مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَٰقَوۡمِ لَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُمۡ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحۡتُ لَكُمۡ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّـٰصِحِينَ} (79)

ثم قال تعالى : { فتولى عنهم } وفيه قولان : الأول : أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا ، والدليل عليه أنه تعالى قال : { فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم } والفاء تدل على التعقيب ، فدل على أنه حصل هذا التولي بعد جثومهم والثاني : أنه عليه السلام تولى عنهم قبل موتهم ، بدليل : أنه خاطب القوم . وقال : { يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين } وذلك يدل على كونهم أحياء من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه قال لهم : { يا قوم } والأموات لا يوصفون بالقوم ، لأن اشتقاق لفظ القوم من الاستقلال بالقيام ، وذلك في حق الميت مفقود . والثاني : أن هذه الكلمات خطاب مع أولئك وخطاب الميت لا يجوز . والثالث : أنه قال : { ولكن لا تحبون الناصحين } فيجب أن يكونوا بحيث يصح حصول المحبة فيهم ، ويمكن أن يجاب عنه فنقول : قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه ، فلم يقبل تلك النصيحة حتى ألقى نفسه في الهلاك ، يا أخي منذ كم نصحتك ، فلم تقبل وكم منعتك فلم تمتنع ، فكذا ههنا ، والفائدة في ذكر هذا الكلام إما لأن يسمعه بعض الأحياء فيعتبر به وينزجر عن مثل تلك الطريقة . وإما لأجل أنه احترق قلبه بسبب تلك الواقعة . فإذا ذكر ذلك الكلام فرجت تلك القضية عن قلبه . وقيل : يخف عليه أثر تلك المصيبة ، وذكروا جوابا آخر ، وهو : أن صالحا عليه السلام خاطبهم بعد كونهم جاثمين ، كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام خاطب قتلى بدر . فقيل : تتكلم مع هؤلاء الجيف فقال : «ما أنتم بأسمع منهم لكنهم لا يقدرون على الجواب » .