قوله تعالى : { فتولى } ، أعرض صالح .
قوله تعالى : { عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين } ، فإن قيل : كيف خاطبهم بقوله { لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم } بعدما أهلكوا بالرجفة ؟ قيل : كما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الكفار من قتلى بدر حين ألقاهم في القليب ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : " أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فقال عمر : يا رسول الله ، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن ، لا يجيبون ) . وقيل : خاطبهم ليكون عبرة لمن خلفهم ، وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها : فتولى عنهم ، وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي فأخذتهم الرجفة .
وكان قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق ، ووهب ، وغيرهما : أن عاداً لما هلكت وتقضى أمرها عمرت ثمود بعدها ، واستخلفوا في الأرض ، فدخلوا فيها وكثروا وعمروا ، حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم ، والرجل منهم حي ، فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتاً ، وكانوا في سعة من معاشهم ، فعتوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله ، فبعثه الله فيهم صالحا وكانوا قوما عربا ، وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا وموضعا ، فبعث الله إليهم غلاماً شاباً ، فدعاهم إلى الله حتى شمط وكبر لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون ، فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقاً لما يقول ، فقال لهم : أي آية تريدون ؟ قالوا : تخرج معنا غداً إلى عيدنا ، وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة ، فتدعوا إلهك وندعو آلهتنا ، فإن استجيب لك اتبعناك ، وإن استجيب لنا اتبعتنا ، فقال لهم صالح : نعم ، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ، وخرج صالح معهم ، فدعوا أوثانهم ، وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به ، ثم قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيد ثمود : يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية من الحجر يقال لها الكاثبة ناقة مخترجة ، جوفاء ، وبراء ، عشراء ، والمخترجة ما شاكل البخت من الإبل ، فإن فعلت صدقناك وآمنا بك ، فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقنني ، ولتؤمنن بي ، قالوا : نعم ، فصلى ركعتين ودعا ربه ، فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ، ثم تحركت الهضبة فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا ، لا يعلم ما بين جنبيها عظما إلا الله ، وهم ينظرون ثم نتجت سقباً مثلها في العظم ، فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه ، وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدقوه ، فنهاهم ذؤاب ابن عمر بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ، ورباب بن صمغر ، وكان كاهنهم ، وكانوا من أشراف ثمود ، فلما خرجت الناقة قال لهم صالح : { هذه ناقة الله ، لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } ، فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرض ثمود ، ترعى الشجر وتشرب الماء ، فكانت ترد الماء غباً ، فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ماء فيها ، فلا تدع قطرة ، ثم ترفع رأسها فتفتح حتى تفجح لهم ، فيحلبون ماشاؤوا من لبن ، فيشربون ويدخرون ، حتى يملأوا أوانيهم كلها ، ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه ، لا تقدر على أن تصدر من حيث ترد ، يضيق عنها ، حتى إذا كان يومهم فيشربون ما شاؤوا من الماء ويدخرون ما شاؤوا ليوم الناقة ، فهم من ذلك في سعة ودعة ، وكانت الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي ، فتهرب منها المواشي ، أغنامهم وبقرهم وإبلهم ، فتهبط إلى بطن الوادي في حره وجدبه ، وذلك أن المواشي تنفر منها إذا رأتها ، وتشتو ببطن الوادي إذا كان الشتاء ، فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدب ، فأضر ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار ، فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم ، وحملهم ذلك على عقر الناقة ، فأجمعوا على عقرها ، وكانت امرأتان من ثمود إحداهما يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلز تكنى بأم غنم ، وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو ، وكانت عجوزا مسنة ، وكانت ذات بنات حسان ، وذات مال من إبل وبقر وغنم ، وامرأة أخرى يقال لها صدوف بنت المحيا ، وكانت جميلة غنية ، ذات مواشي كثيرة ، وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح ، وكانتا تحبان عقر الناقة لما أضرت بهما من مواشيهما ، فتحيلتا في عقر الناقة ، فدعت صدوف رجلاً من ثمود يقال له الحباب لعقر الناقة ، وعرضت عليه نفسها إن هو فعل ، فأتى عليها ، فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا ، وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة ، وكانت من أحسن الناس وأكثرهم مالاً ، فأجابها إلى ذلك ، ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف ، وكان رجلاً أحمر أزرق قصيراً ، يزعمون أنه كان لزانية ، ولم يكن لسالف ، ولكنه ولد على فراش سالف ، فقالت : أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة ، وكان قدار عزيزاً منيعاً في قومه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أن أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا وهيب ، حدثنا هشام ، عن أبيه أنه أخبره عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وذكر الناقة والذي عقرها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذ انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز ، عارم ، منيع في قومه ، مثل أبي زمعة ) .
