اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّي ٱصۡطَفَيۡتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِي وَبِكَلَٰمِي فَخُذۡ مَآ ءَاتَيۡتُكَ وَكُن مِّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

قوله : { يا موسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس } . الاصطفاء : استخلاص الصَّفْوَةِ أي : اخترتك واتَّخذتك صفوة على النَّاس .

قال ابنُ عبَّاسٍ : " فَضَّلتُكَ على النَّاسِ{[16789]} " . قرأ{[16790]} ابن كثير ، وأبو عمرو إنِّيَ بفتح الياء ، وكذلك { أَخِي اشدد } [ طه : 30 ، 31 ] .

قوله برسالاتي أي : بسبب .

وقرأ الحرميَّان{[16791]} : برِسالتِي بالإفراد ، والمُرادُ به المصدر ، أي : بإرْسَالي إيَّاك ، ويجوزُ أن يكون على حذفِ مضاف ، أي : بتبليغ رسالتي . والرِّسالةُ : نَفْسُ الشَّيء المرسل به إلى الغير .

وقرأ الباقون بالجمع اعتباراً بالأنواعِ ، وقد تقدَّم ذلك في المائدةِ والأنعام .

قال القرطبيُّ{[16792]} : ومن جمع على أنه أرسل بضروب من الرسالةِ فاختلف أنواعها ، فجمع المصدر لاختلاف أنواعه ؛ كقوله : { إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير } [ لقمان : 19 ] واختلاف المصوتين ، ووحَّدَ في قوله : لصوتُ لما أراد به جنساً واحداً من الأصوات .

قوله : " وَبِكلامي " هي قراءة العامَّةِ ، فيحتملُ أن يُرادَ به المصدرُ ، أي : بتكليمي إيَّاكَ ، كقوله : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] وقوله : [ الطويل ]

. . . *** تُكَلِّمنِي فيها شِفَاءٌ لِمَا بِيَا{[16793]}

أي : بتكليمي إيَّاهَا ، ويحتملُ أن يراد به التَّوراة ، وما أوحاه إليه من قولهم للقرآن " كلام الله " تسميةً للشيء بالمصدر . وقدَّم الرِّسالةَ على الكلام ؛ لأنَّها أسبق ، أو ليترقَّى إلى الأشرفِ ، وكرَّر حرف الجرِّ ، تنبيهاً على مغايرة الاصطفاء .

وقرأ الأعمش{[16794]} : " بِرِسَالاتِي وبِكلمِي " جمع " كلمة " وروى عنه المهدويُّ{[16795]} أيضاً " وتكليمي " على وزن التَّفعيل ، وهي تؤيِّدُ أنَّ الكلامَ مصدرٌ .

وقرأ أبو رجاء{[16796]} " بِرِسالتِي " بالإفراد و " بِكَلِمي " بالجمع ، أي : وبسمَاع كلمي .

فصل

لما طلب موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الرؤية ومنعه الله تعالى ، عدد عليه وجوه نعمه العظيمة ، وأمره بشكرها .

كأنَّهُ قال له : إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النِّعَمِ العظيمة كذا وكذا ، فلا يضيقُ صدرُكَ بسبب منع الرُّؤيةِ ، وانظر إلى أنواع النِّعمِ التي خَصَصْتُك بها واشتغل بشكرها ، والمراد : تسليةُ موسى - عليه الصلاة والسلام - عن منع الرؤية .

فإن قيل : كيف اصطفاهُ على النَّاسِ برسالاته مع أنَّ كثيراً من النَّاسِ قد سَاوَاهُ في الرسالةِ ؟ فالجوابُ : أنَّهُ تعالى بيَّن أنَّهُ خصَّهُ من دون النَّاسِ بمجموع الأمرين : وهو الرسالة مع الكلام بغير واسطة ، وهذا المجموع لم يحصل لغيره ، وإنَّما قال : " عَلَى النَّاسِ " ولم يقل : على الخلق ؛ لأنَّ الملائكة تسمع كلام اللَّهِ من غير واسطة كما سمعه موسى .

قال القرطبيُّ : " وَدَلَّ هذا على أنَّ قومه لم يشاركه أحدٌ منهم في التَّكليم ولا أحد من السَّبعين " .

وقوله : { فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ } أي : اقْنَعْ بما أعطيتك . { وَكُنْ مِّنَ الشاكرين } ، أي : المظهرين لإحسانِي إليك ، وفضلي عليك .

يقال : دَابَّةٌ شكورٌ ، إذا ظهر عليها من السِّمن فوق ما تُعْطَى من العَلَف ، والشَّاكِرُ متعرض للمزيد ؛ كما قال تعالى : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] .


[16789]:ذكره الرازي في تفسيره 14/190 عن ابن عباس.
[16790]:ينظر: إتحاف 2/62.
[16791]:ينظر: السبعة 293، والحجة 4/77، وإعراب القراءات 1/207، وحجة القراءات 295، وإتحاف 2/62.
[16792]:ينظر: تفسير القرطبي 7/187.
[16793]:عجز بيت لذي الرمة وصدره: ألا هل إلى مي سبيل وساعة ينظر ملحقات ديوانه (670)، الهمع 2/95، الدرر 5/263 شرح المفصل 1/21، الدر المصون 3/339.
[16794]:ينظر: البحر المحيط 4/385، والدر المصون 3/340.
[16795]:ينظر: السابق.
[16796]:السابق.