ثم قال تعالى : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } أي : مضت { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ } أي : كل له عمله ، وكل سيجازى بما فعله ، لا يؤخذ{[101]} أحد بذنب أحد ولا ينفع أحدا إلا إيمانه وتقواه فاشتغالكم بهم وادعاؤكم ، أنكم على ملتهم ، والرضا بمجرد القول ، أمر فارغ لا حقيقة له ، بل الواجب عليكم ، أن تنظروا حالتكم التي أنتم عليها ، هل تصلح للنجاة أم لا ؟
ثم حذر الله - تعالى - أهل الكتاب من ترك طاعته اتكالا على انتسابهم لآباء كانوا أنبياء أو صالحين فقال تعالى : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
الإِشارة ب { تِلْكَ } إلى إبراهيم وبنيه ، أي أن إبراهيم وذريته ، أمة قد مضت وانقرضت ، لها جزاء ما كسبت من خير أو شر ، ولا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم في الدنيا فلا يقال لكم على وجه المحاسبة لم عملوا كذا وإنما ستسألون عن أعمالكم وحدها فأصلحوها وحسنوها ، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي هو دعوة إبراهيم - عليه السلام - وعلى دينه وملته .
فالآية الكريمة واردة لتقرير سنة من سنن الله العامة في خلقه وهي أن لكل نفس وحدها ثواب ما كسبت من خير وعليها وحدها يقع عقاب ما اكتسبت من شر . وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت بوضوح لبني إسرائيل وغيرهم أن ملة إبراهيم الإِسلام وأنه هو ويعقوب - عليهما السلام - قد أوصيا أبناءهما بأن يثبتوا على هذه الملة حتى الموت ، وأن أبناء يعقوب قد عاهدوه عند موته أن يستمروا على ملته وملة إبراهيم عليهما السلام .
وهذا الذي بينته الآيات الكريمة يطابق ما دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإِيمان بالله - تعالى - وتصديق رسوله واتباع تعاليم الإِسلام .
وفي القرآن الكريم آيات أخرى صرحت بأن الإِسلام اسم للدين الذي دعا إليه كل الأنبياء ، وانتسب إليه أتباعهم فنوح قال لقومه : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } وموسى قال لقومه : { ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } والحواريون قالوا لعيسى - عليه السلام - { آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } بل إن فريققا من أهل الكتاب حين سمعوا القرآن أشرقت قلوبهم لدعوته وقالوا : { آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } وإلى هنا تكون قد ذكرنا بعض الآيات الكريمة التي أرشدت إلى أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يطابق ما جاء به الأنبياء السابقون ، فعليهم أن يؤمنوا به ويصدقوا ، لأن كفرهم به كفر بجميع الرسل السابقين .
وقبل أن نختم هذا الموضوع ننبه إلى مسألة مهمة . وهي أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يطابق - كما قلنا - ما جاء به الأنبياء قبله في أصول الدين وكلياته كتوحيد الله - تعالى - واختصاصه بالعبادة ، وتصديق الأنبياء السابقين فيما أتوا به عن الله - تعالى - والإيمان بالبعث وما يكون فيه من نعيم وعذاب والحض على مكارم الأخلاق ، أما ما عدا ذلك مما يتعلق بتفاصيل العبادات وأحكام المعاملات فإن الشرائع تختلف فيه بوجه عام حسب ما يتناسب وحالة الأمة التي بعث الله لها رسولا من كما قال تعالى { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } ومن هنا جاءت الشريعة الإِسلامية بما لم يكن موجوداً في الشرائع السابقة ، ومن مظاهر ذلك أن القرآن الكريم أعلن للناس ، أن محمداً صلى الله عليه وسلم من مميزات شريعته أنها أحلت للناس كل الطيبات وحرمت عليهم كل الخبائث ووضعت عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وشرعت لهم أموراً تتعلق بعباداتهم ومعاملاتهم امتازت باليسر والتخفيف .
ويعجبني في هذا المقام قول فضيلة أستاذنا المرحوم الشيخ محمد عبد الله دراز : ( يجب أن يفهم - أن تعديل الشريعة المتأخرة للمتقدمة - ليس نفضاً لها ، وإنما وقوفاً بها عند وقتها المناسب وأجلها المقدر .
مثل ذلك كمثل ثلاثة من الأطباء جاء أحدهم إلى الطفل في الطور الأول من حياته ، فقصر غذاءه على اللبن ، وجاء الثاني من مرحلته التالية فقرر له طعاماً ليناً ، وطعاما نشوياً خفيفاً ، وجاء الثالث في المرحلة التي بعدها فأمر له بغذاء قوي كامل .
لا ريب أن ها هنا اعترافاً ضمنياً من كل واحد منهم بأن صاحبه كان موفقاً كل التوفيق في علاج الحالة التي عرضت عليه ، نعم إن هناك قواعد صحية عامة في النظافة والتهوية والتدفئة ونحوها ، لا تختلف باختلاف الأسنان فهذه لا تعديل فيها ولا تبديل ، ولا يختلف فيها طب الأطفال والناشئين عن طب الكهول الناضجين .
هكذا الشرائع السماوية ، كلها صدق وعدل في جملتها وتفصيلها ، وكلها يصدق بعضها بعضاً من ألفها إلى يائها ، ولكن هذا التصديق على ضربين .
