معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗاۚ ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4)

قوله تعالى : { فمن لم يجد } يعني الرقبة ، { فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } فإن كانت له رقبة إلا أنه محتاج إلى خدمته ، أو له ثمن رقبة لكنه محتاج إليه لنفقته ونفقة عياله فله أن ينتقل إلى الصوم ، وقال مالك والأوزاعي : يلزمه الإعتاق إذا كان واجداً للرقبة أو ثمنها وإن كان محتاجاً إليه . وقال أبو حنيفة : إن كان واجداً لعين الرقبة يجب عليه إعتاقها ، وإن كان محتاجاً إليها ، فأما إذا كان واجداً لثمن الرقبة وهو محتاج إليه فله أن يصوم ، فلو شرع المظاهر في صوم شهرين ثم جامع في خلال الشهر بالليل يعصي الله تعالى بتقديم الجماع على الكفارة ، ولكن لا يجب عليه استئناف الشهرين ، وعند أبي حنيفة يجب عليه استئناف الشهرين . قوله عز وجل : { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } يعني المظاهر إذا لم يستطع الصوم لمرض أو كبر أو فرط شهوة لا يصبر عن الجماع يجب عليه إطعام ستين مسكيناً .

أخبرنا أبو عبد الله بن محمد بن الفضل الخرقي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشمهيني حدثنا علي بن حجر ، أنبأنا إسماعيل بن جعفر ، عن محمد بن أبي حرملة ، عن عطاء بن يسار " أن خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن الصامت ، فظاهر منها وكان به لمم ، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أوساً ظاهر مني ، وذكرت أن به لمماً فقالت : والذي بعثك بالحق ما جئتك إلا رحمة إن له في منافع ، فأنزل الله القرآن فيهما . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مريه فليعتق رقبة ، قالت : والذي بعثك بالحق ما عنده رقبة ولا ثمنها ، قال : مريه فليصم شهرين متتابعين ، فقالت : والذي بعثك بالحق لو كلفته ثلاثة أيام ما استطاع ، قال : مريه فليطعم ستين مسكيناً ، قالت : والذي بعثك بالحق ما يقدر عليه ، قال : مريه فليذهب إلى فلان بن فلان فقد أخبرني أن عنده شطر تمر صدقةً ، فليأخذه صدقة عليه ثم ليتصدق به على ستين مسكينا " . وروى سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر قال : " كنت امرأ أصيب من النساء ما لم يصب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان ، فبينما هي تحدثني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث أن وقعت عليها ، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال : أنت بذاك ، فقلت : أنا بذاك -قاله ثلاثاً- قلت : أنا بذاك وها أنا ذا فأمض في حكم الله ، فإني صابر لذلك ، قال : فاعتق رقبة . فضربت صفحة عنقي بيدي فقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أملك غيرها ، قال : فصم شهرين متتابعين ، فقلت : يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا من الصيام ؟ قال : فأطعم ستين مسكيناً ، قلت : والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشيا ، ما لنا عشيا ، قال : اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك ، فأطعم عنك منها وسقاً ستين مسكيناً ، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك . قال : فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة ، أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي ، قال : فدفعوها إليه " . { ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله } لتصدقوا ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم من الله عز وجل ، { وتلك حدود الله } يعني ما وصف من الكفارات في الظهار ، { وللكافرين عذاب أليم } قال ابن عباس : لمن جحده وكذب به .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗاۚ ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسّا فَمَن لّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره : فمن لم يجد منكم ممن ظاهر من امرأته رقبة يحرّرها ، فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا والشهران المتتابعان هما اللذان لا فصل بينهما بإفطار في نهار شيء منهما إلا من عذر ، فإنه إذا كان الإفطار بالعذر ففيه اختلاف بين أهل العلم ، فقال بعضهم : إذا كان إفطاره لعذر فزال العذر بنى على ما مضى من الصوم .

