الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{عَيۡنٗا يَشۡرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفۡجِيرٗا} (6)

قوله : { عَيْناً } في نَصْبِها أوجهٌ ، أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ " كافوراً " لأنَّ ماءَها في بياضِ الكافور ، وفي رائحتِه وبَرْدِه . والثاني : أنَّها بدلٌ مِنْ محل " مِنْ كأسٍ " ، قاله مكي ، ولم يُقَدِّرْ حَذْفَ مضافٍ . وقَدَّر الزمخشريُّ على هذا الوجهِ حَذْفَ مضافٍ . قال : " كأنه قيل : يَشْرَبون خَمْراً خَمْرَ عَيْنٍ " وأمَّا أبو البقاءِ فجعل المضافَ مقدراًعلى وجهِ البدلِ مِنْ " كافوراً " فقال : " والثاني : بدلٌ مِنْ " كافوراً " ، أي : ماءَ عَيْنٍ أو خَمْرَ عَيْن " وهو معنىً حَسَنٌ . الثالث : أنَّها مفعولٌ ب " يَشْرَبون " ، أي : يَشْرَبون عَيْناً مِنْ كأس . الرابع : أنَّ يَنْتصِبَ على الاختصاص . الخامس : بإضمارِ " يَشْربون " يُفَسِّرُه ما بعده ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ الظاهر أنه صفةٌ لعَيْن ، فلا يَصِحُّ أَنْ يُفَسِّر . السادس : بإضمار " يُعْطَوْن " . السابع : على الحالِ من الضمير في " مِزاجُها " ، قاله مكي .

والمِزاج : ما يُمْزَجُ به ، أي : يُخْلَطُ . يقال : مَزَجَه يَمْزُجه مَزْجاً ، أي : خَلَطَهُ يَخلِطُه خَلْطاً . قال حسان :

كأنَّ سَبِيْئَةً مِنْ بيتِ رَأْسٍ *** يكونُ مِزاجَها عَسَلٌ وماءُ

فالمِزاج كالقِوامِ ، اسمٌ لما يقام به الشيءُ . والكافورُ : طِيْبٌ معروفٌ ، وكأنَّ اشتقاقه من الكَفْرِ وهو السَّتْرُ ؛ لأنه يُغَطِّي الأشياءَ برائحتِه . والكافور أيضاً : كِمام الشجرِ التي تُغَطِّي ثمرتَها . ومفعولُ " يَشْربون " : إمَّا محذوفٌ ، أي : يعني : يَشْرَبون ماءً أو خمراً من كأسٍ ، وإمَّا مذكورٌ وهو " عَيْناً " كما تقدَّم ، وإمَّا " مِنْ كأسٍ " و " مِنْ " مزيدةٌ فيه ، وهذا يَتَمشَّى عند الكوفيين والأخفش .

وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : لِمَ وُصِل فِعْلُ الشُّرْب بحرفِ الابتداءِ أولاً وبحرف الإِلصاقِ آخراً ؟ قلت : لأنَّ الكأسَ مبدأ شُرْبهِ وأولُ غايتِه ، وأمَّا العَيْنُ فبها يَمْزُجون شرابَهم ، فكأنَّ المعنى : يشْرَبُ عبادُ اللَّهِ بها الخمرَ كما تقول : شَرِبْتُ الماءَ بالعَسل " .

قوله : { يَشْرَبُ بِهَا } في الباءِ أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها مزيدةٌ ، أي : يَشْرَبُها ، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنُ أبي عبلةَ " يَشْرَبُها " مُعَدَّى إلى الضمير بنفسِه . الثاني : أنها بمعنى " مِنْ " . الثالث : أنها حاليةٌ ، أي : مَمْزوجةٌ بها . الرابع : أنها متعلقَةٌ ب " يَشْرَبُ " . والضميرُ يعودُعلى الكأس ، أي : يَشْرَبون العَيْنَ بتلك الكأسِ ، والباءُ للإِلصاق ، كما تقدَّم في قولِ الزمخشري . الخامس : أنه على تَضْمين " يَشْرَبُون " معنى : يَلْتَذُّون بها شاربين . السادس : على تَضْمينِه معنى " يَرْوَى " ، أي يَرْوَى بها عبادُ اللَّهِ . وكهذه الآية في بعضِ الأوجهِ قولُ الهُذَلي :

شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم تَرَفَّعَتْ *** متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ

فهذه تحتملُ الزيادةَ ، وتحتملُ أَنْ تكونَ بمعنى " مِنْ " . والجملةُ مِنْ قولِه " يَشْرَبُ بها " في محلِّ نصبٍ صفةٍ ل " عَيْناً " إنْ جَعَلْنا الضميرَ في " بها " عائداً على " عَيْناً " ولم نجعَلْه مُفَسِّراً لناصبٍ ، كما قاله أبو البقاء . وقرأ عبد الله " قافوراً " بالقاف بدلَ الكافِ ، وهذا مِنْ التعاقُبِ بين الحرفَيْنِ كقولهم : " عربيٌّ قُحٌّ وكُحّ . و " يُفَجِّرونها " في موضع الحال .