{ عينا } نصب تبعاً للكافور . وقيل : هو نصب على المدح . وقيل أعني عيناً . وقال الزجاج : الأجود أن يكون المعنى من عين ، { يشرب بها } قيل : يشربها " والباء " صلة وقيل بها أي منها ، { عباد الله } قال ابن عباس أولياء الله ، { يفجرونها تفجيراً } أي يقودونها حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم ، كمن يكون له نهر يفجره ها هنا وها هنا إلى حيث يريد .
{ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } أي : ذلك الكأس اللذيذ الذي يشربون به ، لا يخافون نفاده ، بل له مادة لا تنقطع ، وهي عين دائمة الفيضان والجريان ، يفجرها عباد الله تفجيرا ، أنى شاءوا ، وكيف أرادوا ، فإن شاءوا صرفوها إلى البساتين الزاهرات ، أو إلى الرياض الناضرات ، أو بين جوانب القصور والمساكن المزخرفات ، أو إلى أي : جهة يرونها من الجهات المونقات .
وذكر - سبحانه - { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله . . . } بدل من قوله : { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } لأن ماءها فى بياض الكافور وفى رائحته وبرودته .
أى : أن الأبرار يشربون من كأس ، ماؤها ينبع من عين فى الجنة ، هذا الماء له بياض الكافور ورائحته وبرودته .
وعدى فعل " يشرب " بالباء ، التى هى باء الإِلصاق ، لأن الكافور يمزج به شرابهم . أى ؛ عينا يشرب عباد الله ماءهم وخمرهم بها . أى : مصحوبا بمائها وخمرها .
ومنهم من جعل الباء هنا بمعنى من التبعيضية . أى : عينا يشرب من بعض مائها وخمرها عباد الله ، وهم الأبرار .
وعبر عنهم بذلك لتشريفهم وتكريمهم ، حيث أضافهم - سبحانه - إلى ذاته .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولا ، وبحرف الإِلصاق آخرا ؟ قلت : لأن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته ، وأما العين فبها يمزجون شرابهم ، فكأن المعنى : يشرب عباد الله بها الخمر ، كما تقول : شربت الماء بالعسل . .
وقوله - سبحانه - : { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } صفة أخرى للعين ، أى : يسيرونها ويجرونها إلى حيث يريدون ، وينتفعون بها كما يشاؤون ، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يتوجهون إليه .
فالتعبير بقوله : { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } إشارة إلى كثرتها وسعتها وسهولة حصولهم عليها يقال : فجَّر فلان الماء ، إذا أخرجه من الأرض بغزارة ومنه قوله - تعالى - { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً }
ثم يسارع السياق إلى رخاء النعيم :
( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا . عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا ) . .
وهذه العبارة تفيد أن شراب الأبرار في الجنة ممزوج بالكافور ، يشربونه في كأس تغترف من عين تفجر لهم تفجيرا ، في كثرة ووفرة . . وقد كان العرب يمزجون كؤوس الخمر بالكافور حينا وبالزنجبيل حينا زيادة في التلذذ بها ، فهاهم أولاء يعلمون أن في الجنة شرابا طهورا ممزوجا بالكافور ، على وفر وسعة . فأما مستوى هذا الشراب فمفهوم أنه أحلى من شراب الدنيا ، وأن لذة الشعور به تتضاعف وترقى ، ونحن لا نملك في هذه الأرض أن نحدد مستوى ولا نوعا للذة المتاع هناك . فهي أوصاف للتقريب . يعلم الله أن الناس لا يملكون سواها لتصور هذا الغيب المحجوب .
والتعبير يسميهم في الآية الأولى( الأبرار )ويسميهم في الآية الثانية ( عباد الله ) . . إيناسا وتكريما وإعلانا للفضل تارة ، وللقرب من الله تارة ، في معرض النعيم والتكريم .
أي : هذا الذي مُزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفا بلا مزج ويَرْوَوْنَ بها ؛ ولهذا ضمن يشرَب " يروى " حتى عداه بالباء ، ونصب { عَيْنًا } على التمييز .
