{ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ } أي : انقادوا لطاعته ، ولبَّوْا دعوته ، وصار قصدهم رضوانه ، وغايتهم الفوز بقربه .
ومن الاستجابة للّه ، إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فلذلك عطفهما على ذلك ، من باب عطف العام على الخاص ، الدال على شرفه وفضله فقال : { وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } أي : ظاهرها وباطنها ، فرضها ونفلها . { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } من النفقات الواجبة ، كالزكاة والنفقة على الأقارب ونحوهم ، والمستحبة ، كالصدقات على عموم الخلق .
{ وَأَمْرُهُمْ } الديني والدنيوي { شُورَى بَيْنَهُمْ } أي : لا يستبد أحد منهم برأيه في أمر من الأمور المشتركة بينهم ، وهذا لا يكون إلا فرعا عن اجتماعهم وتوالفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال عقولهم ، أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها ، اجتمعوا لها وتشاوروا وبحثوا فيها ، حتى إذا تبينت لهم المصلحة ، انتهزوها وبادروها ، وذلك كالرأي في الغزو والجهاد ، وتولية الموظفين لإمارة أو قضاء ، أو غيره ، وكالبحث في المسائل الدينية عموما ، فإنها من الأمور المشتركة ، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله ، وهو داخل في هذه الآية .
ثم ذكر - سبحانه - صفات كريمة لهم فقال : { والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ } أى أطاعوه فى كل ما أمرهم به ، أو نهاهم عنه . .
{ وَأَقَامُواْ الصلاة } أى : حافظوا عليها ، وأدوها فى أوقاتها بخشوع وإخلاص لله رب العالمين .
{ وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } أى : شأنهم أنهم إذا حدث بينهم أمر هام يحتاج إلى المراجعة والمناقشة ، تجمعوا وتشاوروا فيما هو أنفع وأصلح .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } أى : يتشاورون فى الأمور .
والشورى مصدر شاورته - والتشاور : استخراج الرأى من الغير . .
قال الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم .
وقال ابن العربى : الشورى : ألفة للجماعة ومسبار للعقول ، وسبب إلى الصواب .
إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن . . . برأى لبيب أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة . . . فإن الخوافى قوة للقوادم
وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستشير أصحابه فى الأمور التى تتعلق بالحروب وما يشببها من الأمور الدنيوية ، ولم يكن يشاورهم فى الأحكام لأنها منزلة من عند الله - تعالى - .
فأما الصحابة فكانوا يتشاورون فى الأحكام ، ويستنطبونها من الكتاب والسنة ، فقد تشاوروا فى الخلافة بعد موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفى ميراث الجد ، وفى حروب المرتدين .
وقوله { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أى ومن صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين - أيضا - أنهم مما أعطيناهم من الرزق ، يتصدقون على غيرهم من المحتاجين .
وقوله : وَالّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبّهِمْ وأقامُوا الصّلاةَ يقول تعالى ذكره : والذين أجابوا لربهم حين دعاهم إلى توحيده ، والإقرار بوحدانيته والبراءة من عبادة كل ما يعبد دونه وأقامُوا الصّلاةَ المفروضة بحدودها في أوقاتها وأمْرهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ يقول : وإذا حزبهم أمر تشاوروا بينهم ، ومِمّا رَزْقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يقول : ومن الأموال التي رزقناهم ينفقون في سبيل الله ، ويؤدّون ما فرض عليهم من الحقوق لأهلها من زكاة ونفقة على من تجب عليه نفقته . وكان ابن زيد يقول : عنى بقوله : وَالّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبّهِمْ . . . الاَية الأنصار .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وقرأ وَالّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْم والفَوَاحِشَ وَإذَا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ قال : فبدأ بهم وَالّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبّهِمْ الأنصار وأقامُوا الصّلاةَ وليس فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ليس فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا .
هذا موصول آخر وصلة أخرى . ومدلولهما من أعمال الذين آمنوا التي يدعوهم إليها إيمانهم ، والمقصود منها ابتداءً هُم الأنصار ، كما روي عن عبد الرحمن بن زيد . ومعنى ذلك أنهم من المؤمنين الذين تأصل فيهم خُلق الشورى .
وأما الاستجابة لله فهي ثابتة لجميع من آمن بالله لأن الاستجابة لله هي الاستجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه دعاهم إلى الإسلام مبلِّغاً عن الله فكأنَّ الله دعاهم إليه فاستجابوا لدعوته . والسين والتاء في { استجابوا } للمبالغة في الإجابة ، أي هي إجابة لا يخالطها كراهية ولا تردد .
