قوله تعالى : { بالبينات والزبر } واختلفوا في الجالب للباء في قوله { بالبينات } قيل : هي راجعة إلى قولة : { وما أرسلنا } ، وإلا بمعنى غير ، مجازة : وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر غير رجال يوحى إليهم ولم نبعث ملائكة . وقيل : تأويله وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يوحى إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر . { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } أراد بالذكر الوحي ، وكان النبي صلى الله عليه ومبيناً للوحي ، وبيان الكتاب يطلب من السنة { ولعلهم يتفكرون } .
القول في تأويل قوله تعالى { بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أرسلنا بالبينات والزّبُر رجالاً نوحي إليهم .
فإن قال قائل : وكيف قيل بالبينات والزّبُر ؟ وما الجالب لهذه الباء في قوله بالبَيّناتِ فإن قلت : جالبها قوله أرْسَلْنَا وَهي من صلته ، فهل يجوز أن تكون صلة «ما » قبل «إلاّ » بَعدها ؟ وإن قلت : جالبها غير ذلك ، فما هو ؟ وأين الفعل الذي جلبها ؟ قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعضهم : الباء التي في قوله : «بالبَيّناتِ » من صلة «أرسلنا » ، وقال : «إلاّ » في هذا الموضع ، ومع الجحد والاستفهام في كلّ موضع بمعنى «غير » . وقال : معنى الكلام : وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر غير رجال نوحي إليهم ، ويقول على ذلك : ما ضرب إلاّ أخوك زيدا ، وهل كلم إلاّ أخوك عمرا ، بمعنى : ما ضرب زيدا غير أخيك ، وهل كلم عمرا إلاّ أخوك ؟ ويحتجّ في ذلك بقول أوْس بن حَجَر :
أبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمُ بِيَدٍ *** إلا يَدٍ لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ
ويقول : لو كانت «إلا » بغير معنى لفسد الكلام ، لأن الذي خفض الباء قبل «إلا » لا يقدر على إعادته بعد «إلا » لخفض اليد الثانية ، ولكن معنى «إلا » معنى «غير » . ويستشهد أيضا بقول الله عزّ وجلّ : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلاّ اللّهُ ويقول : «إلا » بمعنى «غير » في هذا الموضع . وكان غيره يقول : إنما هذا على كلامين ، يريد : وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً أرسلنا بالبينات والزبر . قال : وكذلك قول القائل : ما ضرب إلا أخوك زيدا معناه : ما ضرب إلا أخوك ، ثم يبتدىء ضرب زيدا ، وكذلك ما مَرّ إلا أخوك بزيد ما مرّ إلا أخوك ، ثم يقول : مرّ بزيد ويستشهد على ذلك ببيت الأعشى :
ولَيْسَ مُجِيرا إنْ أتَى الحَيّ خائِفٌ *** وَلا قائِلاً إلاّ هُوَ المُتَعَيّبا
ويقول : لو كان ذلك على كلمة لكان خطأ ، لأن «المُتَعَيّبا » من صلة القائل ، ولكن جاز ذلك على كلامين . وكذلك قول الاَخر :
نُبّئْتُهُمْ عَذّبُوا بالنّارِ جارَهُمُ *** وَهَلْ يُعَذّبُ إلاّ اللّهُ بالنّارِ
فتأويل الكلام إذن : وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر ، وأنزلنا إليك الذكر . والبينات : هي الأدلة والحجج التي أعطاها الله رسله أدلة على نبوّتهم شاهدة لهم على حقيقة ما أتوا به إليهم من عند الله . والزّبُر : هي الكتب ، وهي جمع زَبُور ، من زَبَرْت الكتاب وذَبَرته : إذا كتبته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : بالبَيّناتِ والزّبُرِ قال : الزبر : الكتب .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بالبَيّناتِ والزّبُرِ قال : الاَيات . والزبر : الكتب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الزّبُر : الكُتُب .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَالزّبُرِ يعني : بالكتب .
وقوله : وأنْزَلْنا إلَيْكَ الذّكْرَ يقول : وأنزلنا إليك يا محمد هذا القرآن تذكيرا للناس وعظة لهم . لِتُبَيّنَ للنّاسِ يقول : لتعرفهم ما أنزل إليهم من ذلك . وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ يقول : وليتذكروا فيه ويعتبروا به أي بما أنزلنا إليك . وقد :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا الثوري ، قال : قال مجاهد : وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ قال : يطيعون .
وقوله { بالبينات } متعلق بفعل مضمر تقديره أرسلناهم بالبينات ، وقالت فرقة الباء متعلقة ب { أرسلنا } في أول الآية{[7314]} ، والتقدير على هذا وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً ، ففي الآية تقديم وتأخير ، { والزبر } الكتب المزبورة ، تقول زبرت ودبرت إذا كتبت ، و { الذكر } في هذه الآية القرآن ، وقوله { لتبين } يحتمل أن يريد لتبين بسردك نص القرآن ما نزل ، ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل ، وشرحك ما أشكل مما نزل ، فيدخل في هذا ما بينته السنة من أمر الشريعة ، وهذا قول مجاهد .