رجعنا إلى القصة ، قالوا : فانطلق قدار بن سالف ، ومصدع بن مهرج ، فاستغويا غواة ثمود ، فاتبعهم سبعة نفر فكانوا تسعة رهط ، فانطلق قدار وصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حين صدرت الماء ، وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها ، وكمن لها مصدع في طريق آخر فمرت على مصدع ، فرماها بسهم فانتظم به في عضلة ساقها ، وخرجت أم غنم عنيزة ، وأمرت ابنتها ، وكانت من أحسن الناس ، فأسفرت لقدار ثم زمرته ، فشد على الناقة بالسيف ، فكشفت عرقوبها ، فخرت ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها ، ثم طعن في لبتها فنحرها ، وخرج أهل البلد واقتسموا لحمها وطبخوه ، فلما رأى سقبها ذلك انطلق حتى أتى جبلاً منيفاً يقال له : صنو ، وقيل : اسمه قارة ، وأتى صالح فقيل له : أدرك الناقة فقد عقرت ، فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه ، يا نبي الله إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا ، فقال صالح : انظروا ، هل تدركون فصيلها ؟ فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب ، فخرجوا يطلبونه ، فلما رأوه على جبل ذهبوا ليأخذوه ، فأوحى الله تعالى إلى الجبل فتطاول في السماء حتى لا تناله الطير . وجاء صالح ، فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ، ثم رغا ثلاثاً وانفجرت الصخرة فدخلها ، فقال صالح : لكل رغوة أجل يوم ، فتمتعوا في داركم ثلاثة أيام ، ذلك وعد غير مكذوب .
وقال ابن إسحاق : اتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة ، وفيهم مصدع بن مهرج ، وأخوه ذؤاب بن مهرج ، فرماه مصدع بسهم فانتظم قلبه ، ثم جر برجله فأنزله ، فألقوا لحمه مع لحم أمه ، وقال لهم صالح : انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله ونقمته ، قالوا وهم يهزؤون به : ومتى ذلك يا صالح ؟ وما آية ذلك ؟ وكانوا يسمون الأيام فيهم ، الأحد أول ، والاثنين أهون ، والثلاثاء دبار ، والأربعاء جبار ، والخميس مؤنسا ، والجمعة العروبة ، والسبت شبار ، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء ، فقال لهم صالح حين قالوا ذلك : تصبحون غداة يوم مؤنس ووجوهكم مصفرة ، ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمرة ، ثم تصبحون يوم شبار ووجوهكم مسودة ، ثم يصبحكم العذاب يوم أول . فلما قال لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة : هلم فلنقتل صالحاً ، فإن كان صادقاً عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذباً قد كنا ألحقناه بناقته ، فأتوه ليلاً ليبيتوه في أهله ، فدمغتهم الملائكة بالحجارة ، فلما أبطؤوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة ، فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ، ثم هموا به ، فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح ، وقالوا لهم : والله لا تقتلونه أبداً ، فقد وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلاث ، فإن كان صادقاً لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضباً ، وإن كان كاذباً فأنتم من وراء ما تريدون ، فانصرفوا عنهم ليلتهم ، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوف ، صغيرهم وكبيرهم ، ذكرهم وأنثاهم ، فعند ذلك أيقنوا العذاب وعرفوا أن صالحاً قد صدقهم ، فطلبوه ليقتلوه ، وخرج صالح هارباً منهم حتى لجأ إلى بطن من ثمود يقال لهم بنو غنم ، فنزل على سيدهم ، رجل يقال له نفيل ، ويكنى بأبي هدب ، وهو مشرك فغيبه عنهم ، ولم يقدروا عليه ، فغدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه ، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم : يا نبي الله إنهم ليعذبوننا لنهديهم عليك ، أفندلهم ؟ قال : نعم فدلهم عليه ، وأتوا أبا هدب فكلموه في ذلك ، فقال : نعم عندي صالح ، وليس لكم عليه سبيل ، فأعرضوا عنه وتركوه ، وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم من عذابه ، فجعل بعضهم يخبر بعضاً بما يرون في وجوههم ، فما أمسوا صاحوا بأجمعهم : ألا قد مضى يوم من الأجل ، فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنما خضبت بالدماء فصاحوا وبكوا ، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم : ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب ، فلما أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار ، فصاحوا بأجمعهم : ألا قد حضركم العذاب . فلما أن كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام ، فنزل رملة فلسطين ، فلما أصبح القوم تكفنوا وتحنطوا وألقوا أنفسهم إلى الأرض يقلبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة ، لا يدرون من أين يأتيهم العذاب ، فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة ، وصوت كل شيء له صوت في الأرض ، فقطعت قلوبهم في صدورهم ، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك كما قال الله تعالى : { فأصبحوا في دارهم جاثمين } ، إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سالف ، وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح ، فأطلق الله رجليها بعدما عاينت العذاب ، فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط ، حتى أتت قزح ، وهو وادي القرى من حد ما بين الحجاز والشام ، فأخبرتهم بما عاينته من العذاب ، وما أصاب ثمود ، ثم استقت من الماء فسقيت ، فلما شربت ماتت . وذكر السدي في عقر الناقة ، وأوحى الله تعالى إلى صالح عليه السلام أن قومك سيعقرون ناقتك ، فقال : لهم ذلك ، فقالوا : ما كنا لنفعل ، فقال صالح : إنه يولد في شهركم هذا غلام يعقرها ، فيكون هلاككم على يديه ، فقالوا : لا يولد لنا ولد في هذا الشهر إلا قتلناه ، قال : فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم ، ثم ولد للعاشر فأبى أن يذبح ابنه ، وكان لم يولد له قبل ذلك ، وكان ابنه أزرق أحمر ، فنبت نباتا سريعا ، وكان إذا مر بالتسعة قالوا : لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا ، فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتل أولادهم ، فتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ، قالوا : نخرج فنري الناس أنا قد خرجنا إلى سفر ، فنأتي الغار ، فنكون فيه ، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ، ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه ، ثم انصرفنا إلى رحلنا فقلنا : { ما شهدنا مهلك أهله ، وإنا لصادقون } ، فيصدقوننا ، يظنون أنا قد خرجنا إلى سفر . وكان صالح لا ينام معهم في القرية ، وكان يبيت في مسجد يقال له مسجد صالح ، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم وإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه ، فانطلقوا فدخلوا الغار ، فسقط عليهم الغار فقتلهم ، فانطلق رجال ممن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رضخ ، فرجعوا يصيحون في القرية : أي عباد الله ، ما رضي صالح أن أمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم ، فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة .
وقال ابن إسحاق : كان تقاسم التسعة على تبييت صالح بعد عقرهم الناقة كما ذكرنا . قال السدي وغيره : فلما ولد ابن العاشر ، يعني : قدار ، شب في اليوم شباب غيره في الجمعة ، وشب في شهر شباب غيره في السنة ، فلما كبر جلس مع أناس يصيبون من الشراب ، فأرادوا ماءً يمزجون به شرابهم ، وكان ذلك اليوم شرب الناقة ، فوجدوا الماء قد شربته الناقة ، فاشتد ذلك عليهم وقالوا : ما نصنع نحن باللبن ؟ لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه الناقة ، فنسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيراً لنا ، فقال ابن العاشر : هل لكم في أن أعقرها لكم ؟ قالوا : نعم ، فعقروها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا محمد بن مسكين ، ثنا يحيى بن حسان بن حيان أبو زكريا ، ثنا سليمان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر ، في غزوة تبوك ، أمرهم أن لا يشربوا من بئر بها ، ولا يسقوا منها ، فقالوا : قد عجنا منها ، واستقينا ، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهرقوا ذلك الماء " .
وقال نافع عن ابن عمر : فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من آبارها ، وأن يعلفوا الإبل بالعجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة .
