قوله تعالى : { قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس } اخترتك على الناس ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو إني بفتح الياء وكذلك ( أخي ) ( اشدد ) .
قوله تعالى : { برسالاتي } ، قرأ أهل الحجاز برسالتي على التوحيد ، والآخرون بالجمع . قوله تعالى : { وبكلامي فخذ ما آتيتك } أعطيتك .
قوله تعالى : { وكن من الشاكرين } لله على نعمته . فإن قيل : فما معنى قوله { اصطفيتك على الناس برسالاتي } وقد أعطي غيره الرسالة ؟ قيل : لما لم تكن الرسالة على العموم في حق الناس كافة استقام قوله { اصطفيتك على الناس } وإن شاركه فيه غيره ، كما يقول الرجل : خصصتك بمشورتي ، وإن شاور غيره إذا لم تكن المشورة على العموم يكون مستقيماً ، وفي القصة : أن موسى عليه السلام كان بعدما كلمه ربه لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشي وجهه من النور ، ولم يزل على وجهه برقع حتى مات ، وقالت له امرأته : أنا أرك منذ كلمك ربك ، فكشف لها وجهه فأخذها مثل شعاع الشمس ، فوضعت يدها على وجهها وخرت لله ساجدة ، وقالت : ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة ، قال : ذاك إن لم تتزوجي بعدي ، فإن المرأة لآخر أزواجها .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو عبد الله محمد ابن علي المزكي ، أنا أبو العباس محمد بن أحمد بن إسحاق السراج ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا رشد بن أسعد ، عن سعيد بن عبد الرحمن المغافري ، عن أبيه ، عن كعب الأحبار ، أن موسى نظر في التوراة فقال : إني أجد أمة خير الأمم أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله وبالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ، ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال ، رب اجعلهم أمتي ، قال : هي أمة محمد يا موسى ، فقال : ربي إني أجد أمةً هم الحمادون لله على كل حال ، رعاة الشمس المحكمون ، إذا أرادوا أمراً قالوا : نفعل إن شاء الله ، فاجعلهم أمتي ، قال : هي أمة محمد ، فقال : رب إني أجد أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم ، وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار ، وهم المستجيبون والمستجاب لهم ، الشافعون المشفوع لهم ، فاجعلهم أمتي ، قال : هي أمة محمد ، فقال : يا رب ، إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبر الله ، فإذا هبط وادياً حمد الله ، الصعيد لهم طهور ، والأرض لهم مسجد حيثما كانوا ، يتطهرون من الجنابة ، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء ، غر محجلون من آثار الوضوء ، فاجعلهم أمتي ، قال : هي أمة أحمد ، فقال : رب إني أجد أمة إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة مثلها ، وإن عملها كتبت بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه ، وإن عملها كتبت له سيئة مثلها ، فاجعلهم أمتي ، قال : هي أمة أحمد ، فقال : رب إني أجد أمة مرحومةً ، ضعفاء يرثون الكتاب من الذين اصطفيتهم ، فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم مقتصد ، ومنهم سابق بالخيرات ، فلا أجد أحداً منهم إلا مرحوماً ، فاجعلهم أمتي ، قال : هي أمة محمد ، قال : رب إني أجد أمة مصاحفهم في صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة ، يصفون في صلاتهم صفوف الملائكة ، أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل ، لا يدخل النار أحد منهم أبداً إلا من يرى الحساب مثل ما يرى الحجر من وراء البحر ، فاجعلهم أمتي ، قال : هي أمة أحمد ، فما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته قال : يا ليتني من أصحاب محمد ، فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن : { يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } إلى قوله : { سأريكم دار الفاسقين } { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } ، فرضي موسى كل الرضا .
يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ أي : اخترتك واجتبيتك وفضلتك وخصصتك بفضائل عظيمة ، ومناقب جليلة ، بِرِسَالاتِي التي لا أجعلها ، ولا أخص بها إلا أفضل الخلق .
