قوله تعالى : { وكأين من قرية هي أشد قوةً من قريتك } أي : أشد قوة من أهل مكة . { التي أخرجتك } أي أخرجك أهلها ، قال ابن عباس : كم رجال هم أشد من أهل مكة ؟ يدل عليه قوله : { أهلكناهم } ولم يقل : أهلكناها ، { فلا ناصر لهم } قال ابن عباس : " لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال : أنت أحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إلي ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك " فأنزل الله هذه الآية .
{ 13 } { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ }
أي : وكم من قرية من قرى المكذبين ، هي أشد قوة من قريتك ، في الأموال والأولاد والأعوان ، والأبنية والآلات .
{ أهلكناهم } حين كذبوا رسلنا ، ولم تفد فيهم المواعظ ، فلا نجد لهم{[785]} ناصرا ، ولم تغن عنهم قوتهم من عذاب الله شيئا .
فكيف حال هؤلاء الضعفاء ، أهل قريتك ، إذ أخرجوك عن وطنك وكذبوك ، وعادوك ، وأنت أفضل المرسلين ، وخير الأولين والآخرين ؟ !
أليسوا بأحق من غيرهم بالإهلاك والعقوبة ، لولا أن الله تعالى بعث رسوله بالرحمة والتأني بكل كافر وجاحد ؟
ثم سلى - سبحانه - نبيه عما أصابه منهم من أذى فقال : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } .
وكلمة { كَأَيِّن } مركبة من كاف التشبيه وأى الاستفهامية المنونة ، ثم هجر معنى جزأيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية الدالة على التكثير ، ويكنى بها عن عدد مبهم فتحتاج إلى تميز بعدها . وهى مبتدأ . . وقوله : { أَهْلَكْنَاهُمْ } خبرها . و { مِّن قَرْيَةٍ } تمييز لها . والمراد بالقرية أهلها ، وهم مشركو قريش .
أى : وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك التى أخرجوك منها - أيها الرسول الكريم - فترتب على فعلهم هذا أن أهلكناهم دون أن ينصرهم من عقابنا ناصر ، أو أن يجيرهم من عذابنا مجير .
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة ، فى تكذيبهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد المرسلين ، وخاتم النبيين .
روى ابن أبى حاتم ، بسنده - عن ابن عباس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من مكة إلى الغار ، التفت إليها وقال : يا مكة : أنت أحب بلاد الله إلى الله وأنت أحب بلاد الله إلىَّ ، ولو أن المشركين لم يخرجونى لم أخرج منك . . فأنزل الله هذه الآية .
وتعترض سلسلة الموازنات بين الذين آمنوا والذين كفروا لفتة إلى القرية التي أخرجت الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وموازنة بينها وبين القرى الهالكة وكانت أشد قوة منها :
وكأي من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم . .
وهي آية يروى أنها نزلت في الطريق بين مكة والمدينة في أثناء رحلة الخروج والهجرة ، تسلية للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وتسرية عنه ؛ وتهوينا من شأن المشركين الجبارين الذين وقفوا في وجه الدعوة ، وآذوا أصحابها ، حتى هاجروا من أرضهم وأهلهم وأموالهم فرارا بعقيدتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدّ قُوّةً مّن قَرْيَتِكَ الّتِيَ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } .
يقول تعالى ذكره : وكم يا محمد من قرية هي أشدّ قوّة من قريتك ، يقول أهلها أشدّ بأسا ، وأكثر جمعا ، وأعدّ عديدا من أهل قريتك ، وهي مكة ، وأخرج الخبر عن القرية ، والمراد به أهلها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وكأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أشَدّ قُوّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الّتي أخْرَجَتْكَ أهْلَكْناهُمْ قال : هي مكة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله وكأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أشَدّ قُوّةً مِنْ قَرْيَتِكَ قال : قريته مكة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن حبيش ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، لما خرج من مكة إلى الغار ، أراه قال : التفت إلى مكة ، فقال : «أنْتِ أحَبّ بِلادِ اللّهِ إلى اللّهِ ، وأنْتِ أحَبّ بِلادِ اللّهِ إليّ ، فَلَوْ أنّ المُشْركِينَ لَمْ يُخْرِجُوني لَمْ أخْرُجْ مِنْكِ ، فَأعْتَىَ الأعْداءِ مَنْ عَتا على اللّهِ في حَرَمِهِ ، أوْ قَتَلَ غيرَ قاتِلِهِ ، أوْ قَتَلَ بذُحُولِ الجاهِلِيّةِ » ، فأنزل الله تبارك وتعالى : وكأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أشَدّ قُوّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الّتي أخْرَجَتْكَ أهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ وقال جلّ ثناؤه : أخرجتك ، فأخرج الخبر عن القرية ، فلذلك أنّث ، ثم قال : أهلكناهم ، لأن المعنى في قوله أخرجتك ، ما وصفت من أنه أريد به أهل القرية ، فأخرج الخبر مرّة على اللفظ ، ومرّة على المعنى .
