التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَلَيۡسَ هَٰذَا بِٱلۡحَقِّۖ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَاۚ قَالَ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (34)

{ أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعيى2 بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير 33 ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون 34 فاصبر كما صبروا أولوا العزم 2 من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ 3 فهل يهلك إلا القوم الفاسقون35 } [ 33- 35 ] .

( 1 )ولم يعي : ولم يتعب .

( 2 ) أولو العزم : المتصفون بقوة النفس والعقل والإرادة . وقد صار هذا التعبير اصطلاحا يطلق على بعض رسل الله .

( 3 ) كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ : كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة قصيرة من نهار كانت بمثابة بلغة أو بمثابة البرهة القصيرة التي لا تعدو ساعة من الوقت يقف فيها المسافر ليتبلغ بلقمة من الزاد ثم يستأنف سيره .

في الآيات :

1- سؤال رباني عما إذا كان الكفار لا يقنعون بأن في خلق السماوات والأرض دون عناء ولا تعب دليلا قاطعا على قدرته على إحياء الموتى .

2- وتوكيد إيجابي بقدرته على ذلك وكونه قادرا على كل شيء .

3- وإنذار للكفار بما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة ؛ حيث يسألون حينما يعرضون على النار ليطرحوا فيها عما إذا كان هذا حقا فيجيبون بالإيجاب فيقال لهم حينئذ : ذوقوا العذاب جزاء كفرهم وعنادكم .

وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر ويثبت في موقفه ومهمته كما صبر وثبت أولو العزم من الرسل قبله ولا حاجة إلى استعجال العذاب للكافرين فهو لاحق بهم حتما . وحينما يرون تحقيق ذلك سيشعرون كأنهم لم يلبثوا في موتهم إلا ساعة قصيرة من نهار كانت بمثابة بلغة أو وقفة قصيرة يتبلغون فيها ثم صاروا إلى نكال الله الذي لا يقع إلا على العصاة المشاقين لآيات الله ودعوته .

وقد جاءت الآيات رابطة بين أجزاء الآيات وسياقها قبل فصلي عاد والجن الاستطراديين ، وخاتمة لموقف المناظرة والحجاج الذي كانت آيات السورة بسبيله .

ومن هنا تكون الآيات متصلة بالسياق نظما وموضوعا ، وقد جاءت في الوقت نفسه خاتمة لآيات السورة بالأسلوب المتكرر في خواتيم السور السابقة . وفيها تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم .

وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية الأخيرة مدنية ، وهو غريب . ويلاحظ أنها متممة لما قبلها ومنسجمة بالسياق انسجاما تاما ، وأسلوبها ومضمونها يمتّ إلى التنزيل المكي وظروفه وهذا ما يحمل على الشك في ذلك .

ولقد ذكر بعض المفسرين {[1899]} أن تعبير { بلاغ } قد قصد به تقرير كون القرآن ، أو الإنذار الذي احتواه هو بلاغ للسامعين ، أو ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغه . وما حملناه عليه وأولناه به قد قال به مفسرون آخرون{[1900]} ، والتعبير وروح الآية يتحملان المدلولين ، ونرجو أن يكون المعنى الذي رجحناه مع مفسرين آخرين هو الصواب إن شاء الله .

لقد تعددت روايات المفسرين وأقوالهم في أولي العزم من الرسل . فروى البغوي عن ابن زيد : أن كل الرسل كانوا أولي عزم ، وأن الله لم يبعث نبيا إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل ، وأن ( من ) إنما دخلت على الكلمة للتجنيس لا للتبعيض . غير أن هذا المفسر قال إلى هذا إن بعضهم قال : إن جميع الأنبياء أولو عزم إلا يونس بدليل أن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم : { ولا تكن كصاحب الحوت . . . } الآية [ 38 ] سورة القلم . وأن قوما قالوا : هم نجباء الرسل الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام والذين وصفوا في الآية الأخيرة من سلسلتهم { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [ 90 ] وأن الكلبي قال : إنهم الذين أمروا بالمكاشفة على أعداء الدين وجهادهم ، وأن هناك من قال : إنهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى ، وهم المذكورون على النسق في سورتي الأعراف والشعراء وأن ابن عباس وقتادة قالا : هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى أصحاب الشرائع ، وهناك من أدخل يوسف وأيوب في عداد أصحاب العزم . وقال ابن كثير : إن أشهر الأقوال إنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم الذين ذكروا معا في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى . وقال الطبرسي : إنهم الذين شرّعوا الشرائع ، وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها . ومع أن قول ابن زيد الذي رواه البغوي سديد فإن هذه المسألة لا يصح الجزم فيها إلا بأثر نبوي وليس هناك مثل هذا الأثر .

ولقد أورد ابن كثير في سياق ذلك حديثا رواه ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : ( ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم قال : يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد ، يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي ولا قوة إلا بالله ) . حيث ينطوي في الحديث موقف من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة عند الآيات القرآنية وأخذه نفسه بأشد ما يكون من الصبر والجهد والاستغراق في طاعة الله استلهاما منها .

وذكر بعض المفسرين {[1901]} في صدد تعبير { ولا تستعجل لهم } [ 35 ] أن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ضجر من إصرار الكفار وتحديهم العذاب فتمنى أن يأتيهم العذاب في الدنيا فكان في الآية جواب الله على أمنيته . ونحن نميل إلى القول بأن التعبير أسلوبي يقصد به التطمين ، وقد ورد المعنى في آيات كثيرة بصيغ متنوعة مرت أمثلة منها والله أعلم .


[1899]:انظر تفسير الآية في تفسير الخازن وابن كثير وغيرهم.
[1900]:انظر تفسير الطبري والطبرسي.
[1901]:انظر تفسير البغوي و الطبرسي.