الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّي ٱصۡطَفَيۡتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِي وَبِكَلَٰمِي فَخُذۡ مَآ ءَاتَيۡتُكَ وَكُن مِّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قال} له ربه: {يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي}، يقول: اخترتك من بني إسرائيل بالرسالة وبالكلام من غير وحي، {فخذ ما آتيتك} بقوة، يقول: ما أعطيتك من التوراة بالجد، والمواظبة عليه، {وكن من الشاكرين} لله في هذه النعم، يعني الرسالة والكلام من غير وحي.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: قال الله لموسى:"يا مُوسَى إنّي اصْطَفَيْتُكَ على النّاسِ" يقول: اخترتك على الناس بِرَسالاتِي إلى خلقي، أرسلتك بها إليهم. وَبِكَلامي كلمتك وناجيتك دون غيرك من خلقي. "فَخُذْ ما آتَيْتُكَ "يقول: فخذ ما أعطيتك من أمري ونهيي وتمسك به، واعمل به، يريد وكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ لله على ما آتاك من رسالته، وحصل به من النجوى بطاعته في أمره ونهيه والمسارعة إلى رضاه...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

سمّى الله عز وجل، موسى وسائر الأنبياء، صلوات الله عليهم وسلامه، بأسماء الجوهر موسى وعيسى ونوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وسمّى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، نبيا رسولا وذلك يدل على تفضيله، وكذلك سمّى سائر الأمم المتقدمة؛ يابني إسرائيل، ويابني آدم، وسمى أمّة محمد صلى الله عليه وسلم،: {يا أيها الذين آمنوا} [النساء: 59] وقال: {كنتم خير أمّة} [آل عمران: 110] ونحوه. فذلك يدل على تفضيل أمّة محمد على غيرها من الأمم. وقوله تعالى: {إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي} كان مصطفى ومفضّلا بالكلام على الناس كافة، الأنبياء وغيرهم؛ لأن الله تعالى لم يكلم أحدا من الرسل إلا بسفير سوى موسى، فإنه كلّمه، ولم يكن بينهما سفير. وأما قوله: {اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} على ناس زمانه وأهله خاصة. ويحتمل: {برسالاتي} التي بين موسى وبين الله تعالى. وقوله تعالى: {فخذ ما آتيتك} يخرّج على وجهين: أحدهما: القبول، أي اقبل ما أعطيتك كقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103]. والثاني يحتمل قوله تعالى: {فخذ ما آتيتك} أي اعمل بأحسن العمل {وكن من الشاكرين} لنعمه التي أنعمها عليك من التكليم والرسالة وغيرهما من النعم.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

ومعنى الاصطفاء: استخلاص الصفوة لما لها من الفضيلة. والفضائل على وجوه كثيرة: أجلها قبول الأخلاق الكريمة والأفعال الجميلة، ولهذا المعنى اصطفي موسى (عليه السلام) حتى استحق الرسالة، وأن يكلم بتلقين الحكمة. وقوله تعالى "برسالاتي وبكلامي "فيه بيان ما به اصطفاه وهو أن جعله نبيا وخصه بكلامه بلا واسطة، وهما نعمتان عظيمتان منه تعالى عليه، فلذلك امتن بهما عليه، وإنما صار في كلام الجليل نعمة على المكلم، لأنه كلمه بتعليم الحكمة من غير واسطة بينه وبين موسى، ومن أخذ العلم عن العالم المعظم كان أجل رتبة. "وكن من الشاكرين" يعني من المعترفين بنعمتي، والشكر هو: الاعتراف بالنعمة مع القيام بحقها على حسب مرتبتها، فاذا كانت من أعظم النعم، وجب أن تقابل بأعظم الشكر، وهو شكر العباد لله وحده على وجه الإخلاص له.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