وقوله : فَلا ناصِرَ لَهُمْ فيه وجهان من التأويل : أحدهما أن يكون معناه ، وإن كان قد نصب الناصر بالتبرئة ، فلم يكن لهم ناصر ، وذلك أن العرب قد تضمر كان أحيانا في مثل هذا . والاَخر أن يكون معناه : فلا ناصر لهم الاَن من عذاب الله ينصرهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وكم يا محمد من قرية هي أشدّ قوّة من قريتك، يقول أهلها أشدّ بأسا، وأكثر جمعا، وأعدّ عديدا من أهل قريتك، وهي مكة، وأخرج الخبر عن القرية، والمراد به أهلها...
وقوله:"فَلا ناصِرَ لَهُمْ" فيه وجهان من التأويل: أحدهما أن يكون معناه، وإن كان قد نصب الناصر بالتبرئة، فلم يكن لهم ناصر، وذلك أن العرب قد تضمر كان أحيانا في مثل هذا. والآخر أن يكون معناه: فلا ناصر لهم الآن من عذاب الله ينصرهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كأن سُنّة الله تعالى في الذين كانوا من قبل أنه إذا أخرج الرسل عليهم السلام من بين أظهرهم أهلكهم، فيخبر أن أهل مكة قد استوجبوا العذاب، إذ أُخرجت من بين أظهرهم، كما استوجب أولئك الكفرة. لكن الله بفضله ورحمته أخّر ذلك عنهم لأنه بعثك إليهم رحمة كقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107] أو أخّر عنهم لما وعد أنه خاتم الأنبياء عليهم السلام لتبقى شريعته ورسالته إلى يوم القيامة. ولو أهلكهم، واستأصلهم على ما فعل بأولئك لانقطعت رسالته وشريعته، وقد وعد أنها تبقى، وأنه رحمة لهم، وأنه لا يُخلف الميعاد. ثم أخبر أن أولئك الكفرة أكثر أهلا وأشد قوة وبطشا من هؤلاء، ثم لم يتهيأ لهم دفع ما نزل بهم بقوتهم في أنفسهم وبطشهم، ولا كان لهم ناصر ينصرهم من عذاب الله، ولا مانع يمنعهم عنه. فأنتم يا أهل مكة أولى أن تدفعوا عن أنفسكم العذاب إذا نزل بكم، والله أعلم. ثم قوله تعالى: {أخرجتك} أضاف الإخراج إلى قومه، وهم لم يتولّوا إخراجه بأنفسهم، بل اضطرّوه حتى خرج هو بنفسه، لكنه أضاف الإخراج إليهم لأن سبب خروجه من بينهم كان منهم، فكأن قد أخرجوه، وهو كما ذكر من إخراج الشيطان آدم وحواء عليهما السلام من الجنة بقوله: {فأخرجهُما ممّا كانا} [البقرة: 36] والشيطان لم يتولّ إخراجهما حقيقة. لكن لما كان منه من أشياء؛ حملهما ذلك على الخروج، فكأنه وُجد الإخراج منه. وأصله أن الأشياء والأفعال ربّما تُنسب إلى أسبابها، وإن لم [يكن] لتلك الأسباب حقيقة الأفعال، والله أعلم.
وقوله تعالى: {فلا ناصر لهم} هو خبر من الله تعالى، أي لا يكون لهم ناصر، وهو يحتمل وجهين: أحدهما: لا يكون لهم ناصر في الآخرة. والثاني: على إضمار، أي لم يكن لهم ناصر وقت ما عُذّبوا في الدنيا، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وأراد بالقرية أهلها، ولذلك قال: {أهلكناهم} كأنه قال: وكم من قوم هم أشد قوّة من قومك الذين أخرجوك أهلكناهم. ومعنى أخرجوك: كانوا سبب خروجك. فإن قلت: كيف قال: {فَلاَ ناصر لَهُمْ}؟ وإنما هو أمر قد مضى. قلت: مجراه مجرى الحال المحكية، كأنه قال: أهلكناهم فهم لا ينصرون.
{وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم} وكانوا أشد من أهل مكة كذلك نفعل بهم، فاصبر كما صبر رسلهم، وقوله {فلا ناصر لهم} قال الزمخشري كيف قوله {فلا ناصر لهم} مع أن الإهلاك ماض، وقوله {فلا ناصر لهم} للحال والاستقبال؟ والجواب أنه محمول على الحكاية والحكاية كالحال الحاضر، ويحتمل أن يقال أهلكناهم في الدنيا فلا ناصر لهم ينصرهم ويخلصهم من العذاب الذي هم فيه، ويحتمل أن يقال قوله {فلا ناصر لهم} عائد إلى أهل قرية محمد عليه السلام كأنه قال أهلكنا من تقدم أهل قريتك ولا ناصر لأهل قريتك ينصرهم ويخلصهم مما جرى على الأولين...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ}، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة، في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد المرسلين وخاتم الأنبياء، فإذا كان الله، عز وجل، قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببهم، وقد كانوا أشد قوة من هؤلاء، فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والأخرى؟ فإن رفع عن كثير منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة، فإن العذاب يوفر على الكافرين به في معادهم، {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20]...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وكأين} ولما كانت قوة قريش في الحقيقة ببلدهم، وكان الإسناد إليها أدل على تمالئ أهلها وشدة اتفاقهم حتى كأنهم كالشيء الواحد قال-: {من قرية} أي كذبت رسولها {هي أشد قوة} وأكثر عدة {من قريتك} ولما كان إنزال هذه بعد الهجرة، عين فقال: {التي أخرجتك} أي أخرجك أهلها متفقين في أسباب الإخراج من أنواع الأذى على كلمة واحدة حتى كأن قلوبهم قلب واحد فكأنها هي المخرجة -وهي مكة- كذبوك وآذوك حتى أخرجناك من عندهم لننصرك عليهم بمن أيدناك بهم من قريتك هذه التي آوتك من الأنصار نصراً جارياً على ما تألفونه وتعتادونه {أهلكناهم} بعذاب الاستئصال كما اقتضت عظمتنا، وحكى حالهم الماضية بقوله: {فلا ناصر لهم}.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: وكم من قرية من قرى المكذبين، هي أشد قوة من قريتك، في الأموال والأولاد والأعوان، والأبنية والآلات...
فكيف حال هؤلاء الضعفاء، أهل قريتك، إذ أخرجوك عن وطنك وكذبوك، وعادوك، وأنت أفضل المرسلين، وخير الأولين والآخرين؟! أليسوا بأحق من غيرهم بالإهلاك والعقوبة، لولا أن الله تعالى بعث رسوله بالرحمة والتأني بكل كافر وجاحد؟...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكأي من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم.. وهي آية يروى أنها نزلت في الطريق بين مكة والمدينة في أثناء رحلة الخروج والهجرة، تسلية للرسول [صلى الله عليه وسلم] وتسرية عنه؛ وتهوينا من شأن المشركين الجبارين الذين وقفوا في وجه الدعوة، وآذوا أصحابها، حتى هاجروا من أرضهم وأهلهم وأموالهم فرارا بعقيدتهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وإطلاق الإخراج على ما عامل به المشركون النبي صلى الله عليه وسلم من الجفاء والأذى ومقاومة نشر الدين إطلاق من قبيل الاستعارة لأن سوء معاملتهم إياه كان سبباً في خروجه من مكة وهي قريته، فشبه سبب الخروج بالإخراج ثم أطلق عليه فعل {أخرجتك}، وليس ذلك بإخراج وإنما هو خروج فإن المشركين لم يُلجِئوا النبي صلى الله عليه وسلم بالإخراج بل كانوا على العكس يرصدون أن يمنعوه من الخروج خشيَة اعتصامه بقبائل تنصره فلذلك أخفَى على الناس أمر هجرته إلا عن أبي بكر رضي الله عنه... والمقصود: التذكير بأن أمثال هؤلاء المشركين لم يجدوا دافعاً يدفع عنهم الإهلاك، وذلك تعريض بتأييس المشركين من إلفاء ناصر ينصرهم في حربهم للمسلمين قطعاً لما قد يخالج نفوس المشركين أنهم لا يغلبون لتظاهر قبائل العرب معهم، ولذلك حزبوا الأحزاب في وقعة الخندق...