معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (79)

قوله تعالى : { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } ، أي لا ينهى بعضهم بعضاً .

قوله تعالى : { لبئس ما كانوا يفعلون } .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو الحسن محمد بن الحسين ، أنا أحمد بن محمد بن إسحاق ، أنا أبو يعلى الموصلي ، أنا وهب بن بقية ، أنا خالد يعني ابن عبد الله الوسطي ، عن العلاء بن المسيب ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل العامل منهم الخطيئة نهاه الناهي تعذيراً ، فإذا كان من الغد جالسه ، وآكله ، وشاربه ، كأنه لم يره على الخطيئة بالأمس ، فلما رأى الله تبارك وتعالى ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ، وجعل منهم القردة ، والخنازير ، ولعنهم على لسان داود ، وعيسى ابن مريم ، عليهما السلام { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } ، والذي نفسي بيده ، لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد السفيه ، ولتأطرنه على الحق أطراً ، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ، ويلعنكم كما لعنهم ) .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (79)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } . .

يقول تعالى ذكره : كان هؤلاء اليهود الذين لعنهم الله لا يَتَنَاهَوْنَ يقول : لا ينتهون عن منكر فعلوه ، ولا ينهى بعضهم بعضا . ويعني بالمنكر : المعاصي التي كانوا يعصون الله بها . فتأويل الكلام : كانوا لا ينتهون عن منكر أتوه ، لبْئْسَ ما كَانُوا يَفْعَلُونَ وهذا قسم من الله تعالى ذكره ، يقول : أقسم لبِئس الفعل كانوا يفعلون في تركهم الانتهاء عن معاصي الله تعالى وركوب محارمه وقتل أنبياء الله ورسله كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : كانُوا لا يَتَناهْوَنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لا تتناهى أنفسهم بعد أن وقعوا في في الكفر .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (79)

{ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } أي لا ينهى بعضهم بعضا عن معاودة منكر فعلوه ، أو عن مثل منكر فعلوه ، أو عن منكر أرادوا فعله وتهيؤوا له ، أو لا ينتهون عنه من قولهم تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع . { لبئس ما كانوا يفعلون } تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (79)

ذم الله تعالى هذه الفرقة الملعونة بأنهم { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } أي إنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي وإن نهى منهم ناه فعن غير جد ، بل كانوا لا يمتنع الممسك منهم عن مواصلة العاصي ومؤاكلته وخلطته ، وروى ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على ذنب نهاه عنه تعزيراً ، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون خليطه وأكيله ، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ، قال ابن مسعود : وكان رسول الله متكئاً فجلس ، وقال : لا والله حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطراً »{[4649]} .

قال القاضي أبو محمد : والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه ونهى بمعروف وَأِمن الضرر عليه وعلى المسلمين ، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه ففرض عليه الإنكار بقلبه وأن لا يخالط ذا المنكر ، وقال حذاق أهل العلم : ليس من شروط الناهي أن يكون سليماً من المعصية ، بل ينهى العصاة بعضهم بعضاً ، وقال بعض الأصوليين فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً . واستدل قائل هذه المقالة بهذه الآية ، لأن قوله { يتناهون } و { فعلوه } يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي . وقوله تعالى { لبئس ما كانوا يفعلون } اللام لام قسم ، جعل الزجاج { ما } مصدرية وقال : التقدير لبئس شيئاً فعلهم .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، وقال غيره { ما } نكرة موصوفة ، التقدير : لبئس الشيء{[4650]} الذي كانوا يفعلون فعلاً .


[4649]:- أخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي،وحسنه، وابن ماجة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي-عن ابن مسعود- وقد روى هذا الحديث من طرق كثيرة. وأحاديث في هذا الباب كثيرة. (فتح القدير. الدر المنثور).
[4650]:- في بعض النسخ سقطت كلمة (الشيء) والمعنى صحيح.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (79)

وجملة { كانوا لا يتناهَوْن عن منكر فعلوه } مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال ينشأ عن قوله : { ذلك بما عَصوا } ، وهو أن يقال كيفَ تكون أمّة كلّها مُتمالئة على العصيان والاعتداء ، فقال : { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } . وذلك أن شأن المناكر أن يبتدئها الواحد أنّ النّفَر القليل ، فإذا لم يجدوا من يغيِّر عليهم تزايدوا فيها ففشت واتّبَع فيها الدّهماءُ بعضهم بعضاً حتّى تعمّ ويُنسى كونها مناكرَ فلا يَهتدي النّاس إلى الإقلاع عنها والتّوبةِ منها فتصيبهم لعنة الله . وقد روى التّرمذي وأبو داوود من طرق عن عبد الله بن مسعود بألفاظ متقاربة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « كانَ الرجل من بني إسرائيل يلقَى الرجل إذا رآه على الذنب فيقول : يا هذا اتّقِ الله ودَع ما تصنع ، ثمّ يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيلَه وخليطَه وشريكَه ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داوود وعيسى ابن مريم ، ثُمّ قرأ : { لُعن الّذين كفروا من بني إسرائيل إلى قوله : فَاسقون } [ المائدة : 78 81 ] ثُمّ قال : والّذي نفسي بيده لتأمُرُنّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنّ عن المنكر ولتأخُذُنّ على يد الظّالم ولتأطُرُنَّهُ على الحقّ أطْرا أوْ لَيضربَنّ الله قلوبَ بعضكم على بعض أو ليلعنُكم كما لَعنهم » .

