{ بالبينات والزبر } أي بالمعجزات والكتب ، والأولى للدلالة على الصدق ، والثانية لبيان الشرائع والتكاليف .
/ وانحرف عن الحق من فسرهما بما هو مصطلح أهل الحرف . والجار والمجرور متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله وقع جواباً عن سؤال من قال : بم أرسلوا ؟ فقيل : أرسلوا «بالبينات والزبر » .
وجوز الزمخشري . والحوفي تعلقه بأرسلنا السابق داخلاً تحت حكم الاستثناء مع { رِجَالاً } [ النحل : 43 ] أي وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات وهو في معنى قولك : ما أرسلنا جماعة من الجماعات بشيء من الأشياء إلا رجالاً بالبينات ، ومثله ما ضربت إلا زيداً بسوط ، وهو مبني على ما جوزه بعض النحاة من جواز أن يستثنى بأداة واحدة شيآن دون عطف وأنه يجري في الاستثناء المفرغ ، وأكثر النحاة على منعه كما صرح به صاحب التسهيل وغيره .
وقال في «الكشف » : والحق أنه لا يجوز لأن إلا من تتمة ما دخلت عليه كالجزء منه وللزوم الإلباس . أو وجوب أن يكون جميع ما يقع بعد إلا محصوراً وأن يجب نحو ما ضرب إلا زيداً عمراً إذا أريد الحصر فيهما ولا يكون فرق بين هذا وذاك ، وكل ذلك ظاهر الانتفاء . والزمخشري جوز ذلك وصرح به في مواضع من كشافه ، واستدل عليه بأن أصل ما ضربت إلا زيداً بسوط ضربت زيداً بسوط وأراد أن زيادة ما وإلا ليست إلا تأكيداً فلتؤكد لما كان أصل الكلام عليه ، وهو حسن لولا أن الاستعمال والقياس آبيان ، وقال بعضهم : إنه متعلق به من غير دخوله مع { رجالاً } [ النحل : 43 ] تحت حكم الاستثناء على أن أصله وما أرسلنا بالبينات والزبر إلا رجالاً .
وتعقب بأنه لا يجوز على مذهب البصريين حيث لا يجيزون أن يقع بعد إلا إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابعاً وما ظن من غير الثلاثة معمولاً لما قبل إلا قدر له عامل ، وأجاز الكسائي أن يقع معمولاً لما قبلها منصوب كما ضرب إلا زيد عمراً ، ومخفوض كما مر إلا زيد بعمرو ولا يعذب إلا الله بالنار ، ومرفوع كما ضرب إلا زيداً عمرو ، ووافقه ابن الأنباري في المرفوع ، والأخفش في الظرف والجار والحال ، فما ذكر مبني على مذهب الكسائي . والأخفش ، لكن قال الشهاب : إنه خلاف ظاهر الكلام وإخراج له عن سنن الانتظام وأكثر النحاة على أنه ممنوع ، وجوز أن يكون متعلقاً بما رفع صفة لرجالاً أي رجالاً ملتبسين بالبينات ولم يقع حالاً منه ، قيل : لأنه نكرة متقدمة ، نعم قيل : بجواز وقوعه حالاً من ضمير الرجال في { إِلَيْهِمُ } [ النحل : 43 ] وقيل : يجوز كونه حالاً من { رِجَالاً } [ النحل : 43 ] لأنه نكرة موصوفة ، واختار أبو حيان مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ كثيراً قياساً ونقله عن سيبويه وإن كان دون الاتباع في القوة .
وجوز أيضاً تعلقه بنو حي وقوله سبحانه : { فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذكر } [ النحل : 43 ] اعتراض على الوجوه المتقدمة أو غير الأول ، وتصدير الجملة المعترضة بالفاء صرح به في التسهيل وغيره ، وما نقل من منعه ليس بثبت ، ثم إذا كان اعتراضاً متخللاً بين مقصوري حرف الاستثناء معناه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون أنا أرسلنا رجالاً بالبينات وعلى الوصفية إن كنتم لا تعلمون أنهم رجال متلبسون بالبينات ، وعلى هذا يقدر الاعتراض مناسباً لما تخلل بينهما ، وأشبه الأوجه أن يكون على كلامين ليقع الاعتراض موقعه اللائق به لفظاً ومعنى قاله في «الكشف » .