ولام له للتقوية يقال : استجاب له كما يقال : استجابه ، فالظاهر أنه أريد منه استجابة خاصة ، وهي إجابة المبادرة مثل أبي بكر وخديجة وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص ونقباء الأنصار أصحاب ليلة العقبة .
وجُعلت { وأمرهم شورى بينهم } عطفاً على الصلة . وقد عرف الأنصار بذلك إذ كان التشاور في الأمور عادتهم فإذا نزل بهم مهمٌّ اجتمعوا وتشاوروا وكان من تشاورهم الذي أثنى الله عليهم به هو تشاورهم حين ورد إليهم نقباؤُهم وأخبروهم بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن آمنوا هم به ليلة العقبة ، فلما أبلغوهم ذلك اجتمعوا في دار أبي أيوب الأنصاري فأجمع رأيهم على الإيمان به والنصر له .
وإذ قد كانت الشورى مفضية إلى الرشد والصواب وكان من أفضل آثارها أن اهتدى بسببها الأنصار إلى الإسلام أثنى الله بها على الإطلاق دون تقييد بالشورى الخاصَّة التي تشاور بها الأنصار في الإيمان وأيُّ أمر أعظم من أمر الإيمان .
والأمر : اسم من أسماء الأجناس العامة مثل : شيءٍ وحادثٍ . وإضافة اسم الجنس قد تفيد العموم بمعونة المقام ، أي جميع أمورهم متشاور فيها بينهم .
والإخبار عن الأمر بأنه شورى من قبيل الإخبار بالمصدر للمبالغة . والإسناد مجاز عقلي لأن الشورى تسند للمتشاورين ، وأما الأمر فهو ظرف مجازي للشورى ، ألا ترى أنه يقال : تشاورا في كذا ، قال تعالى : { وشاورهم في الأمر } فاجتمع في قوله : { وأمرهم شورى } مجاز عقلي واستعارة تبعية ومبالغة .
والشُورى مصدر كالبُشرى والفُتيا هي أن قاصد عمل يطلب ممن يَظُنّ فيه صوابَ الرأي والتدبير أن يشير عليه بما يراه في حصول الفائدة المرجوّة من عمله ، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } في سورة آل عمران ( 159 ) .
وقوله : { بينهم } ظرف مستقر هو صفة ل { شورى } . والتشاور لا يكون إلا بين المتشاورين فالوجه أن يكون هذا الظرف إيمَاء إلى أن الشورى لا ينبغي أن تتجاوز من يهمهم الأمر من أهل الرأي فلا يُدخل فيها من لا يهمه الأمر ، وإلى أنها سرّ بين المتشاورين قال بشار :
ولا تُشْهد الشورى أمراً غيرَ كَاتم
وقد كان شيخ الإسلام محمود ابن الخوجة أشار في حديث جرى بيني وبينه إلى اعتبار هذا الإيماء إشارة بيده حين تلا هذه الآية ، ولا أدري أذلك استظهار منه أم شيء تلقاه من بعض الكتب أو بعض أساتذته وكلا الأمرين ليس ببعيد عن مثله .
وأثنى الله عليهم بإقامة الصلاة ، فيجوز أن يكون ذلك تنويهاً بمكانة الصلاة بأعمال الإيمان ، ويجوز أن يكون المراد إقامة خاصة ، فإذا كانت الآية نازلة في الأنصار أو كان الأنصار المقصود الأول منها فلعل المراد مبادرة الأنصار بعد إسلامهم بإقامة الجماعة إذ سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم من يُقرئهم القرآنَ ويَؤُمهم في الصلاة فأرسل إليهم مُصعب بن عُمَير وذلك قبل الهجرة .
وأثنى عليهم بأنهم ينفقون مِما رزقهم الله ، وللأنصار الحظ الأوفر من هذا الثناء ، وهو كقوله فيهم { ويؤثرون على أنفسهم ولو كانَ بهم خصاصة } [ الحشر : 9 ] . وذلك أن الأنصار كانوا أصحاب أموال وعمل فلما آمنوا كانوا أول جماعة من المؤمنين لهم أموال يعينون بها ضعفاء المؤمنين منهم ومن المهاجرين الأولين قبل هجرة النبي . فأما المؤمنون من أهل مكة فقد صادر المشركون أموالهم لأجل إيمانهم ، قال النبي وهل ترك لَنا عَقِيل من دار .
وقوله : { ومما رزقناهم ينفقون } إدماج للامتنان في خلال المدح وإلا فليس الإنفاق من غير ما يرزقه المنفق .