وروي عن الزبير ، عن جابر قال : " لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : لا يدخلن أحد منكم القرية ، ولا تشربوا من مائهم ، ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، ثم قال : أما بعد ، فلا تسألوا رسولكم الآيات ، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الناقة فبعث الله الناقة فكانت ترد من هذا الفج ، وتصدر من هذا الفج ، وتشرب ماءهم يوم ورودها ، وأراهم مرتقى الفصيل من الجبل ، فعتوا عن أمر ربهم وعقروها ، فأهلك الله تعالى من تحت أديم السماء منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلاً واحداً يقال له أبو رغال ، وهو أبو ثقيف ، كان في حرم الله ، فمنعه حرم الله من عذاب الله ، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه ، ودفن معه غصن من ذهب ، وأراهم قبر أبي رغال ، فنزل القوم فابتدروا بأسيافهم ، وحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن " . وكانت الفرقة المؤمنة من قوم صالح أربعة آلاف ، خرج بهم صالح إلى حضرموت ، فلما دخلوها مات صالح ، فسمي حضرموت ثم بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها حاضوراء ، قال قوم من أهل العلم : توفي صالح بمكة ، وهو ابن ثمان وخمسين سنة .
{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ } صالح عليه السلام حين أحل اللّه بهم العذاب ، { وَقَالَ } مخاطبا لهم توبيخا وعتابا بعدما أهلكهم اللّه : { يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } أي : جميع ما أرسلني اللّه به إليكم ، قد أبلغتكم به وحرصت على هدايتكم ، واجتهدت في سلوككم الصراط المستقيم والدين القويم . { وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } بل رددتم قول النصحاء ، وأطعتم كل شيطان رجيم .
واعلم أن كثيرا من المفسرين يذكرون في هذه القصة أن الناقة قد خرجت من صخرة صماء ملساء اقترحوها على صالح وأنها تمخضت تمخض الحامل فخرجت الناقة وهم ينظرون وأن لها فصيلا حين عقروها رغى ثلاث رغيات وانفلق له الجبل ودخل فيه وأن صالحا عليه السلام قال لهم : آية نزول العذاب بكم ، أن تصبحوا في اليوم الأول من الأيام الثلاثة ووجوهكم مصفرة ، واليوم الثاني : محمرة ، والثالث : مسودة ، فكان كما قال .
وكل هذا من الإسرائيليات التي لا ينبغي نقلها في تفسير كتاب اللّه ، وليس في القرآن ما يدل على شيء منها بوجه من الوجوه ، بل لو كانت صحيحة لذكرها اللّه تعالى ، لأن فيها من العجائب والعبر والآيات ما لا يهمله تعالى ويدع ذكره ، حتى يأتي من طريق من لا يوثق بنقله ، بل القرآن يكذب بعض هذه المذكورات ، فإن صالحا قال لهم : { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } أي : تنعموا وتلذذوا بهذا الوقت القصير جدا ، فإنه ليس لكم من المتاع واللذة سوى هذا ، وأي لذة وتمتع لمن وعدهم نبيهم وقوع العذاب ، وذكر لهم وقوع مقدماته ، فوقعت يوما فيوما ، على وجه يعمهم ويشملهم [ احمرار وجوههم ، واصفرارها واسودادها من العذاب ]{[316]} .
هل هذا إلا مناقض للقرآن ، ومضاد له ؟ " . فالقرآن فيه الكفاية والهداية عن ما سواه .
نعم لو صح شيء عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مما لا يناقض كتاب اللّه ، فعلى الرأس والعين ، وهو مما أمر القرآن باتباعه { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وقد تقدم أنه لا يجوز تفسير كتاب اللّه بالأخبار الإسرائيلية ، ولو على تجويز الرواية عنهم بالأمور التي لا يجزم بكذبها ، فإن معاني كتاب اللّه يقينية ، وتلك أمور لا تصدق ولا تكذب ، فلا يمكن اتفاقهما .
ويتركهم القرآن على هيئتهم جاثمين ، ليتحدث عن نبيهم صالح الذي كذبوه فيقول : { فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين } .
أى : فأعرض عنهم نبيهم صالح ، ونفض يديه منهم ، وتركهم للمصير الذي جلبوه على أنفسهم ، وأخذ يقول متحسراً على ما فاتهم من الإيمان : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربى كاملة غير منقوصة ، ونصحت لكم بالترغيب تارة والترهيب أخرى ، ولكن كان شأنكم الاستمرار على بغض الناصحين وعداوتهم " .