وجوز أن يتعلق بتعلمون فلا اعتراض ، وفي الشرط معنى التبكيت والإلزام كما في قول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقي ، فإن الأجير لا يشك في أنه عمل وإنما أخرج الكلام مخرج الشك لأن ما يعامل به من التسويف معاملة من يظن بأجيره أنه لم يعمل ، فهو في ذلك يلزمه مقتضى ما اعترف به من العمل ويبكته بالتقصير مجهلاً إياه ، فكذا ما هنا لا يشك أن قريشاً لم يكونوا من علم البينات والزبر في شيء فيقول : إن كون الرسل عليهم السلام رجالاً أمر مكشوف لا شبهة فيه فاسألوا أهل الذكر إن لم تكونوا من أهله يبين لكم يريد أن إنكاركم وأنتم لا تعلمون ليس بسديد وإنما السبيل أن تسألوا من أهل الذكر لا أن تنكروا قولهم ، فإنكاركم مناف لما تقتضيه حالكم من السؤال فهو تبكيت( {[529]} ) من حيث الاعتراف بعدم العلم وسبيل الجاهل سؤال من يعلم لا إنكاره ، قاله في «الكشف » أيضاً ، ثم قال : ولا أخص أهل الذكر بأهل الكتابين ليشمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولو خص لجاز لأنهم موافقون في ذلك فإنكارهم إنكارهم ، ثم التبكيت متوجه إلى العدول عن السؤال إلى الإنكار سألوا أولاً انتهى . ومنه يعلم جواز أن يراد بأهل الذكر أهل القرآن ، وما ذكره أبو حيان في تضعيفه من أنه لا حجة في إخبارهم ولا إلزام ناشىء من عدم الوقوف على هذا التحقيق الأنيق ، وهذا ظاهر على تقدير تعلق { بالبينات } بيعلمون والباء على هذا التقدير سببية والمفعول محذوف عند بعض ، وزعم آخر أنها زائدة والبينات هي المفعول ، فافهم ذاك ، والله تعالى يتولى هداك { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر } أي القرآن وهو من التذكير إما بمعنى الوعظ أو بمعنى الإيقاظ من سنة الغفلة وإطلاقه على القرآن إما لاشتماله على ما ذكر أو لأنه سبب له ، ومنه يعلم وجه تسمية التوراة ونحوها ذكراً ، وقيل : المراد بالذكر العلم وليس بذاك { لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ } كافة ويدخل فيهم أهل مكة دخولاً أولياً { مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ } في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب حسب أعمالهم مع أنبيائهم عليهم السلام الموجبة لذلك على وجه التفصيل بياناً شافياً كما ينبىء عنه صيغة التفعيل في الفعلين لا سيما بعد ورود الثاني أولاً على صيغة الأفعال ، وعن مجاهد أن المراد بهذا التبيين تفسير المجمل وشرح ما أشكل إذ هما المحتاجان للتبيين ، وأما النص الظاهر فلا يحتاجان إليه .
وقيل : المراد به إيقافهم على حسب استعداداتهم المتفاوتة على ما خفي عليهم من أسرار القرآن وعلومه التي لا تكاد تحصى ، ولا يختص ذلك بتبيين الحرام والحلال وأحوال القرون الخالية والأمم الماضية ، واستأنس له بما أخرجه الحاكم وصححه عن حذيفة قال : «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً أخبرنا فيه بما يكون إلى يوم القيامة عقله منا من عقله ونسيه من نسيه » وهذا في معنى ما ذكره غير واحد أن التبيين أعم من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه ، ويدخل فيه القياس وإشارة النص ودلالته وما يستنبط منه من العقائد والحقائق والأسرار الإلهية ، ولعل قوله عز وجل : { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } إشارة إلى ذلك أي وطلب أن يتأملوا فينتبهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترز عما يؤدي إلى ما أصاب الأولين من العذاب ، وقال بعض المعتزلة : أي وإرادة أن يتفكروا في ذلك فيعلموا الحق ثم قال ، وفيه دلالة على أن الله تعالى أراد من جميع الناس التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة بخلاف ما يقول أهل الجبر ، ونحن في غنى عن تقدير الإرادة بتقدير الطلب ، ومن قدرها منا أراده منها ، وإلا ورد عليه عدم تأمل البعض ولعله الأكثر ، وهي لا ينفك المراد عنها على المذهب الحق فلا بد من العدول عنه إلى مقابله ، وقيل : أراد تعلقها بالبعض وهو المتأمل لا بالكل ، وأيد بعضهم إرادة الصحابة أو ما يشملهم والنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذكر فيما تقدم بذكر هذه الآية بعده وليس بذي أيد .
( هذا ومن باب الإشارة ) :فالمراد بالذكر القرآن كما في قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل : 44 ] .
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى لم يظهر مكنونات أسرار كتابه إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم فهو عليه الصلاة والسلام الأمين المؤتمن على الأسرار . وقد أشار سبحانه له عليه الصلاة والسلام بتبيين ذلك وقد فعل ولكن على حسب القابليات لا تمنعوا الحكمة عن أهلها فتظلموهم ولا تمنحوها غير أهلها فتظلموها ولا تودع الأسرار إلا عند الأحرار . وذلك لأنها أمانة وإذا أودعت عند غيرهم لم يؤمن عليها من الخيانة . وخيانتها افشاؤها وإفشاؤها خطر عظيم . ولذا قيل :
من شاوروه فأبدى السر مشتهرا . . . لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.