ليعترفوا بالذي كانوا يُنكرون في الدنيا، لأنهم كانوا ينكرون في الدنيا الرسل والآيات، وكانوا ينكرون كون البعث وعذابه، فيُعرَضون على النار، فيقال لهم: هذا الذي وُعدتم في الدنيا {أليس هذا الحق} فيعترفون، ويقولون: {بلى وربنا} فيقال لهم: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} في الدنيا، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أي يقال لهم على وجه الاحتجاج عليهم أليس هذا الذي جزيتم به حق لا ظلم فيه لأنكم شاهدتموه الآن "قالوا بلى وربنا "فيحلفون على ذلك، فيقال لهم عند ذلك "ذوقوا العذاب" جزاء "بما كنتم تكفرون" أي بما كنتم تجحدون من نعمه وتنكرون من وحدانيته...
واعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة على صحة القول بالحشر والنشر ذكر بعض أحوال الكفار فقال: {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} فقوله {أليس هذا بالحق} التقدير يقال لهم أليس هذا بالحق والمقصود التهكم بهم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله ووعيده، وقولهم {وما نحن بمعذبين}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ويوم} أي و- اذكر يوم {يعرض} بأيسر أمر من أوامرنا {الذين كفروا} أي ستروا بغفلتهم وتماديهم عليه هذه الأدلة الظاهرة {على النار} عرض الجند على الملك فيسمعوا من تغيظها وزفيرها ويروا من لهيبها واضطرامها وسعيرها ما لو قدر أن أحداً يموت من ذلك لماتوا من معاينته وهائل رؤيته. ولما كان كأنه قيل: ماذا يصنع بهم في حال عرضهم؟ قيل: يقال على سبيل التبكيت والتقريع والتوبيخ: {أليس هذا} أي الأمر العظيم الذي كنتم به توعدون ولرسلنا في أخبارهم تكذبون {بالحق} أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، فلا قدرة لكم على صليه أمر هو خيال وسحر، فلا تبالون بوروده... {قالوا} أي مصدقين حيث لا ينفع التصديق: {بلى} و- ما كفاهم البدار إلى تكذيب أنفسهم حتى أقسموا عليه لأن حالهم كان مباعداً للإقرار، وذكروا صفة الإحسان زيادة في الخضوع والإذعان {وربنا} أي إنه لحق هو من أثبت الأشياء، وليس فيه شيء مما يقارب السحر، ثم استأنف جواب من سأل عن جوابه لهم- بقوله تعالى: {قال} مبكتاً لهم...
{فذوقوا العذاب} أي باشروه مباشرة الذائق باللسان، ثم صرح بالسبب فقال: {بما كنتم} أي خلقاً وخلقاً مستمراً دائماً أبداً {تكفرون} في دار العمل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ويوم يعرض الذين كفروا على النار. أليس هذا بالحق؟ قالوا: بلى وربنا. قال: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).. يبدأ المشهد حكاية أو مقدمة لحكاية: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار).. وبينما السامع في انتظار وصف ما سيكون، إذا المشهد يشخص بذاته. وإذا الحوار قائم في المشهد المعروض: (أليس هذا بالحق؟).. ويا له من سؤال؟ بل يا لها من قارعة للذين كانوا يكذبون ويستهزئون ويستعجلون، واليوم تتلوى أعناقهم على الحق الذي كانوا ينكرون. والجواب في خزي وفي مذلة وفي ارتياع: (بلى. وربنا).. هكذا هم يقسمون: (وربنا).. ربهم الذي كانوا لا يستجيبون لداعيه، ولا يستمعون لنبيه ولا يعترفون له بربوبية. ثم هم اليوم يقسمون به على الحق الذي أنكروه! عندئذ يبلغ السؤال غاية من الترذيل والتقريع، ويقضى الأمر، وينتهي الحوار: (قال: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون)...
الجريمة ظاهرة. الجاني معترف. فإلى الجحيم! وسرعة المشهد هنا مقصودة. فالمواجهة حاسمة، ولا مجال لأخذ ولا رد. لقد كانوا ينكرون. فالآن يعترفون. والآن يذوقون!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
موقع هذا الكلام أن عرض المشركين على النار من آثار الجزاء الواقع بعد البعث، فلما ذكر في الآية التي قبلها الاستدلال على إمكان البعث أعقب بما يحصل لهم يوم البعث جمعاً بين الاستدلال والإنذار، وذكر من ذلك ما يقال لهم مما لا مندوحة لهم عن الاعتراف بخطئهم جمعاً بين ما رُدّ به في الدنيا من قوله: {بلى} [الأحقاف: 33] وما يُردون في علم أنفسهم يوم الجزاء بقولهم: {بلى وربنا}. والجملة عطف على جملة {أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض} [الأحقاف: 33] الخ. وأول الجملة المعطوفة قوله: {أليسَ هذا بالحق} لأنه مقول فعل قول محذوف تقديره: ويُقال للذين كفروا يوم يعرضون على النار. وتقديم الظرف على عامله للاهتمام بذكر ذلك اليومِ لزيادة تقريره في الأذهان...
{فذوقوا العذاب}. والذوق مجاز في الإحساس. والأمر مستعمل في الإهانة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لأن غذاء النار الطبيعي وقود بشري من هؤلاء الذين كفروا بالله وكذّبوا رسله، وكانوا يكذبون باليوم الآخر، ويسخرون من أحاديث الأنبياء الذين ينذرونهم بعقاب نار جهنم، فينطلق السؤال الذي يريد لهم أن يعلنوا الإيمان بما كذّبوا به، بعد أن فرض الواقع الحسي عليهم ذلك، ليكون موقفهم هذا منطلق تفكير لأمثالهم ممن يكذبون به بعدهم: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقّ} الذي أنذركم به الرسل؟ {قَالُواْ بَلَى وَرَبّنَا} في تأكيد للجواب السابق بالقسم بالله، وهدفهم منه التأكيد على إيمانهم، رغبةً في أن يشفع ذلك لهم في الخلاص من العذاب، أو التخفيف منه، {قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} فذلك هو جزاء الكافرين.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ويوم يعرض الذين كفروا على النّار). أجل، فمرّة تُعرض النّار على الكافرين، وأخرى يعرضون الكافرين على النّار، ولكل من العرضين هدف أشير إليه قبل عدّة آيات. وعندما يعرضون الكافرين على النّار، ويرون ألسنة لهبها العظيمة المحرقة المرعبة يقال لهم: (أليس هذا بالحق)؟ وهل تستطيعون اليوم أن تنكروا البعث ومحكمة الله العادلة، وثوابه وعقابه، وتقولون: ما هذا إلاّ أساطير الأولين؟ غير أنّ أُولئك الذين لا حيلة لهم: (قالوا بلى وربّنا) فهنا يقول الله سبحانه، أو ملائكة العذاب: (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون). وبهذا فإنّهم يرون كلّ الحقائق بأُم أعينهم في ذلك اليوم ويعترفون بذلك الاعتراف الذي لن ينفعهم، وسوف لن تكون نتيجته إلاّ الهم والحسرة، وتأنيب الضمير والعذاب الروحي.