وقال آخرون : بل يستأنف ، لأن من أفطر بعذر أو غير عذر لم يتابع صوم شهرين . ذكر من قال : إذا أفطر بعذر وزال العذر بنى وكان متابعا :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن عديّ وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب أنه قال في رجلٍ صام من كفارة الظهار ، أو كفارة القتل ، ومرِضَ فأفطر ، أو أفطر من عذر ، قال : عليه أن يقضيَ يوما مكان يوم ، ولا يستقبل صومه .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، بمثله .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب في المظاهر الذي عليه صوم شهرين متتابعين ، فصام شهرا ، ثم أفطر ، قال : يتمّ ما بقي .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن وسعيد بن المسيب في رجل صام من كفارة الظهار شهرا أو أكثر ثم مرض ، قال : يعتدّ بما مضى إذا كان له عذر .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سالم بن نوح ، قال : حدثنا عمر بن عامر ، عن قتادة ، عن الحسن في الرجل يكون عليه الصوم في قتل أو نذر أو ظهار ، فصام بعضه ثم أفطر ، قال : إن كان معذورا فإنه يقضي .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : إن أفطر من عذر أتمّ ، وإن كان من غير عذر استأنف .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن حجاج ، عن عطاء ، قال : من كان عليه صوم شهرين متتابعين فمرض فأفطر ، قال : يقضي ما بقي عليه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن جُرَيج ، عن عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار في الرجل يفطر في اليوم الغيم ، يظنّ أن الليل قد دخل عليه في الشهرين المتتابعين أنه لا يزيد على أن يبدّله ، ولا يستأنف شهرين آخرين .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن عبد الملك ، عن عطاء قال : إن جامع المعتكف وقد بقي عليه أيام من اعتكافه قال : يتمّ ما بقي ، والمظاهر كذلك .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، قال : إذا كان شيئا ابتلي به بنى على صومه ، وإذا كان شيئا هو فعله استأنف ، قال : سفيان : هذا معناه .

حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن عامر في رجل ظاهر ، فصام شهرين متتابعين إلا يومين ثم مرض ، قال : يتمّ ما بقي .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت إسماعيل عن الشعبيّ بنحوه .

حدثنا أبو كُرَيب ويعقوب قالا : حدثنا هشيم ، عن إسماعيل ، عن الشعبي في رجل عليه صيام شهرين متتابعين ، فصام فمرض فأفطر ، قال : يقضي ولا يستأنف .

ذكر من قال : يستقبل من أفطر بعذر أو غير عذر :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في رجل عليه صيام شهرين متتابعين فأفطر ، قال : يستأنف ، والمرأة إذا حاضت فأفطرت تقضي .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : إذا مرض فأفطر استأنف ، يعني من كان عليه صوم شهرين متتابعين فمرض فأفطر .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا هشيم ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : يستأنف .

وأولى القولين عندنا بالصواب قول من قال : يبني المفطر بعذر ، ويستقبل المفطر بغير عذر ، لإجماع الجميع على أن المرأة إذا حاضت في صومها الشهرين المتتابعين بعذر ، فمثله ، لأن إفطار الحائض بسبب حيضها بعذر كان من قِبل الله ، فكلّ عذر كان من قبل الله فمثله .

وقوله : { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فإطْعام سِتّينَ مِسْكِينا } يقول تعالى ذكره : فمن لم يستطع منهم الصيام فعليه إطعام ستين مسكينا . وقد بيّنا وجه الإطعام في الكفارات فيما مضى قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته .

وقوله : { ذَلكَ لِتُوءْمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ } يقول جلّ ثناؤه : هذا الذي فرضتُ على من ظاهر منكم ما فرضت في حال القدرة على الرقبة ، ثم خففت عنه مع العجز بالصوم ، ومع فقد الاستطاعة على الصوم بالإطعام ، وإنما فعلته كي تقرّ الناس بتوحيد الله ورسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، ويصدّقوا بذلك ، ويعملوا به ، وينتهوا عن قول الزور والكذب { وَتِلْكَ حُدُودُ الله }يقول تعالى ذكره : وهذه الحدود التي حدّها الله لكم ، والفروض التي بينها لكم حدود الله فلا تتعدّوها أيها الناس { وَللْكافِرِينَ }بها ، وهم جاحدو هذه الحدود وغيرها من فرائض الله أن تكون من عند الله { عَذَابٌ ألِيمٌ }يقول : عذاب مؤلم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗاۚ ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4)

واختلف الناس في قوله تعالى : { من قبل أن يتماسا } فقال الحسن والثوري وجماعة من قبل الوطء ، وجعلت المسيس هاهنا الوطء ، فأباحت للمظاهر التقبيل والمضاجعة والاستمتاع بأعلى المرأة كالحائض . وقال جمهور أهل العلم قوله : { من قبل أن يتماسا } عام في نوع المسيس الوطء والمباشرة ، فلا يجوز لمظاهر أن يطأ ولا يقبل ولا يلمس بيده ، ولا يفعل شيئاً من هذا النوع إلا بعد الكفارة ، وهذا قول مالك رحمه الله .

وقوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى التحرير أي فعل عظة لكم لتنتهوا عن الظهار ، والتتابع في الشهرين صيامهما ولا بين أيامهما ، وجائز أن يصومهما الرجل بالعدد ، فيصوم ستين يوماً تباعاً ، وجائز أن يصومهما بالأهلة ، يبدأ مع الهلال ويفطر مع الهلال ، وإن جاء أحد شهريه ناقصاً ، وذلك مجزئ عنه ، وجائز إن بدأ صومه في وسط الشهر أن يبعض الشهر الأول فيصوم إلى الهلال ثم يصوم شهراً بالهلال ثم يتم الشهر الأول بالعدد .

ولا خلاف أحفظه من أهل العلم أن الصائم في الظهار إن أفسد التتابع باختياره أنه يبتدأ صومها . واختلف الناس إذا أفسده لعذر غالب : كالمرض والنسيان ونحوه ، فقال أصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه والنخعي وابن جبير والحكم بن عيينة والثوري : يبتدئ ، وقال مالك والشافعي وغيره : يبني . وأجمعوا على الحائض وأنها تبني في صومها التتابع .

وإطعام المساكين في الظهار هو بالمد الهاشمي عند مالك ، وهو مد وثلث بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل مدان غير ثلث . وروى عنه ابن وهب أنه يطعم كل مسكين مدين بمد النبي عليه السلام وفي العلماء من يرى إطعام الظهار مداً بمد النبي عليه السلام ، ولا يجزئ في إطعام الظهار إلا إكمال عدد المساكين ، ولا يجوز أن يطعم ثلاثين مرتين ولا ما أشبهه ، والطعام عو غالب قوت البلد . قال مالك رحمه الله وعطاء وغيره : إطعام المساكين أيضاً هو قبل التماس حملاً على العتق والصوم . وقال أبو حنيفة وجمهور من أهل العلم : لم ينص الله على الشرط هنا ، فنحن نلتزمه ، فجاز للمظاهر إذا كان من أهل الإطعام أن يطأ قبل الكفارة ويستمتع .

وقوله : { ذلك لتؤمنوا } إشارة إلى الرخصة والتسهيل في النقل من التحرير إلى الصوم ، والإطعام ثم شدد تعالى بقوله : { تلك حدود الله } أي فالتزموها وقفوا عندها ، ثم توعد الكافرين بهذا الحديث والحكم الشرعي .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗاۚ ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فمن لم يجد} التحرير {فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا} يعني الجماع {فمن لم يستطع} الصيام {فإطعام ستين مسكينا}...

{ذلك} يعني هذا الذي ذكر من الكفارة {لتؤمنوا بالله} يقول: لكي تصدقوا بالله {ورسوله} إن الله قريب إذا دعوتموه في أمر الظهار، وتصدقوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فيما قال لكم من الكفارة حين جعل لكم مخرجا، {لتؤمنوا بالله ورسوله} يعني تصدقوا بالله ورسوله.

{وتلك حدود الله} يعني سنة الله وأمره في كفارة الظهار.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: فمن لم يجد منكم ممن ظاهر من امرأته رقبة يحرّرها، فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا; والشهران المتتابعان هما اللذان لا فصل بينهما بإفطار في نهار شيء منهما إلا من عذر، فإنه إذا كان الإفطار بالعذر ففيه اختلاف بين أهل العلم؛

فقال بعضهم: إذا كان إفطاره لعذر فزال العذر، بنى على ما مضى من الصوم.

وقال آخرون: بل يستأنف، لأن من أفطر بعذر أو غير عذر لم يتابع صوم شهرين...

وأولى القولين عندنا بالصواب قول من قال: يبني المفطر بعذر، ويستقبل المفطر بغير عذر، لإجماع الجميع على أن المرأة إذا حاضت في صومها الشهرين المتتابعين بعذر، فمثله، لأن إفطار الحائض بسبب حيضها بعذر كان من قِبل الله، فكلّ عذر كان من قِبل الله فمثله.

"فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا" يقول تعالى ذكره: فمن لم يستطع منهم الصيام فعليه إطعام ستين مسكينًا، وقد بينا وجه الإطعام في الكفارات فيما مضى قبل، فأغنى ذلك عن إعادته.

وقوله: "ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ" يقول جلّ ثناؤه: هذا الذي فرضت على من ظاهر منكم، ما فرضت في حال القدرة على الرقبة، ثم خففت عنه مع العجز بالصوم، ومع فقد الاستطاعة على الصوم بالإطعام، وإنما فعلته كي تقر الناس بتوحيد الله ورسالة الرسول محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ويصدّقوا بذلك، ويعملوا به، وينتهوا عن قول الزور والكذب.

"وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ" يقول تعالى ذكره: وهذه الحدود التي حدّها الله لكم، والفروض التي بينها لكم حدود الله فلا تتعدّوها أيها الناس.

"وَلِلْكَافِرِينَ" بها، وهم جاحدو هذه الحدود وغيرها -من فرائض الله أن تكون من عند الله-، "عَذَابٌ أَلِيمٌ" يقول: عذاب مؤلم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{ذَلِكَ} البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها لتصدقوا {بالله وَرَسُولِهِ} في العمل بشرائعه التي شرعها من الظهار وغيره، ورفض ما كنتم عليه في جاهليتكم {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} التي لا يجوز تعدّيها {وللكافرين} الذي لا يتبعونها ولا يعملون عليها {عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وفي هذه الآيات، عدة أحكام:

منها: لطف الله بعباده واعتناؤه بهم، حيث ذكر شكوى هذه المرأة المصابة، وأزالها ورفع عنها البلوى، بل رفع البلوى بحكمه العام لكل من ابتلي بمثل هذه القضية. ومنها: أن الظهار مختص بتحريم الزوجة، لأن الله قال {مِنْ نِسَائِهِمْ} فلو حرم أمته، لم يكن ذلك ظهارا، بل هو من جنس تحريم الطعام والشراب، تجب فيه كفارة اليمين فقط.

ومنها: أنه لا يصلح الظهار من امرأة قبل أن يتزوجها، لأنها لا تدخل في نسائه وقت الظهار، كما لا يصح طلاقها، سواء نجز ذلك أو علقه.

ومنها: أن الظهار محرم، لأن الله سماه منكرا [من القول] وزورا.

ومنها: تنبيه الله على وجه الحكم وحكمته، لأن الله تعالى قال: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}. ومنها: أنه يكره للرجل أن ينادي زوجته ويسميها باسم محارمه، كقوله {يا أمي} {يا أختي} ونحوه، لأن ذلك يشبه المحرم.

ومنها: أن الكفارة إنما تجب بالعود لما قال المظاهر، على اختلاف القولين السابقين لا بمجرد الظهار.

ومنها: أنه يجزئ في كفارة الرقبة، الصغير والكبير، والذكر والأنثى، لإطلاق الآية في ذلك.

ومنها: أنه يجب إخراجها إن كانت عتقا أو صياما قبل المسيس، كما قيده الله، بخلاف كفارة الإطعام، فإنه يجوز المسيس والوطء في أثنائها.

ومنها: أنه لعل الحكمة في وجوب الكفارة قبل المسيس، أن ذلك أدعى لإخراجها، فإنه إذا اشتاق إلى الجماع، وعلم أنه لا يمكن من ذلك إلا بعد الكفارة، بادر لإخراجها.

ومنها: أنه لا بد من إطعام ستين مسكينا، فلو جمع طعام ستين مسكينا، ودفعها لواحد أو أكثر من ذلك، دون الستين لم يجز ذلك، لأن الله قال: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله)... وهم مؤمنون.. ولكن هذا البيان، وهذه الكفارات وما فيها من ربط أحوالهم بأمر الله وقضائه.. ذلك مما يحقق الإيمان، ويربط به الحياة؛ ويجعل له سلطانا بارزا في واقع الحياة. (وتلك حدود الله).. أقامها ليقف الناس عندها لا يتعدونها. وهو يغضب على من لا يرعاها ولا يتحرج دونها: (وللكافرين عذاب أليم).. بتعديهم وتحديهم وعدم إيمانهم وعدم وقوفهم عند حدود الله كالمؤمنين..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

رخصة لمن لم يجد عتق رقبة أن ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين لأنه لما لم يجد رقبة يعتاض بفكّها عن فكّ عصمة الزوجة نقل إلى كفارة فيها مشقة النفس بالصبر على لذة الطعام والشراب ليدفع ما التزمه بالظهار من مشقة الصبر على ابتعاد حَليلته فكان الصوم درجة ثانية قريبة من درجة تحرير الرقبة في المناسبة...