وَبِكَلامِي إياك من غير واسطة ، وهذه فضيلة اختص بها موسى الكليم ، وعرف بها من بين إخوانه من المرسلين ، فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ من النعم ، وخذ ما آتيتك من الأمر والنهي بانشراح صدر ، وتلقه بالقبول والانقياد ، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لله على ما خصك وفضلك .
ثم حكى القرآن بعد ذلك ما كرم الله - تعالى - به موسى - عليه السلام فقال : { قَالَ ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } .
الاصطفاء . افتعال من الصفوة ، وصفوة الشىء خالصة وخياره أى : قال الله تعالى - لموسى إنى اخترتك واجتبيتك على الناس الموجودين في زمانك لأن الرسل كانوا قبل موسى وبعده ، فهو اصطفاء على جيل معين من الناس بحكم هذه القرينة .
وقوله { بِرِسَالاَتِي } أى : بأسفار التوراة ، أو بإرسالى إياك إلى من أرسلت إليهم . و { بِكَلاَمِي } أى : بتكليمى إياك بغير واسطة قال - تعالى - { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } والجملة الكريمة مسوقة لتسليته - عليه السلام - عما أصابه من عدم الرؤية فكأنه - سبحانه - يقول له : إن منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما أعطيتك فاغتنمه ودم على شكرى .
وقدم الرسالة على الكلام لأنها أسبق ، أو ليترقى إلى الأشرف .
ثم قال - تعالى - { فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشاكرين } أى : فخذ يا موسى ما أعطيتك من شرف الاصطفاء والنبوة والمناجاة وكن من الراسخين في الشكر على ما أنعمت به عليك ، فأنت أسوة وقدوة لأهل زمانك .
وأدركت موسى رحمة الله مرة أخرى ؛ فإذا هو يتلقى منه البشرى . . بشرى الاصطفاء ، مع التوجيه له بالرسالة إلى قومه بعد الخلاص . . وكانت رسالته إلى فرعون وملئه من أجل هذا الخلاص :
( قال : يا موسى ، إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين )
ونفهم من قول الله سبحانه لموسى - عليه السلام - ( اني اصطفيتك على الناس برسالاتي ) أن المقصود بالناس الذين اصطفاه عليهم هم أهل زمانه - فالرسل كانوا قبل موسى وبعده - فهو الاصطفاء على جيل من الناس بحكم هذه القرينة . أما الكلام فهو الذي تفرد به موسى - عليه السلام - أما أمر الله تعالى لموسى بأخذ ما آتاه ، والشكر على الاصطفاء والعطاء ، فهو أمر التعليم والتوجيه لما ينبغي أن تقابل به نعمة الله . والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - قدوة للناس ؛ وللناس فيهم أسوة ؛ وعلى الناس أن يأخذوا ما آتاهم الله بالقبول والشكر استزادة من النعمة ؛ وإصلاحاً للقلب ؛ وتحرزا من البطر ؛ واتصالاً بالله . .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَمُوسَىَ إِنّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ الشّاكِرِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : قال الله لموسى : يا مُوسَى إنّي اصْطَفَيْتُكَ على النّاسِ يقول : اخترتك على الناس بِرَسالاتِي إلى خلقي ، أرسلتك بها إليهم . وَبِكَلامي كلمتك وناجيتك دون غيرك من خلقي . فَخُذْ ما آتَيْتُكَ يقول : فخذ ما أعطيتك من أمري ونهي وتمسك به ، واعمل به ، يريد وكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ لله على ما آتاك من رسالته ، وحصل به من النجوى بطاعته في أمره ونهيه والمسارعة إلى رضاه .
{ قال يا موسى إني اصطفيتك } اخترتك . { على الناس } أي الموجودين في زمانك ، وهارون وان كان نبيا كان مأمورا باتباعه ولم يكن كليما ولا صاحب شرع . { برسالاتي } يعني أسفار التوراة وقرأ ابن كثير ونافع " برسالتي " . { وبكلامي } وبتكليمي إياك . { فخذ ما آتيتك } أعطيتك من الرسالة . { وكن من الشاكرين } على النعمة فيه . روي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة ، وإعطاء التوراة كان يوم النحر .