وحكمة الله التي يمتحن بها عباده ، ليبلوهم ويتبين صادقهم من كاذبهم ، ولهذا قال تعالى : { هذا بيان للناس } أي : دلالة ظاهرة ، تبين للناس الحق من الباطل ، وأهل السعادة من أهل الشقاوة ، وهو الإشارة إلى ما أوقع الله بالمكذبين .
{ وهدى وموعظة للمتقين } لأنهم هم المنتفعون بالآيات فتهديهم إلى سبيل الرشاد ، وتعظهم وتزجرهم عن طريق الغي ، وأما باقي الناس فهي بيان لهم ، تقوم [ به ] عليهم الحجة من الله ، ليهلك من هلك عن بينة .
ويحتمل أن الإشارة في قوله : { هذا بيان للناس } للقرآن العظيم ، والذكر الحكيم ، وأنه بيان للناس عموما ، وهدى وموعظة للمتقين خصوصا ، وكلا المعنيين حق .
ثم قال - تعالى - { هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } .
والبيان : هو الدلالة التى تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت حاصلة .
والهدى : هو الإرشاد إلى ما فيه خير الناس فى الحال والاستقبال .
والمواعظة : هى الكلام الذى يفيد الزجر عما لا ينبغى من الأمور الدينية أو الدنيوية .
قالوا : فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان :
أحدهما : الكلام الهادى إلى ما ينبغى فى الدين وهو الهدى .
والثانى : الكلام الزاجر عما لا ينبغى فى الدين وهو الموعظة . فعطفهما على البيان من عطف الخاص على العام .
واسم الإشارة يعود إلى ما تقدم هذه الآية الكريمة من أوامر ونواه ، ومن وعد ووعيد ، ومن حض على السير فى الأرض للاعتبار والاتعاظ .
أى هذا الذى ذكرناه لكم من وعد ووعيد ، ومن أوامر ونواه ، ومن حض على الاعتبار بأحوال المكذبين ، { بَيَانٌ لِّلنَّاسِ } يكشف لهم الحقائق ويرفع عنهم الالتباس { وَهُدًى } يهديهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم { وَمَوْعِظَةٌ } أى تخويف نافع { لِّلْمُتَّقِينَ } الذين يعتبرون بالمثلات ، وينتفعون بالعظات .
وقيل : إن اسم الإشارة يعود إلى القرآن .
أى هذا القرآن بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين .
وقد رجح ابن جرير الرأى الأول فقال : وأولى القولين فى ذلك عندى بالصواب : قول من قال : قوله { هذا } إشارة إلى ما تقدم هذه الآية من تذكير الله - عز وجل - المؤمنين ، وتعريفهم حدوده ، وحضهم على لزوم طاعته ، والصبر على جهاد أعدائه ، لأن قوله { هذا } إشارة إلى حاضر إما مرئى وإما مسموع وهو فى هذا الموضع لى حاضر مسموع من الآيات المتقدمة ، فمعنى الكلام : هذا الذى أوضحت لكم وعرفتكموه بيان للناس " .
والمراد بالناس جميعهم ، إذ أن ما ساقه الله - تعالى - من دلالات وهدايات وعظات هى للناس كافة ، إلا أن الذين ينتفعون بها هم المتقون ، لأنهم هم الذين أخلصوا قلوبهم لله ، وهم الذين طلبوا الحق وسلكوا طريقه . . .
والكلمة الهادية لا يستفيد بها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى ، والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب الخاشع المنيب ، والناس فى كل زمان ومكان لا ينقصهم - فى الغالب - العلم بالحق وبالباطل ، وبالهدى والضلال . . . وإنما الذى ينقصهم هو القلب السليم الذى يسارع إلى الحق فيعتنقه ويدافع عنه بإخلاص وإصرار ، ولذا وجدنا القرآن فى هذه الآية - وفى عشرات الآيات غيرها - يصرح بأن المنتفعين بالتذكير هم المتقون فيقول : { هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } .
وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان :
( هذا بيان للناس ، وهدى وموعظة للمتقين ) . .
هذا بيان للناس كافة . فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي . ولكن طائفة خاصة هي التي تجد فيه الهدى ، وتجد فيه الموعظة ، وتنتفع به وتصل على هداه . . طائفة " المتقين " . .
إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى . والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها . . والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل ، وبالهدى والضلال . . إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل . إنما تنقص الناس الرغبة في الحق ، والقدرة على اختيار طريقه . . والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه لا ينشئهما إلا الإيمان ، ولا يحفظهما إلا التقوى . . ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات . تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق ، ومن هدى ، ومن نور ، ومن موعظة ، ومن عبرة . . . إنما هي للمؤمنين وللمتقين . فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة . وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة . . واحتمال مشقات الطريق . . وهذا هو الأمر ، وهذا هو لب المسألة . . لا مجرد العلم والمعرفة . . فكم ممن يعلمون ويعرفون ، وهم في حمأة الباطل يتمرغون . إما خضوعا لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة ، وإما خوفا من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة !
ثم قال : { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ } يعني : القرآن فيه بيان للأمور على جليتها ، وكيف كان الأممُ الأقدمون مع أعدائهم { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ } يعني : القرآن فيه خَبَرُ ما قبلكم و { هُدًى } لقلوبكم و { مَوْعِظَةٌ } أي : زاجر [ عن المحارم والمآثم ]{[5773]} .
{ هََذَا بَيَانٌ لّلنّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتّقِينَ }
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه بهذا ، فقال بعضهم : عَنَى بقوله هذا : القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : ثنا : عباد ، عن الحسن في قوله : { هَذَا بَيانٌ للنّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ للْمُتّقِينَ } قال : هذا القرآن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة . قوله : { هَذَا بَيانٌ للنّاسِ } وهو هذا القرآن جعله الله بيانا للناس عامة ، وهدى وموعظة للمتقين خصوصا .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال في قوله : { هَذَا بَيانٌ للنّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ للْمُتّقِينَ } خاصة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج في قوله : { هَذَا بَيانٌ للنّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ للْمُتّقِينَ } خاصة .
وقال آخرون : إنما أشير بقوله هذا إلى قوله : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذّبِينَ } ثم قال : هذا الذي عرفتكم يا معشر أصحاب محمد بيان للناس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق بذلك .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : قوله هذا إشارة إلى ما تقدّم هذه الاَية من تذكير الله جلّ ثناؤه المؤمنين ، وتعريفهم حدوده ، وحضهم على لزوم طاعته ، والصبر على جهاد أعدائه وأعدائهم ، لأن قوله هذا إشارة إلى حاضر ، إما مرئي ، وإما مسموع ، وهو في هذا الموضع إلى حاضر مسموع من الاَيات المتقدمة . فمعنى الكلام : هذا الذي أوضحت لكم وعرّفتكموه ، بيان للناس¹ يعني بالبيان : الشرح والتفسير . كما
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { هَذَا بَيانٌ للنّاسِ } أي هذا تفسير للناس إن قبلوه .
حدثنا أحمد بن حازم والمثنى ، قالا : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن بيان ، عن الشعبي : { هَذَا بَيانٌ للنّاسِ } قال : من العَمَى .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن الشعبي ، مثله .
وأما قوله : { وهُدًى وَمَوْعِظَةٌ } فإنه يعني بالهدى : الدلالة على سبيل الحقّ ومنهج الدين ، وبالموعظة : التذكرة للصواب والرشاد . كما :
حدثنا أحمد بن حازم والمثنى ، قالا : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن بيان ، عن الشعبي : { وَهُدًى } قال : من الضلالة ، { وَمَوْعِظَةٌ } من الجهل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن بيان ، عن الشعبي مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { للْمُتّقِينَ } : أي لمن أطاعني وعرف أمري .
تذييل يعمّ المخاطبين الحاضرين ومن يجيء بعدهم من الأجيال ، والإشارة إمَّا إلى ما تقدّم بتأويل المذكور ، وإمَّا إلى حاضر في الذهن عند تلاوة الآية وهو القُرآن .
والبيانُ : الإيضاح وكشف الحقائق الواقعة . والهدى : الإرشاد إلى ما فيه خير النَّاس في الحال والاستقبال . والموعظة : التحذير والتخويف . فإن جعلت الإشارة إلى مضمون قوله : { قد خلت من قبلكم سنن } [ آل عمران : 137 ] الآية فإنَّها بيان لما غفلوا عنه من عدم التَّلازم بين النَّصر وحسن العاقبة ، ولا بين الهزيمة وسوء العاقبة ، وهي هدى لهم لينتزعوا المسببات من أسبابها ، فإن سبب النجاح حقاً هو الصلاح والاستقامة ، وهي موعظة لهم ليحذروا الفساد ولا يغترّوا كما اغترّت عاد إذ قالوا : « مَنْ أشَدّ مِنَّا قوّة » .