وأعيد قيد {من قبل أن يتماسا} للدلالة على أنه لا يكون المسّ إلا بعد انقضاء الصيام، فلا يظن أن مجرد شروعه في الصيام كافٍ في العود إلى الاستمتاع...

{فمن لم يستطع}، أي لعجزه أو ضعفه رخص الله له أن ينتقل إلى إطعام ستين مسكيناً عوضاً عن الصيام فالإِطعام درجة ثالثة يدفع عن ستين مسكيناً ألم الجوع عوضاً عما كان التزمه على نفسه من مشقة الابتعاد عن لذّاته...

ولا يمَسّ امرأته حتى يتم الشهرين متتابعين فإن مسها في خلال الشهرين أثِم ووجب عليه إعادة الشهرين...

والمسكين: الشديد الفقر...والمظاهر إن كان قادراً على بعض خصال الكفارة وأبى أن يكفّر انقلب ظهارُه إيلاءً. فإن لم ترض المرأة بالبقاء على ذلك فله أجل الإِيلاء فإن انقضى الأجل طلقت عليه امرأته إن طلبت الطلاق. وإن كان عاجزاً عن خصال الكفارة كلها كان كالعاجز عن الوطء بعد وقوعه منه فتبقى العصمة بين المتظاهر وامرأته ولا يقربها حتى يكفر...

{ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ الله وللكافرين عَذَابٌ أليم}. الإِشارة إلى ما ذكر من الأحكام، أي ذلك المذكورُ لتؤمنوا بالله ورسوله، أي لتؤمنوا إيماناً كاملاً بالامتثال لما أمركم الله ورسوله...و {لتؤمنوا} خبر عن اسم الإِشارة، واللام للتعليل. ولما كان المشار إليه وهو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكيناً عِوضاً عن تحرير رقبة كان من عُلّل به تحريرُ رقبة منسحباً على الصيام والإِطعام، وما علّل به الصيام والإِطعام منسحباً على تحرير رقبة، فأفاد أن كلاّ من تحرير رقبة وصيام شهرين وإطعام ستين مسكيناً مشتمل على كلتا العلّتين وهما: الموعظة والإِيمان بالله ورسوله...

والإِشارة في {وتلك حدود الله} إلى ما أشير إليه ب {ذلك}، وجيء له باسم إشارةِ التأنيث نظراً للإخبار عنه بلفظ {حدود} إذ هو جمع يجوز تأنيث إشارته كما يجوز تأنيث ضميره ومثله قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} في سورة [البقرة: 229]...

وجملة {وللكافرين عذاب أليم} تتميم لجملة {ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله}، أي: ذلك الحكم وهو إبطال التحريم بالظهار حكم الإِسلام. وأما ما كانوا عليه فهو من آثار الجاهلية فهو سنة قوم لهم عذاب أليم على الكفر وما تولد منه من الأباطيل، فالظهار شرع الجاهلية...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} فذلك هو السبيل لإحساس الجسد بالحرمان في الصيام ككفارةٍ للتعدي على حدود الله، فلا يعود إلى ذلك في المستقبل {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} ليكون الإطعام في ما يمثله من عبادة العطاء وجهاً من وجوه التعبير عن التضحية بالمال الذي يحل به المشكلة الغذائية للجائعين من المساكين، ليحل به مشكلته الروحية، {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} في الجانب العملي من الإيمان، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} في حرماته التي أراد لعباده أن لا يتجاوزوها، كدليلٍ على الإخلاص للإيمان الحق {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في ما تجاوزوه من حدود الإيمان في العقيدة والعمل مما قد يوحي بأن المراد به الكفر العملي لا العقيدي...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

وهذا اللون من الكفّارة في الحقيقة له أثر عميق على الإنسان، حيث إنّ الصوم بالإضافة إلى أنّه وسيلة لتنقية الروح وتهذيب النفس، فإنّ له تأثيراً عميقاً وفاعلا في منع تكرّر مثل هذه الأعمال في المستقبل.