قوله { بالبينات } متعلّق بمستقر صفةً أو حالاً من { رجالاً } . وفي تعلّقه وجوه أخر ذكرها في « الكشاف » ، والباء للمصاحبة ، أي مصحوبين بالبينات والزبر ، فالبينات دلائل الصّدق من معجزات أو أدلّة عقلية . وقد اجتمع ذلك في القرآن وافترق بين الرسل الأوّلين كما تفرّق منه كثير لرسولنا صلى الله عليه وسلم
و { الزُّبُر } : جمع زبور وهو مشتقّ من الزبرْ أي الكتابة ، ففعول بمعنى مفعول . { والزبر } الكتب التي كتب فيها ما أوحي إلى الرسل مثل صحف إبراهيم والتوراة وما كتبه الحواريون من الوحي إلى عيسى عليه السلام وإن لم يكتبه عيسى .
ولعل عطف { الزبر } على { بالبينات } عطف تقسيم بقصد التوزيع ، أي بعضهم مصحوب بالبينات وبعضهم بالأمرين لأنه قد تجيء رسل بدون كتب ، مثل حنظلة بن صفوان رسول أهل الرّسّ وخالد بن سنان رسول عبس . ولم يذكر الله لنوح عليه السلام كتاباً .
وقد تجعل { الزّبر } خاصة بالكتب الوجيزة التي ليست فيها شريعة واسعة مثل صحف إبراهيم وزبور داود عليهما السلام والإنجيل كما فسّروها به في سورة فاطر .
{ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون }
لما اتّضحت الحجّة بشواهد التاريخ الذي لا ينكر ذُكرت النتيجة المقصودة ، وهو أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو ذكر وليس أساطير الأوّلين .
والذكر الكلام الذي شأنه أن يُذكر ، أي يُتلى ويكرّر . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر } في سورة الحِجر ( 6 ) . أي ما كنتَ بدعاً من الرّسل فقد أوحينا إليك الذكر . والذكر : ما أنزل ليقرأه الناس ويتلونه تكراراً ليتذكروا ما اشتمل عليه . وتقديم المتعلّق المجرور على المفعول للاهتمام بضمير المخاطب .
وفي الاقتصار على إنزال الذكر عقب قوله : { بالبينات والزبر } إيماء إلى أن الكتاب المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم هو بيّنةٌ وزبور معاً ، أي هو معجزة وكتاب شرع . وذلك من مزايا القرآن التي لم يشاركه فيها كتاب آخر ، ولا معجزةٌ أخرى ، وقد قال الله تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربّه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مُبين أو لم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمةً وذكرى لقوم يؤمنون } سورة العنكبوت ( 50 ، 51 ) . وفي الحديث : أن النبي قال : " ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مِثْلُه آمَنَ عليه البشر وإنما كان الذي أوتيتُ وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة " .
والإظهار في قوله تعالى : { ما نزل إليهم } يقتضي أن ما صدق الموصول غير الذكر المتقدم ، إذ لو كان إيّاه لكان مقتضى الظاهر أن يقال لتبيّنه : للناس . ولذا فالأحسن أن يكون المراد بما نزل إليهم الشرائع التي أرسل الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم فجعل القرآن جامعاً لها ومبيناً لها ببليغ نظمه ووفرة معانيه ، فيكون في معنى قوله تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } [ سورة النحل : 89 ] .
وإسناد التبيين إلى النبي عليه الصلاة والسلام باعتبار أنه المبلّغ للناس هذا البيانَ . واللّام على هذا الوجه لذكر العِلّة الأصلية في إنزال القرآن .
وفسر { ما نزل إليهم } بأنه عين الذكر المنزّل ، أي أنزلنا إليك الذكر لتبينّه للناس ، فيكون إظهاراً في مقام الإضمار لإفادة أن إنزال الذكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو إنزاله إلى الناس كقوله تعالى : { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم } [ سورة الأنبياء : 10 ] .
وإنّما أتي بلفظه مرتين للإيماء إلى التّفاوت بين الإنزالين : فإنزاله إلى النبي مباشرةً ، وإنزاله إلى إبلاغه إليهم .
فالمراد بالتبيين على هذا تبيين ما في القرآن من المعاني ، وتكون اللّام لتعليل بعض الحِكم الحافّة بإنزال القرآن فإنها كثيرة ، فمنها أن يبيّنه النبي فتحصل فوائد العلم والبيان ، كقوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للناس } [ سورة آل عمران : 187 ] .
وليس في هذه الآية دليل لمسائل تخصيص القرآن بالسنّة ، وبيان مجمل القرآن بالسنّة ، وترجيح دليل السنّة المتواترة على دليل الكتاب عند التعارض المفروضات في أصول الفقه إذ كل من الكتاب والسنّة هو من تبيين النبي إذ هو واسطته .
عطف { لعلهم يتفكرون } حكمة أخرى من حِكَم إنزال القرآن ، وهي تهيئة تفكّر الناس فيه وتأمّلهم فيما يقرّبهم إلى رضى الله تعالى . فعلى الوجه الأول في تفسير { لتبين للناس } يكون المراد أن يتفكّروا بأنفسهم في معاني القرآن وفهم فوائده ، وعلى الوجه الثاني أن يتفكّروا في بيانك ويعوه بأفهامهم .