فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗاۚ ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4)

" عن ابن عباس أن رجلا قال : يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها من قبل أن أكفّر ، فقال : وما حملك على ذلك ؟ قال : رأيت خلخالها في ضوء القمر ، قال : فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله " ثم ذكر سبحانه حكم العاجز عن الكفارة فقال :

{ فمن لم يجد } لرقبة في ملكة ، ولا تمكن من قيمتها { فصيام } أي فعليه صيام { شهرين متتابعين } متواليين لا يفطر فيهما ، فإن أفطر استأنف إن كان الإفطار لغير عذر ، وإن كان لعذر من مرض أو سفر فقال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي والشافعي ومالك : إنه يبني ولا يستأنف ، وقال أبو حنيفة : إنه يستأنف ، وهو مروي عن الشافعي ومعنى { من قبل أن يتماسا } ما تقدم قريبا فلو وطئ ليلا أو نهارا عمدا أو خطأ استأنف ، وبه قال أبو حنيفة ومالك ، وقال الشافعي : لا يستأنف إذا وطئ ليلا ، لأنه ليس محلا للصوم والأول أولى .

{ فمن لم يستطع } صيام شهرين متتابعين { فإطعام ستين مسكينا } أي فعليه أن يطعم ستين مسكينا لكل مسكين مدان ، وهما نصف صاع ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، وقال الشافعي وغيره لكل مسكين مد واحد من غالب قوت البلد ، والظاهر من الآية أن يطعمهم حتى يشبعوا مرة واحد أو يدفع إليهم ما يشبعهم ولا يلزمه أن يجمعهم مرة واحدة بل يجوز له أن يطعم بعض الستين في يوم ، وبعضهم في يوم آخر عن أبي هريرة ثلاث فيه مد ، كفارة اليمين ، وكفارة الظهار ، وكفارة الصيام .

{ ذلك } أي ما تقدم من البيان وتعليم الأحكام والتنبيه عليها واقع أو فعلنا ذلك { لتؤمنوا بالله ورسوله } وتعملوا بشرائعه التي شرعها لكم وتصدقوا أن الله أمر بها ، أو لتطيعوا الله ورسوله في الأوامر والنواهي ، وتقفوا عند حدود الشرع ولا تتعدوها ، ولا تعودوا إلى الظهار الذي هو منكر من القول وزور ، أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصححه غيرهم " عن سلمة بن صخر الأنصاري فقال :

كنت رجلا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان ، فرقا من أن أصيب منها في ليلي ، فأتتابع في ذلك ، وألا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح ، فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء فوثبت عليها ، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري ، فقلت : انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بأمري فقالوا : لا والله ، لا تفعل نتخوف أن ينزل فينا القرآن ، أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مقالة يبقى عليها عارها ، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك ، قال : فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته خبري ، فقال أنت بذاك ، قلت : أنا بذاك . قال : أنت بذاك ، قلت : أنا بذاك . قال أنت بذاك ، قلت : أنا بذاك ، وها أنا ذا فامض في حكم الله ، فإني صابر لذلك ، قال : أعتق رقبة ، فضربت عنقي بيدي فقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها ، قال : فصم شهرين متتابعين ، فقلت : هل أصابني ما أصابني إلا في الصيام قال : فأطعم ستين مسكينا ، قلت : والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشا ما لنا عشاء ، قال : اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق ، فقل له فليدفعها إليك ، فأطعم عنك منها وسقا ستين مسكينا ، ثم استعن بسائرها عليك وعلى عيالك ، فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، السعة والبركة أمر لي بصدقتكم فادفعوها إليّ فدفعوها إليه " .

{ وتلك } أي الأحكام المذكورة في الظهار والكفارة { حدود الله } فلا تجاوزوا حدوده التي حدها لكم ، فإنه قد بين لكم أن الظهار معصية ، وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة { وللكافرين } الذين لا يقفون عند حدود الله ، ولا يعلمون بما حده الله لعباده ، وسماه كفرا تغليظا وتشديدا { عذاب أليم } وهو عذاب جهنم يوم القيامة .