هذا الخطاب لِتَدَارُكِ قلب موسى -عليه السلام- بكل هذا الرِّفق، كأنه قال: يا موسى، إني منعتُكَ عن شيء واحد وهو الرؤية، ولكني خصصتُك بكثيرٍ من الفضائل؛ اصطفيتُك بالرسالة، وأكرمتُك بشرف الحالة، فاشكرْ هذه الجملة، واعرفْ هذه النعمة... وفي قوله سبحانه: {وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} إشارة لطيفة كأنه قال: لا تكن من الشاكين، أي إِنْ منعتُكَ عن سُؤْلِك، ولم أعْطِك مطلوبَك فلا تَشْكُنِي إذا انصرفتَ...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{اصطفيتك عَلَى الناس} اخترتك على أهل زمانك وآثرتك عليهم {برسالاتي} وهي أسفار التوراة {وبكلامي}: وبتكليمي إياك، {فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ}: ما أعطيتك من شرف النبوّة والحكمة، {وَكُنْ مّنَ الشاكرين} على النعمة في ذلك فهي من أجلّ النعم...

فإن قلت: كيف قيل؛ اصطفيتك على الناس وكان هارون مصطفى مثله نبياً؟ قلت: أجل، ولكنه كان تابعاً له وردءاً وزيراً. والكليم: هو موسى عليه السلام، والأصيل في حمل الرسالة.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

ثم إن الله تعالى قرر موسى على آلائه عنده على جهة الإخبار وقَّنعه بها وأمره بالشكر عليها، وكأنه قال: ولا تتعداها إلى غيرها، و «اصطفى» أصله: اصتفى، وهو افتعل من صفا يصفو انقلبت التاء طاء لمكان الصاد، ومعناه: تخيرتك وخصصتك، ولا تستعمل إلا في الخير والمن، لا يقال اصطفاه لشر، وقوله {على الناس} عام والظاهر من الشريعة أن موسى مخصص بالكلام وإن كان قد روي في تكليم الله غيره أشياء بما يشاء من أعظمها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن آدم فقال هو نبي مكلَّم...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

... {فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين} يعني فخذ هذه النعمة، ولا يضيق قلبك بسبب منعك الرؤية، واشتغل بشكر الفوز بهذه النعمة والاشتغال بشكرها إنما يكون بالقيام بلوازمها علما وعملا والله أعلم.

الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :

فيه تأديبٌ، وتقنيعٌ، وحملٌ على جادَّة السلامة، ومثالٌ لكلِّ أحدٍ في حاله، فإِن جميع النِّعم من عند اللَّه سبحانه بمْقدَارٍ، وكُلُّ الأمور بِمَرْأًى منه ومَسْمَعٍ.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وأدركت موسى رحمة الله مرة أخرى؛ فإذا هو يتلقى منه البشرى.. بشرى الاصطفاء، مع التوجيه له بالرسالة إلى قومه بعد الخلاص.. وكانت رسالته إلى فرعون وملئه من أجل هذا الخلاص ونفهم من قول الله سبحانه لموسى -عليه السلام- (اني اصطفيتك على الناس برسالاتي) أن المقصود بالناس الذين اصطفاه عليهم هم أهل زمانه -فالرسل كانوا قبل موسى وبعده- فهو الاصطفاء على جيل من الناس بحكم هذه القرينة. أما الكلام فهو الذي تفرد به موسى -عليه السلام- أما أمر الله تعالى لموسى بأخذ ما آتاه، والشكر على الاصطفاء والعطاء، فهو أمر التعليم والتوجيه لما ينبغي أن تقابل به نعمة الله. والرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- قدوة للناس؛ وللناس فيهم أسوة؛ وعلى الناس أن يأخذوا ما آتاهم الله بالقبول والشكر استزادة من النعمة؛ وإصلاحاً للقلب؛ وتحرزا من البطر؛ واتصالاً بالله..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... والاصطفاء افتعال مبالغة في الإصفاء وهو مشتق من الصّفْو، وهو الخلوص مما يكدر، وتقدم عند قوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحاً} في سورة آل عمران (33) وضمن اصطفيتك معنى الإيثار والتفضيل فعُدي بعَلَى.