قال بعضهم : هذا الشراب{[29589]} في طيبه كالكافور . وقال بعضهم : هو من عين كافور . وقال بعضهم : يجوز أن يكون منصوبًا ب { يَشْرَبُ } حكى هذه الأقوال الثلاثة ابنُ جرير .
وقوله : { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } أي : يتصرفون فيها حيث شاؤوا وأين شاؤوا ، من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم .
والتفجير هو الإنباع ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا } [ الإسراء : 90 ] . وقال : { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا } [ الكهف : 33 ] .
وقال مجاهد : { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } يقودونها حيث شاؤوا ، وكذا قال عكرمة ، وقتادة . وقال الثوري : يصرفونها حيث شاؤوا .
وقوله : عَيْنا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يقول تعالى ذكره : كان مزاج الكأس التي يشرب بها هؤلاء الأبرار كالكافور في طيب رائحته من عين يشرب بها عباد الله الذين يدخلهم الجنة . والعين على هذا التأويل نصب على الحال من الهاء التي في «مزاجها » ويعني بقوله يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُرْوَى بها ويُنتفع . وقيل : يشرب بها ويشربها بمعنى واحد . وذكر الفرّاء أن بعضهم أنشده :
شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمّ تَرَفّعَتْ *** مَتى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنّ نَئِيجُ
وعنى بقوله : «متى لجج » من ، ومثله : إنه يتكلم بكلام حسن ، ويتكلم كلاما حسنا .
وقوله : يُفَجّرُونَها تَفْجِيرا يقول تعالى ذكره يفجرون تلك العين التي يشربون بها كيف شاؤوا وحيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم تفجيرا ، ويعني بالتفجير : الإسالة والإجراء . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يُفَجّرُونَها تَفْجِيرا قال : يدّلونها حيث شاؤوا .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يُفَجّرُونَها تَفْجِيرا قال : يقودونها حيث شاؤوا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يُفَجّرُونَها تَفْجِيرا قال : مستقيد ماؤها لهم يفجرونها حيث شاؤوا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان يُفَجّروُنَها تَفْجِيرا قال : يصرفونها حيث شاؤوا .
وانتصب { عيناً } على البدل من { كافوراً } أي ذلك الكافور تجري به عين في الجنة من ماء محلول فيه أو من زيته مثل قوله : { وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى } [ محمد : 15 ] . وعدي فعل { يشرب } بالباء وهي باء الإِلصاق لأن الكافور يمزج به شرابهم . فالتقدير : عيْناً يشرب عباد الله خمرهم بها ، أي مصحوباً بمائها ، وذهب الأصمعي إلى أن الباء في قوله تعالى : { يشرب بها عباد الله } بمعنى ( من ) التبعيضية ووافقه الفارسي وابن قتيبة وابن مالك ، وعَدّ في كتبه ذلك من معاني الباء ونُسب إلى الكوفيين .
و { عبادُ الله } مراد بهم : الأبرار . وهو إظهار في مقام الإِضمار للتنويه بهم بإضافة عبوديتهم إلى الله تعالى إضافةَ تشريف .
والتفجير : فتح الأرض عن الماء أي استنباط الماء الغزير وأطلق هنا على الاستقاء منها بلا حدّ ولا نضوب فكان كل واحد يفجر لنفسه ينبوعاً وهذا من الاستعارة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر الكافور، فقال: {عينا يشرب بها} يعني الخمر.
{عباد الله يفجرونها تفجيرا} يعنى أولياء الله يمزجون ذلك الخمر، ثم جاء بذلك الماء، فهو على برد الكافور، وطعم الزنجبيل، وريح المسك، لا بمسك أهل الدنيا، ولا زنجبيلهم، ولا كافورهم، ولكن الله تعالى وصف ما عنده بما عندهم لتهتدي إليه القلوب، ثم ذكر محاسنهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
كان مزاج الكأس التي يشرب بها هؤلاء الأبرار كالكافور في طيب رائحته من عين يشرب بها عباد الله الذين يدخلهم الجنة. ويعني بقوله" يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ "يُرْوَى بها ويُنتفع. وقيل: يشرب بها ويشربها بمعنى واحد.