تصديق للقديم مع الإِذن ببقائه واستمراره ، وتصديق له مع إبقائه في حدود ظروفه الماضية ، ذلك أن التشريعات السماوية تحتوي على نوعين من التشريعات .
( تشريعات خالدة ) لا تتبدل بتبديل الأصقاع والأوضاع ( كالوصايا التسع ونحوها ) .
و ( تشريعات موقوتة ) بآجال طويلة أو قصيرة ، فهذه تنتهي بانتهاء وفنها . وتجيء الشريعة التالية بما هو أوفق بالأوضاع الناشئة الطارئة .
فشريعة التوراة - مثلا - عنيت بوضع المبادئ الأولية لقانون السلوك ( لا تقبل ) . ( لا تسرق ) فطابعها البارزتحديد الحقوق وطلب العدل والمساواة .
وشريعة الإِنجيل تجيء بعدها فتقرر هذه الأمور ، ثم تترقى فتزيد آداباً مكملة ( أحسن إلى من أساء إليك ) .
وأخيراً تجئ شريعة القرآن فتراها تقرر كلا المبدأين في نسق واحد { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } هكذا كانت الشرائع السماوية خطوات متصاعدة ، ولبنات متراكمة في بنيان الدين والأخلاق وسياسة المجتمع . وكانت مهمة اللبنة الأخيرة منها أن أكملت البنيان وملأت ما بقي فيه من فراغ وأنها في الوقت نفسه كانت بمثابة حجر الزاوية الذي يمسك أركان البناء .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صور الرسالات السماوية في جملتها أحسن تصوير فقال : " مثلى ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتاً فأحسن وجمله إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة . فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين " .
وبذلك يتبين لنا أن مطابقة الشريعة الإسلامية لغيرها من الشرائع السابقة إنما هي في الأصول والكليات ، لا في الفروع والجزئيات .
وفي ضوء هذا التقرير يظهر الفارق الحاسم بين تلك الأمة التي خلت ، والجيل الذي كانت تواجهه الدعوة . . حيث لا مجال لصلة ، ولا مجال لوراثة ، ولا مجال لنسب بين السابقين واللاحقين :
( تلك أمة قد خلت ، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ، ولا تسألون عما كانوا يعملون ) . .
فلكل حساب ؛ ولكل طريق ؛ ولكل عنوان ؛ ولكل صفة . . أولئك أمة من المؤمنين فلا علاقة لها بأعقابها من الفاسقين . إن هذه الأعقاب ليست امتدادا لتلك الأسلاف . هؤلاء حزب وأولئك حزب . لهؤلاء راية ولأولئك راية . . والتصور الإيماني في هذا غير التصور الجاهلي . . فالتصور الجاهلي لا يفرق بين جيل من الأمة وجيل ، لأن الصلة هي صلة الجنس والنسب . أما التصور الإيماني فيفرق بين جيل مؤمن وجيل فاسق ؛ فليسا أمة واحدة ، وليس بينهما صلة ولا قرابة . . إنهما أمتان مختلفتان في ميزان الله ، فهما مختلفتان في ميزان المؤمنين . إن الأمة في التصور الإيماني هي الجماعة التي تنتسب إلى عقيدة واحدة من كل جنس ومن كل أرض ؛ وليست هي الجماعة التي تنتسب إلى جنس واحد أو أرض واحدة . وهذا هو التصور اللائق بالإنسان ، الذي يستمد إنسانيته من نفخة الروح العلوية ، لا من التصاقات الطين الأرضية !
{ تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
يعني تعالى ذكره بقوله : { تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ } : إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم . يقول لليهود والنصارى : يا معشر اليهود والنصارى دعوا ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والمسلمين من أولادهم بغير ما هم أهله ولا تنحلوهم كفر اليهودية والنصرانية فتضيفوها إليهم ، فإنهم أمة ويعني بالأمة في هذا الموضع الجماعة ، والقرن من الناس قد خلت : مضت لسبيلها . وإنما قيل للذي قد مات فذهب : قد خلا ، لتخلّيه من الدنيا ، وانفراده بما كان من الأنس بأهله وقرنائه في دنياه ، وأصله من قولهم : خلا الرجل ، إذا صار بالمكان الذي لا أنيس له فيه وانفرد من الناس ، فاستعمل ذلك في الذي يموت على ذلك الوجه . ثم قال تعالى ذكره لليهود والنصارى : إنّ لمن نحلتموه بضلالكم وكفركم الذي أنتم عليه من أنبيائي ورسلي ما كسبت . والهاء والألف في قوله : لَهَا عائدة إن شئت على «تلك » ، وإن شئت على «الأمة » .
ويعني بقوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } أي ما عملت من خير ، ولكم يا معشر اليهود والنصارى مثل ذلك ما عملتم . ولا تؤاخذون أنتم أيها الناحلون ما نحلتموهم من الملل ، فتُسألوا عما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم يعملون فيكسبون من خير وشرّ لأن لكل نفس ما كسبت ، وعليها ما اكتسبت . فدعوا انتحالهم وانتحال مللهم ، فإن الدعاوى غير مغنيتكم عند الله ، وإنما يغني عنكم عنده ما سلف لكم من صالح أعمالكم إن كنتم عملتموها وقدمتموها .