اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ} (44)

قوله " بِالبَيِّناتِ " فيه ثمانية أوجه :

أحدها : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل " رِجَالاً " فيتعلق بمحذوفٍ ، أي رجالاً ملتبسين بالبينات ، أي : مصاحبين لها وهو وجه حسنٌ لا محذور فيه ، ذكره الزمخشريُّ .

الثاني : أنه متعلق ب " أرْسَلْنَا " ذكره الحوفي ، والزمخشريُّ ، وغيرهما ، وبه بدأ الزمخشريُّ ، فقال : " يتعلق ب " أرْسَلْنَا " داخلاً تحت حكم الاستثناء مع " رِجَالاً " أي : وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات ، كقولك : ما ضَربْتُ إلاَّ زيْداً بالسَّوطِ ؛ لأن أصله : ضَربتُ زَيْداً بالسَّوطِ " .

وضعفه أبو البقاء : بأن ما قبل " إلاَّ " لا يعمل فيما بعدها ، إذا تم الكلام على " إلا " وما يليها ، قال : إلا أنه قد جاء في الشعر : [ البسيط ]

3310- نُبِّئْتهُمْ عَذَّبُوا بالنَّارِ جَارتَهُم *** ولا يُعَذِّبُ إلاَّ الله بالنَّارِ{[19825]}

وقال أبو حيَّان{[19826]} : " وما أجازه الحوفي ، والزمخشري ، لا يجيزه البصريون ؛ إذ لا يجيزون أن يقع بعد " إلاَّ " إلاَّ مستثنى ، أو مستثنى منه ، أو تابع لذلك ، وما ظن بخلافه قدر له عامل ، وأجاز الكسائي أن يليها معمول ما بعدها مرفوعاً ، أو منصوباً أو مخفوضاً ، نحو : ما ضَربَ إلا عمراً زيدٌ ، وما ضَربَ إلاَّ زيْدٌ عَمْراً ، وما مرَّ إلاَّ زيْدٌ بِعَمْرٍو " .

ووافقه ابن الأنباري في المرفوع ، والأخفش ، في الظرف ، وعديله ؛ فما قالاه يتمشَّى على قول الكسائي ، والأخفش .

الثالث : أنه يتعلق ب " أرْسَلْنَا " أيضاً ؛ إلاَّ أنه على نية التقديم قبل أداة الاستثناء تقديره : وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً ؛ حتى لا يكون ما بعد " إلاَّ " معمولين متأخرين لفظاً ورتبة داخلين تحت الحصر لما قبل " إلاَّ " ، حكاه ابن عطية .

وأنكر الفراء ذلك وقال : " إنَّ صلة ما قبل " إلاَّ " لا يتأخر إلى ما بعد " إلا " لأن المستثنى منه هو مجموع ما قبل " إلاَّ " مع صلته ، فلما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه ؛ امتنع إدخال الاستثناء عليه " .

الرابع : أنه متعلق ب " نُوحِي " كما تقول : أوحى إليه بحق . ذكره الزمخشري ، وأبو البقاء .

الخامس : أنَّ الباء مزيدة في " بالبَيِّناتِ " وعلى هذا ؛ فيكون " البَيِّنَات " هو القائم مقام الفاعل ؛ لأنها هي الموحاة .

السادس : أن الجارَّ متعلق بمحذوف ؛ على أنَّه حالٌ من القائم مقام الفاعل ، وهو " إليْهِمْ " ذكرهما أبو البقاء . وهما ضعيفان جدًّا .

السابع : أن يتعلَّق ب " لا تَعْلَمُون " على أنَّ الشرط في معنى : التبكيت والإلزام ؛ كقول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقِّي .

قال الزمخشريُّ{[19827]} : وقوله تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر } اعتراضٌ على الوجوه المتقدمة ، ويعني بقوله : " فاسْئَلُوا " الجزاء وشرطه ، وأما على الوجه الأخير ، فعدم الاعتراض واضحٌ .

الثامن : أنه متعلق بمحذوف جواباً لسؤالٍ مقدرٍ ؛ كأنه قيل : بِمَ أرسلوا ؟ فقيل : أرسلوا بالبينات ، والزُّبرِ ، كذا قدره الزمخشري . وهو أحسن من تقدير أبي البقاءِ : بعثوا لموافقته للدالِّ عليه لفظاً ومعنى .

فصل في تأويل " إلا "

قال البغوي{[19828]} - رحمه الله- : " إلاَّ " بمعنى " غَيْرَ " ، أي : وما أرسلنا قبلك بالبينات ، والزبر ، غير رجالٍ يوحى إليهم ، ولو لم نبعث إليهم ملائكة .

وقيل : تأويله : وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً يوحى إليهم بالبينات والزبر ، والبينات والزبر : كل ما يتكامل به الرسالة ؛ لأن مدارها على المعجزات الدالة على صدق مدعي الرسالة ، وهي البينات على التكاليفِ ، التي يبلغها الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - إلى العباد ، وهي الزبر .

ثم قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } أراد بالذكر الوحي وكان - عليه الصلاة والسلام - مبيناً للوحي ، وبيان الكتاب يطلب من السنة . انتهى .

فصل القرآن ليس كله مجملاً بل منه المجمل والمبين

ظاهر هذه الآية يقتضي أن هذا الذكر مفتقر إلى بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفتقر إلى [ البيان ]{[19829]} مجملٌ ، فهذا النص يقتضي أنَّ هذا القرآن كله مجمل ؛ فلهذا قال بعضهم : متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر ؛ لأن القرآن مجملٌ بنص هذه الآية ، والخبر مبين لهذه الآية ، والمبين مقدم على المجمل . وأجيب : بأن القرآن منه محكمٌ ، ومنه متشابه ، والمحكم يجب كونه مبيناً ؛ فثبت أن القرآن كله ليس مجملاً ، بل فيه المجمل .

فقوله : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } محمول على تلك المجملات .

فصل هل الرسول مبين لكل ما أنزل الله

ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين لكلِّ ما أنزل الله على المكلفين ، وعند هذا قال نفاة القياس : لو كان القياس حجة ، لما وجب على الرسول بيانُ كلِّ ما أنزل الله تعالى على المكلفين من الأحكام ؛ لاحتمال أن يبين المكلف ذلك الحكم بطريق القياس ، ولما دلت هذه الآية على أنَّ المبين للتكاليف ، والأحكام ؛ هو الرسول ، علمنا أنَّ القياس ليس بحجةٍ .

وأجيب عنه : بأنَّه صلى الله عليه وسلم لما بين أنَّ القياس حجة فمن رجع في تبيين الأحكام والتكاليف إلى القياس ؛ كان ذلك في الحقيقة رجوعاً إلى بيان الرسولِ صلى الله عليه وسلم . قالوا : لو كان البيان بالقياس من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع فيه اختلافٌ .


[19825]:ينظر: أوضح المسالك 2/130، تذكرة النحاة ص 335، شرح التصريح 1/284، المقاصد النحوية 2/492، التبيان 2/796، معاني الفراء 2/101، الألوسي 14/149، زادة 3/179، التصريح 1/284، العيني 2/492، الطبري 14/110، البحر المحيط 5/489، الدر المصون 4/328.
[19826]:ينظر: البحر المحيط 5/479.
[19827]:ينظر: الكشاف 2/608.
[19828]:ينظر: معالم التنزيل 3/70.
[19829]:في ب: السنة.