لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗاۚ ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4)

{ فمن لم يجد } أي الرقبة { فصيام شهرين } أي فكفارته وقيل فعليه صيام شهرين { متتابعين من قبل أن يتماسّا فمن لم يستطع } أي الصيام ( ف ) كفارته { إطعام ستين مسكيناً ذلك } أي الفرض الذي وصفناه ، { لتؤمنوا بالله ورسوله } أي لتصدقوا الله فيما أمر به وتصدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن الله تعالى : { وتلك حدود الله } يعني ما وصف من الكفارة في الظهار { وللكافرين } أي لمن جحد هذا وكذب به { عذاب أليم } أي في نار جهنم يوم القيامة .

( فصل : في أحكام الكفارة ، وما يتعلق بالظهار )

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اختلفوا فيما يحرمه الظهار فللشافعي قولان : أحدهما أنه يحرم الجماع فقط ، والقول الثاني وهو الأظهر أنه يحرم جميع جهات الاستمتاع وهو قول أبي حنيفة .

المسألة الثانية : اختلفوا فيمن ظاهر مراراً فقال الشافعي وأبو حنيفة لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد التكرار للتأكيد فإن عليه كفارة واحدة ، وقال مالك من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة فليس عليه إلا كفارة واحدة .

المسألة الثالثة : الآية تدل على إيجاب الكفارة قبل المماسّة سواء أراد التكفير بالإعتاق أو بالصيام أو بالإطعام وعند مالك إن أراد التكفير بالإطعام يجوز له الوطء قبله لأن الله تعالى قيد العتق والصوم بما قبل المسيس ولم يقل في الإطعام { من قبل أن يتماسا } فدل على ذلك . وعند الآخرين الإطلاق في الطعام محمول على المقيد في العتق والصيام فإن جامع قبل أن يكفر لم يجب عليه إلا كفارة واحدة وهو قول أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وسفيان ، وقال بعضهم وإن واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان وهو قول عبد الرحمن بن مهدي .

المسألة الرابعة : كفارة الظهار مرتبة فيجب عليه عتق رقبة مؤمنة وقال أبو حنيفة هذه الرقبة تجزي سواء كانت مؤمنة أو كافرة لقوله تعالى : { فتحرير رقبة } فهذا اللفظ يفيد العموم في جميع الرقاب .

دليلنا أنا أجمعنا على أن الرقبة في كفارة القتل مقيدة بالإيمان فكذا هنا وحمل المطلق على المقيد أولى .

المسألة الخامسة : الصوم فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين فإن أفطر يوماً متعمداً أو نسي النية يجب عليه استئناف الشهرين ولو شرع في الصوم ثم جامع في خلال الشهرين بالليل عصى الله تعالى بتقديم الجماع على الكفارة لكن لا يجب عليه استئناف الشهرين وعند أبي حنيفة يجب عليه استئناف الشهرين .

المسألة السادسة : إن عجز عن الصوم لمرض أو كبر أو فرط شهوة بحيث لا يصبر عن الجماع يجب عليه إطعام ستين مسكيناً كل مسكين مد من الطعام الذي يقتات به أهل البلد من حنطة أو شعير أو أرز أو ذرة أو تمر أو نحو ذلك ، وقال أبو حنيفة يعطي لكل مسكين نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير ولو أطعم مسكيناً واحداً ستين جزءاً لا يجزيه عند الشافعي وقال أبو حنيفة يجزيه . حجة الشافعي ظاهر الآية وهو أن الله تعالى أوجب إطعام ستين مسكيناً فوجب رعاية ظاهر الآية وحجة أبي حنيفة أن المقصود دفع الحاجة وهو حاصل .

وأجيب عنه بأن إدخال السرور على قلب ستين مسكيناً أولى من إدخال السرور على قلب مسكين واحد .

المسألة السابعة : إذا كانت له رقبة إلا أنه محتاج إلى الخدمة أو له ثمن الرقبة لكنه محتاج إليه لنفقته ونفقة عياله فله أن ينتقل إلى الصوم وقال مالك والأوزاعي يلزمه الإعتاق إذا كان واجداً للرقبة أو ثمنها وإن كان محتاجاً إليه ، وقال أبو حنيفة إن كان واجداً لعين الرقبة يجب عليه إعتاقها وإن كان محتاجاً إليه ، وإن كان واجداً لثمن الرقبة لكنه محتاج إليه فله أن يصوم .

المسألة الثامنة : قال أصحاب الشافعي الشبق المفرط والغلمة الهائجة عذر في الانتقال من الصيام إلى الإطعام والدليل عليه ما روي عن سلمة بن صخر البياضي قال «كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً تتايع بي حتى أصبحت فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء فما لبثت أن نزوت عليها فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر ، قال فقلت امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لا والله فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال أنت بذاك يا سلمة قلت أنا بذاك يا رسول الله مرتين وأنا صابر لأمر الله فاحكم بما أمرك الله به . قال حرر رقبة قلت والذي بعثك بالحق نبياً ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي قال فصم شهرين متتابعين قال وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام قال فأطعم وسقاً من تمر ستين مسكيناً قلت والذي بعثك بالحق نبياً لقد بتنا وحشين لا نملك لنا طعاماً ، قال فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر وكُل أنت وعيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم وبنو بياضة بطن من بني زريق » أخرجه أبو داود .

قوله نزوت عليها أي وثبت عليها وأراد به الجماع وقوله تتايع به التتايع الوقوع في الشر واللجاج فيه والوسق ستون صاعاً ، وقوله وحشين يقال رجل وحش إذا لم يكن له طعام وأوحش الرجل إذا جاع .

وعن خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت " ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه ويقول اتقي الله فإنه ابن عمك فما برحت حتى نزل القرآن قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها إلى الفرض قال يعتق رقبة قلت لا يجد قال فليصم شهرين متتابعين قلت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام ، قال فليطعم ستين مسكيناً قلت ما عنده شيء يتصدق به ، قال فإني سأعينه بعرق من تمر قلت يا رسول الله وأنا أعينه بعرق آخر قال قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً ارجعي إلى ابن عمك " أخرجه أبو داود وفي رواية " قلت إن أوساً ظاهر مني وذكرت أن به لمماً وقالت والذي بعثك بالحق ما جئتك إلا رحمة له إن له في منافع وذكرت نحوه " العرق بفتح العين والراء المهملتين زنبيل يسع ثلاثين صاعاً وقيل خمسة عشر صاعاً وقولها إن به لمماً اللمم طرف من الجنون وقال الخطابي لبس المراد من اللمم هنا الجنون والخبل إن لو كان به ذلك ثم ظاهر في تلك الحال لم يلزمه شيء ، بل معنى اللمم هاهنا الإلمام بالنساء وشدة الحرص والشبق والله أعلم .