الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ} (44)

وقوله : { بالبينات } [ النحل : 44 ] متعلِّق بفعلٍ مضمرٍ ، تقديره : أرسلناهم بالبيِّنات ، وقالتْ فرقة : الباءُ متعلِّقة ب{ أَرْسَلْنَا } في أول الآية ، والتقدير على هذا : وما أرسلنا من قبلك بالبيِّنات والزُّبُرِ إِلاَّ رجالاً ، ففي الآية تقديمٌ وتأخير ، و{ الزبر } : الكُتُبُ المزبورة .

وقوله سبحانه : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } .

( ت ) : وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك ، فبيَّن عن اللَّهِ ، وأوْضَح ، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامعَ الكَلِم ، فأعرب عن دين اللَّهِ ، وأفصح ، ولنذكُر الآن طَرَفاً من حِكَمِهِ ، وفصيحِ كلامِهِ بحذف أسانيده .

قال عِياضٌ في «شِفَاهُ » : وأما كلامُهُ صلى الله عليه وسلم المعتادُ ، وفصاحَتُه المعلومةُ ، وجوامُع كَلِمِهِ ، وحِكَمُه المأثورةُ ، فمنها ما لا يُوَازَى فصاحةً ، ولا يبارَى بلاغةً ؛ كقوله : ( المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ) ، وقوله : ( النَّاسُ كَأَسْنَانِ المِشْطِ ) ، و ( المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ ) ، و ( لاَ خَيْرِ فِي صُحْبَةِ مَنْ لاَ يَرَى لَكَ مَا تَرَى لَهُ ) ، و( النَّاسُ مَعَادِنٌ ) ، و ( مَا هَلَكَ امرؤ عَرَفَ قَدْرَهُ ) ، و ( المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ ، و ( هو بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَكَلَّم ) ، و ( رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً قَالَ خَيْراً فَغَنِمَ ، أَوْ سَكَتَ عَنْ شَرٍّ فَسَلِمَ ) ، وقوله : ( أَسْلِمْ تَسْلَمْ ) ، و( أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ ) ، و( إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقاً ، المُوطَّؤُونَ أَكْنَافاً الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ ) ، وقوله : ( لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لاَ يَعْنِيهِ ، وَيَبْخَلُ بِمَا لاَ يُغْنِيهِ ) ، وقوله : ( ذُو الوَجْهَيْنِ لاَ يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ) وَنَهْيُهُ عَنْ ( قِيلٍ وَقَالَ ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ ، وَإِضَاعَةِ المَالِ ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ ، وَعُقُوقِ الأُمَّهَاتِ ، وَوَأْدِ البَنَاتِ ) .

وقوله : ( اتق اللَّهَ حَيْثُ كُنْتَ ، وَأَتْبِع السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، وَخَالِق النَّاسَ بِخُلُقٍ حسنٍ ) و ( خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَاطُها ) ، وقوله : ( أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَّا ، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَّا ) ، وقوله : ( الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَة ) ، وقولِهِ في بَعْضِ دعائه : ( اللَّهُمَّ ، إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قَلْبِي ، وَتَجْمَعُ بِهَا أَمْرِي ، وَتُلِمُّ بِهَا شَعْثِي ، وَتُصْلِحُ بِهَا غَائِبِي ، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي ، وتُزَكِّي بِهَا عَمَلِي ، وَتُلْهِمُنِي بِهَا رَشَدِي ، وَتُرَدُّ بِهَا أُلْفَتِي ، وَتَعْصِمَنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ ، اللَّهُمَّ ، إِنِّي أَسْأَلُكَ الفَوْزَ فِي القَضَاءِ ، وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ ، وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ ، وَالنَّصْرَ عَلَى الأَعْدَاء ) ، إِلى غَيْرِ ذلكَ مِنْ بيانِهِ ، وحُسْنِ كلامه ممَّا روتْهُ الكافَّة عن الكافَّة مما لا يُقَاسُ به غيره ، وحاز فيه سبقاً لا يُقْدَرُ قَدْرُهُ كقوله : ( السَّعَيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ ، والشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ في بَطْنِ أُمِّهِ ) في أخواتها مما يدرك الناظِرُ العَجَبَ في مضمَّنها ، ويذهَبُ به الفكْرُ في أداني حِكَمِها ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ ، وَنَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ ) ، فجمع اللَّه له بذلك قُوَّة عارضَةِ الباديةِ وجزالَتَهَا ، وَنَصَاعَةَ ألفاظِ الحاضِرَةِ وَرَوْنَقَ كلامِهَا ، إِلى التأييد الإلهي الذي مَدَدُهُ الوَحْي ، الذي لا يحيطُ بعلمه بَشَرِيّ . انتهى ، وبالجملة فليس بَعْدَ بيان اللَّه ورسُولِهِ بيانٌ لمن عَمَّر اللَّهُ قلْبَه بالإِيمان .