السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗاۚ ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4)

{ فمن لم يجد } أي : الرقبة بأن عجز المكفر عن الإعتاق حساً أو شرعاً وقت أداء الكفارة { فصيام } أي : فعليه صيام { شهرين متتابعين } عن كفارته فالرقيق لا يكفر إلا بالصوم لأنه معسر لا يملك شيئاً وليس لسيده منعه من الصوم إن ضره ، وإنما اعتبر العجز وقت الأداء لا وقت الوجوب قياساً على سائر العبادات .

ولو ابتدأ الصوم ثم وجد الرقبة لم يلزمه الانتقال عنه ، لأنه أمر به حيث دخل فيه ، وقال أبو حنيفة : يعتق قياساً على الصغيرة المعتدة بالشهور إذا رأت الدم قبل انقضاء عدّتها فإنها تستأنف الحيض إجماعاً ويكفيه نية صوم الكفارة ، وإن لم ينو الولاء ، فإن انكسر الشهر الأول أتمه من الثالث ثلاثين لتعذر الرجوع فيه إلى الهلال .

وينقطع التتابع بفوات يوم ولو بعذر كمرض أو سفر فيجب الاستئناف ولو كان الفائت اليوم الأخير أو اليوم الذي نسيت النية له بخلاف ما إذا فات بجنون أو إغماء مستغرق لمنافاة ذلك الصوم { من قبل أن يتماسا } كما مرّ في العتق ، فإن جامع ليلاً عصى ولم ينقطع التتابع لأنه ليس محلاً للصوم بخلافه نهاراً وقال أبو حنيفة ومالك : يبطل بكلّ حال ويجب عليه ابتداء الكفارة لقوله تعالى : { من قبل أن يتماسا } .

{ فمن لم يستطع } بأن عجز عن صوم أو لا لمرض يدوم شهرين بالظنّ المستفاد من العادة في مثله أو من قول الأطباء أو لمشقة شديدة تلحقه بالصوم أو بولائه ولو كانت المشقة لشدّة شهوة الوطء أو خوف زيادة مرض { فإطعام } أي : فعليه إطعام { ستين مسكيناً } أي : من قبل أن يتماسا حملاً للمطلق على المقيد بأن يملك كل مسكين من أهل الزكاة مدّاً من جنس الفطرة كبر وشعير وأقط ولبن فلا يجزئ لحم ودقيق وسويق ، وخرج بأهل زكاة غيره فلا يجزئ دفعها لكافر ولا لهاشميّ ومطلبيّ ولا لمواليهما ولا لمن تلزمه مؤنته ولا لرقيق ، لأنها حق الله تعالى فاعتبر فيها صفات الكمال .

{ ذلك } أي : الترخيص العظيم لكم والرفق بكم والبيان الشافي من أمر الله الذي هو موافق للحنيفية السمحة ملة أبيكم إبراهيم عليه السلام { لتؤمنوا } أي : ليتحقق إيمانكم { بالله } أي : الملك الذي لا أمر لأحد معه فتطيعوا بالانسلاخ عن أمر الجاهلية { ورسوله } أي : الذي تعظيمه من تعظيمه .

ولما رغب في هذا الحكم رهب في التهاون به بقوله تعالى : { وتلك } أي : هذه الأحكام العظيمة المذكورة { حدود الله } أي : أوامر الملك الأعظم ونواهيه التي يجب امتثالها والتعبد بها لترعى حق رعايتها فالتزموها وقفوا عندها ولا تعدوها ، فإنه لا يطاق انتقامه إذا تعدّى نقضه وإبرامه { وللكافرين } أي : العريقين في الكفر بها أو بشيء من شرائعه { عذاب أليم } أي : بما آلموا المؤمنين به من الاعتداء فإن عجز عن جميع خصال الكفارة لم تسقط الكفارة عنه بل هي باقية في ذمته إلى أن يقدر على شيء منها ، فإذا قدر عل خصلة من خصالها فعلها ، ولا يتبعض العتق ولا الصوم بخلاف الإطعام حتى لو وجد بعض مدّ أخرجه ، لأنه لا بدل له وبقي الباقي في ذمته .

قال الزمخشري : فإن قلت فإذا امتنع المظاهر من الكفارة هل للمرأة أن تدافعه قلت لها ذلك وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر وأن يحبسه ، ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها لأنه يضرّ بها في ترك التكفير والانتفاع بحق الاستمتاع فيلزم أبداً حقها فإن قلت : فإن مس قبل أن يكفر قلت عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر لما روي أن سلمة بن صخر البياضي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها فقال عليه الصلاة والسلام : استغفر ربك ولا تعد حتى تكفر » ا . ه . والمراد بالاستغفار هنا : التوبة .