والمراد بالناس: جميع الناس، أي الموجودين في زمنه، فالاستغراق في {الناس} عرفي أي هو مفضل على الناس يومئذٍ لأنه رسول، ولتفضيله بمزية الكلام، وقد يقال إن موسى أفضل جميع الناس الذين مضَوا يومئذٍ، وعلى الاحتمالين: فهو أفضل من أخيه هارون، لأن موسى أرسل بشريعة عظيمة، وكلمه الله، وهارون أرسله الله معاوناً لموسى ولم يكلمه الله، ولذلك قال: {برسالتي وبكلامي} وما ورد في الحديث من النهي عن التفضيل بين الأنبياء محمول على التفضيل الذي لا يستند لدليل صريح، أو على جعل التفضيل بين الأنبياء شُغلاً للناس في نواديهم بدون مقتض معتبر للخوض في ذلك. وهذا امتنان من الله وتعريف. ثم فرع على ذلك قوله: {فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين} والأول تفريع على الإرسال وَالتكليم. والثاني تفريع على الامتنان، وما صْدقُ {ما آتيتك} قيل هو الشريعة والرسالة، فالإيتاء مجاز أطلق على التعليم والإرشاد، والأخذ مجاز في التلقي والحفظ، والأظهر أن يكون {ما آتيتك} إعطاءَ الألواح بقرينة قوله: {وكتبنا له في الألواح} [الأعراف: 145] وقد فُسر بذلك، فالإيتاء حقيقة، والأخذ كذلك، وهذا أليق بنظم الكلام مع قوله: {فخذها بقوة} [الأعراف: 145] وَيحصل به أخذ الرسالة والكلام وزيادة.

والإخبار عن {كُن} بقوله: {من الشاكرين} أبلغُ من أن يقالُ كن شاكراً كما تقدم في قوله: {قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين} في سورة الأنعام (56)...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

نادى الله تعالى نبيه موسى، وبين ما ميزه به على أهل جيله، وعلى كثير من الأنبياء ناداه {يا موسى} وفي النداء بالاسم نوع إدناء وتقريب، وإبداء للمحبة، والدنو منه.وقوله: {برسالاتي}، وهي جمع رسالة، وجمعت لشمول شريعة التوراة التي نزلت على موسى – عليه السلام – من عقائد التوحيد والتنزيه وشرائع الزواجر الاجتماعية من قصاص وحدود، وشرائع مدنية في معاملات الناس وتحريم الربا، وأحكام الأسرة؛ وبعبارة أعم في التوراة شرائع كثيرة جامعة ضمت رسالات. وقوله تعالى: {وبكلامي}، وبكوني اختصصتك من بين الأنبياء بأن كلمتك من وراء حجاب، وليس ذلك دليلا على فضله المطلق عليهم، بل هو من هذه الناحية وليس فضلا من كل النواحي.

وقال تعالى بعد بيان اختصاص موسى بأنه كليم الله، واختياره للرسالات كاملة وإن لم تكن النهائية {فخذ ما آتيتك} (الفاء) هنا فاء الإفصاح، أي فإذا كنت قد اخترتك من بين الناس بالرسالات وبكلامي، فخذ ما أعطيتك، واقنع به، {وكن من الشاكرين} الذين تظهر النعم عليهم، ولا تطلب الزيادة على ذلك بالرؤية، فإن هذا ليس لك.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{فَخُذْ مَآ ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّكِرِينَ} لله بالإخلاص له في أداء رسالته، وتحويلها إلى خطٍّ للفكر وللحياة، فذلك هو الشكر العملي الإيجابي في موضوع الرسالة، بالإضافة إلى الشكر الشعوري الذي يتمثل بحالة الامتنان الروحي في الداخل. اخترتك من بين الناس لما تملكه من صفاء الإيمان ووضوحه وعمقه، ومن قوّةٍ العزيمة، وصلابة الإرادة، وصدق الموقف، وصبر المعاناة، وهذا ما يجعل للأنبياء صفةً مميّزةً يستحقّون بها اختصاص الله لهم برسالاته، لأنّ الذي يحمل الرسالة لا بد أن يعيش روحيّتها وأخلاقيتها وأفقها الواسع، ويمتلك الخصائص الفكرية والعمليّة التي تجعل من تجربته، في خط الرسالة وحركتها، تجربةً ناجحةً على مستوى القدوة العظيمة في حساب النتائج الرسالية للحياة.