هذا وقد وردت أحاديث تصرح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مر على ديار ثمود المعروفة الآن بمدائن صالح وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع من الهجرة ، فأمر أصحابه أن يدخلوها خاشعين وجلين كراهة أن يصيبهم ما أصاب أهلها ، ونهاهم عن أن يشربوا من مائها
روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال : نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس عام تبوك ، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود فعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم ، فأمرهم النبى صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور ، وعلفوا العجين الإبل ، ثم ارتحل بهم عن البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال : إنى أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، فلا تدخلوا عليهم " .
وروى الشيخان عن ابن عمر قال : " لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال : لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين . فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ، أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوزوا الوادى " .
وهكذا طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين ، وحلت العقوبة بمن كانوا يتعجلونها ويستهزئون بها .
ويدعهم السياق على هيئتهم . . ( جاثمين ) . . ليرسم لنا مشهد صالح الذي كذبوه وتحدوه :
( فتولى عنهم ، وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ، ولكن لا تحبون الناصحين )
إنه الإشهاد على أمانة التبليغ والنصح ؛ والبراءة من المصير الذي جلبوه لأنفسهم بالعتو والتكذيب
وهكذا تطوي صفحة أخرى من صحائف المكذبين . ويحق النذير بعد التذكير على المستهزئين .
وقوله تعالى : { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ }
هذا تقريع من صالح ، عليه السلام ، لقومه ، لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه ، وتمردهم على الله ، وإبائهم عن قبول الحق ، وإعراضهم عن الهدى إلى العَمى - قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا وهم يسمعون ذلك ، كما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على أهل بدر ، أقام هناك ثلاثًا ، ثم أمر براحلته فشُدّت بعد ثلاث من آخر الليل فركبها{[11942]} ثم سار حتى وقف على القليب ، قليب بدر ، فجعل يقول : " يا أبا جهل بن هشام ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة ، ويا فلان بن فلان : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا " . فقال له عمر : يا رسول الله ، ما تُكَلّم من أقوام قد جيفوا ؟ فقال : " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يجيبون " .
وفي السيرة أنه ، عليه السلام{[11943]} قال لهم : " بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم ، كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس ، فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم " . {[11944]}
وهكذا صالح ، عليه السلام ، قال لقومه : { لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } أي : فلم تنتفعوا بذلك ، لأنكم لا تحبون{[11945]} الحق ولا تتبعون ناصحا ؛ ولهذا قال : { وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ }
وقد ذكر بعض المفسرين أن كل نبي هلكت أمته ، كان يذهب فيقيم في الحرم ، حرم مكة ، فالله أعلم .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا زَمْعَة بن صالح ، عن سلمة بن وهرام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي عُسْفان حين حَجّ قال : " يا أبا بكر ، أيّ وادي هذا ؟ " قال : هذا وادي عُسْفَان . قال : " لقد مر به هود وصالح ، عليهما السلام ، على بَكَرات حُمْر خُطُمها الليف ، أزُرُهم العبَاء ، وأرديتهم النّمار ، يلبون يحجون البيت العتيق " .
هذا حديث غريب من هذا الوجه ، لم يخرجه أحد منهم{[11946]}
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَوَلّىَ عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاّ تُحِبّونَ النّاصِحِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فأدبر صالح عنهم حين استعجلوه العذاب وعقروا ناقة الله خارجا عن أرضهم من بين أظهرهم لأن الله تعالى ذكره أوحى إليه : إني مهلكهم بعد ثلاثة . وقيل : إنه لم تهلك أمة ونبيها بين أظهرها ، فأخبر الله جلّ ثناؤه عن خروج صالح من بين قومه الذين عتوا على ربهم حين أراد الله إحلال عقوبته بهم ، فقال : فتولّى عنهم صالح ، وقال لقومه ثمود : لقد أبلغتكم رسالة ربي ، وأدّيت إليكم ما أمرني بأدائه إليكم ربي من أمره ونهيه ، ونصحت لكم في أدائي رسالة الله إليكم في تحذيركم بأسه بإقامتكم على كفركم به وعبادتكم الأوثان ، وَلَكِنْ لا تُحِبّونَ النّاصحِينَ لكم في الله الناهين لكم عن اتباع أهوائكم الصادّين لكم عن شهوات أنفسكم .
{ فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين } ظاهره أن توليه عنهم كان بعد أن أبصرهم جاثمين ، ولعله خاطبهم به بعد هلاكهم كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر وقال : " إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا " . أو ذكر ذلك على سبيل التحسر عليهم .
وأخبر الله عز وجل بفعل «صالح » في توليه عنهم وقت «عقرهم » الناقة وقولهم { ائتنا بما تعدنا } وذلك قبل نزول العذاب وكذلك روي أنه عليه السلام خرج من بين أظهرهم قبل نزول العذاب وهو الذي تقتضيه مخاطبته لهم ، وأما لفظ الآية فيحتمل أن خاطبهم وهم موتى على جهة التفجع عليهم وذكر حالهم أو غير ذلك كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر ، قال الطبري : وقيل لم تهلك أمة ونبيها معها ، وروي أنه ارتحل بمن معه حتى جاء مكة فأقام بها حتى مات ، ولفظة التولي تقتضي اليأس من خيرهم واليقين في إهلاكهم . وقوله : { لا تحبون الناصحين } عبارة عن تغليبهم الشهوات على الرأي ، إذ كلام الناصح صعب مضاد لشهوة نفس الذي ينصح ، ولذلك تقول العرب أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك .
والفاء في قوله : { فتولى عنهم } عاطفة على جملة : { فعقروا الناقة } [ الأعراف : 77 ] والتّولي الانصراف عن فراق وغضب ، ويطلق مجازاً على عدم الاكتراث بالشّيء ، وهو هنا يحتمل أن يكون حقيقة فيكون المراد به أنّه فارقَ ديار قومه حين علم أنّ العذاب نازل بهم ، فيكون التّعقيب لقوله : { فعقروا الناقة } [ الأعراف : 77 ] لأن ظاهر تعقيب التّوليَ عنهم وخطابه إياهم أن لا يكون بعد أن تأخذهم الرّجفة وأصبحوا جاثمين .
ويحتمل أن يكون مجازاً بقرينة الخطاب أيضاً ، أي فأعرض عن النّظر إلى القرية بعد اصابتها بالصّاعقة ، أو فأعرض عن الحَزن عليهم واشتغل بالمؤمنين كما قال تعالى : { لعلّك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] .
فعلى الوجه الأول يكون قوله : { يا قومِ لقد أبلغتكم } إلخ مستعملاً في التّوبيخ لهم والتّسجيل عليهم ، وعلى الوجه الثّاني يكون مستعملاً في التحَسر أو في التّبرىء منهم ، فيكون النّداء تَحسر فلا يقتضي كونَ أصحاب الاسم المنادَى ممّن يعقل النّداء حينئذ ، مثل ما تنادَى الحسرة في : يا حسرة .
وقوله : { لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم } تفسيره مثل تفسير قوله في قصّة نوح عليه السّلام : { أبلّغكم رسالات ربي وأنصح لكم } [ الأعراف : 62 ] واللاّم في ( لقد ) لام القسم ، وتقدّم نظيره عند قوله : { لقد أرسلنا نوحاً } [ الأعراف : 59 ] .
والاستدراك ب ( لكن ) ناشىء عن قوله : { لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحتُ لكم } لأنّه مستعمل في التّبرُّؤ من التقصير في معالجة كفرهم ، سواء كان بحيث هم يسمعونه أم كان قاله في نفسه ، فذلك التّبرُّؤُ يؤذن بدفع توهّم تقصير في الإبلاغ والنّصيحة لإنعدام ظهور فائدة الابلاغ والنّصيحة ، فاستدرك بقوله : { ولكن لا تحبّون النّاصحين } ، أي تكرهون النّاصحين فلا تطيعونهم في نصحهم ، لأنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع ، فأراد بذلك الكناية عن رفضهم النّصيحة .
واستعمال المضارع في قوله : { لا تحبّون } إن كان في حال سماعهم قولَه فهو للدّلالة على التّجديد والتّكرير ، أي لم يزل هذا دأبَكم فيكون ذلك آخر علاج لإقلاعهم إن كانت فيهم بقيّه للإقلاع عمّا هم فيه ، وإن كان بعد انقضاء سماعهم فالمضارع لحكاية الحال الماضية مثلها في قوله تعالى : { والله الذي أرسل الرّياح فتثير سحاباً } [ فاطر : 9 ] .