وقوله: "يُفَجّرُونَها تَفْجِيرا" يقول تعالى ذكره يفجرون تلك العين التي يشربون بها كيف شاءوا وحيث شاءوا من منازلهم وقصورهم تفجيرا، ويعني بالتفجير: الإسالة والإجراء.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أوّلاً، وبحرف الإلصاق آخراً؟ قلت: لأنّ الكأس مبدأ شربهم وأوّل غايته؛ وأما العين فبها يمزجون شرابهم فكان المعنى: يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول: شربت الماء بالعسل.
{يُفَجّرُونَهَا} يجرونها حيث شاءوا من منازلهم {تَفْجِيرًا} سهلا لا يمتنع عليهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يسارع السياق إلى رخاء النعيم:
(إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا. عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا)..
وهذه العبارة تفيد أن شراب الأبرار في الجنة ممزوج بالكافور، يشربونه في كأس تغترف من عين تفجر لهم تفجيرا، في كثرة ووفرة.. وقد كان العرب يمزجون كؤوس الخمر بالكافور حينا وبالزنجبيل حينا زيادة في التلذذ بها، فهاهم أولاء يعلمون أن في الجنة شرابا طهورا ممزوجا بالكافور، على وفر وسعة. فأما مستوى هذا الشراب فمفهوم أنه أحلى من شراب الدنيا، وأن لذة الشعور به تتضاعف وترقى، ونحن لا نملك في هذه الأرض أن نحدد مستوى ولا نوعا للذة المتاع هناك. فهي أوصاف للتقريب. يعلم الله أن الناس لا يملكون سواها لتصور هذا الغيب المحجوب.
والتعبير يسميهم في الآية الأولى (الأبرار) ويسميهم في الآية الثانية (عباد الله).. إيناسا وتكريما وإعلانا للفضل تارة، وللقرب من الله تارة، في معرض النعيم والتكريم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالتقدير: عيْناً يشرب عباد الله خمرَهم بها، أي مصحوباً بمائها،
و {عبادُ الله} مراد بهم: الأبرار. وهو إظهار في مقام الإِضمار للتنويه بهم بإضافة عبوديتهم إلى الله تعالى إضافةَ تشريف.
والتفجير: فتح الأرض عن الماء أي استنباط الماء الغزير، وأطلق هنا على الاستقاء منها بلا حدّ ولا نضوب، فكان كل واحد يفجر لنفسه ينبوعاً.
والحق سبحانه عبر عمن يشرب من هذه العين التي مزاجها كافورا أنهم {عباد الله} فمن هم عباد الله؟ عباد الله هم من تخلوا عن اختياراتهم إلى مرادات الله سبحانه، فهم الذين يتنازلون عن منطقة الاختيار لمراد الله في التكليف.
لذلك يفرق الله سبحانه بين العباد والعبيد، فيقول سبحانه: {وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما 63 والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما 64 والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما 65} [الفرقان].
هكذا نرى أن الله أعطى أوصاف المؤمنين وسماهم عبادا، لكن عندما يتحدث عن البشر جميعا يقول عبيد. وهناك فرق بين عبيد وعباد، فالعبيد هم المرغمون على القهر في أي لون من ألوان حياتهم ولا يستطيعون أن يدخلوا اختيارهم فيما يجريه الله عليهم قهرا.
أما العباد فهم الذين يأتون إلى ما فيه اختيار لهم ويقولون: لقد نزعنا من أنفسنا صفة الاختيار هذه ورضينا بما تأمرنا وتنهانا. إذن فالعبيد مقهورون بما يجريه عليهم الحق بما يريد، والعباد هم الذين يرضون ويكون اختيارهم وفق ما يحبه الله ويرضاه، إنهم أسلموا الوجه لله فهم مقهورون بالاختيار، أما العبيد فمقهورون بالإجبار.