اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗاۚ ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4)

قوله تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } .

وقوله تعالى : { فَإِطْعَامُ } كقوله في الأوجه الثلاثة المتقدمة من قبلُ ، متعلق بالفعل أو الاستقرار المتقدم ، أي : فيلزم تحرير ، أو صيام ، أو فعليه كذا من قبل تماسهما . والضمير في «يتماسَّا » للمظاهر والمظاهر منها لدلالة ما تقدم عليها{[55624]} .

فصل إذا لم يجد الرقبة{[55625]}

من لم يجد الرقبة ولا ثمنها ، وكان مالكاً لها إلاَّ أنه شديد الحاجة إليها لخدمته ، أو كان مالكاً لثمنها إلاَّ أنه يحتاج إليه لنفقته ، أو كان له مسكين ليس له غيره ، ولا يجد شيئاً سواه فله أن يصوم .

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يصوم وعليه العتق ، ولو كان محتاجاً إلى ذلك .

والصيام الواجب في هذه الكفَّارة أن يصوم شهرين متتابعين ، فإن أفطر في أثنائها بغير عُذْرٍ استأنفهما وإن أفطر بعذر من سفر أو مرض ، فقال ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي : يبني على ما مضى ، وهو الصحيح من مذهب الشافعي ، فإن ابتدأ الصيام ثم وجد الرقبة لم يلزمه الانتقال عنه ؛ لأنه أمر به حين دخل فيه .

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يعتق قياساً على الصغيرة المعتدة بالشهور إذا رأت الدَّم قبل انقضاء عدّتها ، فإنها تستأنف الحَيْض إجماعاً ، فإن وطئ المظاهر في خلال الشهرين نهاراً بطل التتابع ، وإن وطئ ليلاً لم يبطل ؛ لأنه ليس محلاًّ للصَّوم .

وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - ومالك : يبطل بكل حال ، ويجب عليه ابتداء الكفَّارة لقوله تعالى : { مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } وهذا شرط عائد إلى جملة الشهرين .

ومن طال مرضه طولاً لا يرجى بُرْؤه{[55626]} ، وكان بمنزلة العاجز من كبرٍ ، فيجوز له العدول عن الصيام إلى الإطعام .

فإن كان يرجى بُرْؤه ، واشتدت حاجته إلى وَطْءِ امرأته فالاختيار له أن ينتظر البُرْءَ حتى يقدر على الصيام ، فإذا كفَّر بالإطعام ، ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه .

فإن ظاهر وهو موسرٌ ، ثم أعسر قبل أن يكفر صام ، وإنما ينظر إلى حاله يوم يكفر ، ولو جامعها في عدمه وعسره ، فلم يكفر حتى أيسر لزمه العِتْق .

ولو ابتدأ بالصوم ثم أيسر ، قال القرطبي رحمه الله{[55627]} : فإن كان مضى من صومه صدر صالح كالجمعة وشبهها تمادى ، وإن كان يوماً أو يومين ترك الصوم ، وعاد إلى العتق ، وليس ذلك بواجب عليه .

ولو ظاهر عن امرأتين له فأعتق رقبة عن إحداهما لا بعينها لم يجز له وطء واحدة منهما حتى يكفر الكفَّارة الأخرى ، ولو عين الكفَّارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفر الكفَّارة عن الأخرى .

قال القرطبي{[55628]} : «ولو ظاهر من أربع نسوة ، فأعتق عنهن ثلاث رقاب ، وصام شهرين لم يجزه العِتْق ولا الصيام ؛ لأنه إنما صام عن كل واحدة خمسة عشر يوماً ، فإن كفر عنهن بالإطعام جاز أن يطعم عنهن مائتي مسكين ، فإن لم يقدر فرّق بخلاف العتق والصيام ؛ لأن صيام الشهرين لا يفرق والإطعام يفرق » .

[ قوله تعالى : { فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } الآية كقوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } في الأوجه الثلاثة المتقدمة ، و«مِنْ قَبْل » متعلق بالفعل ، أو الاستقرار المتقدم ، أي : فيلزمه تحرير ، أو صيام أو فعليه كذا من قبل تماسهما ، والضمير في «يتماسّا » للمظاهر والمظاهر منها لدلالة ما تقدم ]{[55629]} .

فصل في الترتيب في كفَّارة الظهار{[55630]}

اعلم أن الله - تعالى - أمر بكفَّارة الظهار مرتبة ، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الإعتاق ، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام ، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكيناً لكل مسكين مد من طعام بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم .

قال ابن عبد البرّ{[55631]} : والأفضل مُدَّان بمُدِّ النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجزئ عند مالك ، والشافعي - رضي الله عنهما - أن يطعم أقل من ستين مسكيناً .

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاعٍ حتى يكمل العدد أجزأه .

وعن أحمد - رضي الله عنه - إذا لم يجد إلاَّ مسكيناً واحداً ردد عليه بعدد الأيام .

فصل في نسخ الظهار لما كانوا عليه{[55632]}

حكم الظِّهار ناسخ لما كانوا عليه من كون الظِّهار طلاقاً في الجاهلية ، روي ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما .

قوله : { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ } .

قال الزَّجَّاج{[55633]} : «ذلك » فيه وجهان :

الأول : أنه في محل رفع ، أي : الغرض ذلك الذي وصفنا من التَّغليظ في الكفَّارة ، «لتُؤمِنُوا » أي : لتصدقوا أن الله أمر به .

الثاني : فعلنا ذلك للبيان والتعظيم للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم والعمل بشرائعه ، ولا تستمروا على أحكام الجاهلية من جعل الظهار أقوى أنواع الطَّلاق .

فصل في أن الكفارة إيمان بالله تعالى{[55634]}

استدلّ بعض العلماء على أنَّ هذه الكفَّارة إيمان بالله تعالى ؛ لأنه لما ذكرها وأوجبها ، قال جل ذكره : { لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } ، أي : ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدّوها ، فسمى التكفير إيماناً ؛ لأنه طاعة ، ومراعاة للحد ، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان .

فصل في معنى الآية{[55635]}

معنى قوله تعالى : { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } أي : لئلا تعودوا للظِّهار الذي هو منكر من القول وزور .

قيل له : قد يجوز أن يكون كلاهما مقصوداً ، فيكون المعنى : ذلك لئلا تعودوا ، فتقولوا المنكر والزور ، بل تدعونهما طاعة لله - سبحانه وتعالى - إذ كان قد حرمهما ، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا إذا كان الله منع من مَسيسهَا وتكفّروا إذا كان الله - عز وجل - أمر بالكفَّارة ، وألزم إخراجها منكم ، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم لأنها حدود تحفظونها وطاعات تؤدّونها ، والطَّاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم إيمان بالله ورسوله .

فصل في إدخال العمل تحت مسمى الإيمان

قال ابن الخطيب{[55636]} : استدل من أدخل العمل في مسمى الإيمان بهذه الآية ، فقال : إن الله - تعالى - أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين ، فدل على أن العمل من الإيمان ، ومن أنكر ذلك قال : إنه - تعالى - لم يقل : ذلك لتؤمنوا باللَّهِ بعمل هذه الأشياء ، ونحن نقول : المعنى «ذلك لتؤمنوا بالله » والإقرار بهذه الأحكام .

فصل فيمن استدل بهذه الآية على أن أفعال الله معللة بالأغراض{[55637]}

استدلت المعتزلة في قوله تعالى «لتؤمنوا » على أن فعل الله معلل بالغرض ، وعلى أن غرضه أن تؤمنوا ، ولا تستمروا على ما كانوا عليه من الكفر ، وهذا يدلّ على أنه - تعالى - أراد منهم الإيمان وعدم الكفر .

قوله : { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } أي بيّن معصيته وطاعته ، فمعصيته الظِّهار ، وطاعته الكفارة .

{ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : لمن جحد هذا وكذب به ، ولم يصدق بأحكام الله تعالى له عذاب جهنم{[55638]} .


[55624]:الدر المصون 6/287.
[55625]:ينظر القرطبي 17/184.
[55626]:القرطبي 17/184، 185.
[55627]:الجامع لأحكام القرآن 17/185.
[55628]:السابق.
[55629]:تقدم بتمامه.
[55630]:ينظر: القرطبي 17/185.
[55631]:الاستذكار: 10/104، 105.
[55632]:الجامع لأحكام القرآن 17/186.
[55633]:ينظر: معاني القرآن وإعرابه 5/136، والفخر الرازي 29/228، والقرطبي 17/186.
[55634]:ينظر: القرطبي 17/187.
[55635]:ينظر المصدر السابق.
[55636]:التفسير الكبير 29/228.
[55637]:السابق.
[55638]:ينظر: القرطبي 17/187.