وأطلق التناهي بصيغة المفاعلة على نهي بعضهم بعضاً باعتبار مجموع الأمّة وأنّ نَاهيَ فاعل المنكر منهم هو بصدد أن يَنهاه المنهيّ عندما يرتكب هو مُنكراً فيحصل بذلك التّناهي . فالمفاعلة مقدّرة وليست حقيقيَّة ، والقرينة عموم الضّمير في قوله { فَعلوه } ، فإنّ المنكر إنّما يفعله بعضهم ويسكُت عليه البعض الآخر ؛ وربّما فعل البعضُ الآخر منكراً آخرَ وسَكت عليه البعض الّذي كان فعَل منكراً قبله وهكذا ، فهم يصانعون أنفسهم .

والمراد ب { ما كانوا يفعلون } تَرْكُهم التناهيَ .

وأطلق على ترك التناهي لفظ الفِعل في قوله { لبئس ما كانوا يفعلون } مع أنّه ترك ، لأنّ السكوت على المنكر لا يخلو من إظهار الرّضا به والمشاركة فيه .

وفي هذا دليل للقائلين من أيمّة الكلام من الأشاعرة بأنّه لا تكليف إلاّ بفعل ، وأنّ المكلّف به في النّهي فِعْل ، وهو الانتهاء ، أي الكفّ ، والكفّ فعل ، وقد سمّى الله الترك هنا فِعلاً . وقد أكّد فعل الذّم بإدخال لام القسم عليه للإقصاء في ذمّة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (79)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: كان هؤلاء اليهود الذين لعنهم الله "لا يَتَنَاهَوْنَ "يقول: لا ينتهون عن منكر فعلوه، ولا ينهى بعضهم بعضا. ويعني بالمنكر: المعاصي التي كانوا يعصون الله بها. فتأويل الكلام: كانوا لا ينتهون عن منكر أتوه، "لبْئْسَ ما كَانُوا يَفْعَلُونَ" وهذا قسم من الله تعالى ذكره، يقول: أقسم لبِئس الفعل كانوا يفعلون في تركهم الانتهاء عن معاصي الله تعالى وركوب محارمه وقتل أنبياء الله ورسله.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

{كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} معناه لا يَنْهَى بعضهم بعضاً عن المنكر...

في هذه الآية مع ما ذكرنا من الخبر في تأويلها دلالةٌ على النهي عن مجالسة المظهرين للمنكر، وأنه لا يُكْتَفَى منهم بالنهي دون الهجران.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

وفي الآية دلالة على وجوب إنكار المنكر، لأن كل شيء ذم الله عليه فواجب تركه إلا أن يقيد بوقت يخصه، لأن ظاهر ذلك يقتضي قبحه، والتحذير منه. والمنكر هو القبيح، سمي بذلك لأنه ينكره العقل من حيث أن العقل يقبل الحسن ويعترف به ولا يأباه، وينكر القبيح ويأباه.

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

هذا غاية التشديد، إذ علل استحقاقهم للعنة بتركهم النهي عن المنكر [الإحياء: 2/334].

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير، وقلة عبثهم به، كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذا الباب. فإن قلت كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيراً للمعصية والاعتداء؟ قلت: من قبل أنّ الله تعالى أمر بالتناهي، فكان الإخلال به معصية وهو اعتداء، لأنّ في التناهي حسماً للفساد، فكان تركه على عكسه. فإن قلت: ما معنى وصف المنكر ب"فعلوه"، ولا يكون النهي بعد الفعل؟ قلت: معناه لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه، أو عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله، كما ترى أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوّى وتهيأ فتنكر. ويجوز أن يراد: لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه، بل يصبرون عليه ويداومون على فعله. يقال: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه ونهى بمعروف وَأِمن الضرر عليه وعلى المسلمين، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه ففرض عليه الإنكار بقلبه وأن لا يخالط ذا المنكر، وقال حذاق أهل العلم: ليس من شروط الناهي أن يكون سليماً من المعصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضاً، وقال بعض الأصوليين فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً. واستدل قائل هذه المقالة بهذه الآية، لأن قوله {يتناهون} و {فعلوه} يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

ثم بين حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم، فقال: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أي: كان لا ينهي أحد منهم أحدًا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يُرْكَبَ مثل الذي ارتكبوا، فقال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.

.. عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم -قال يزيد: وأحسبه قال: وأسواقهم- وواكلوهم وشاربوهم. فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس فقال: "لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا".

.. عن حذيفة بن اليمان؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نَفْسِي بيده لتَأمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنَّ عن المُنْكَرِ، أو ليُوشِكَنَّ الله أن يبعث عليكم عِقابًا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم".

ورواه الترمذي عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، به. وقال: هذا حديث حسن 7.

عن مجاهد قال: حدثني مولى لنا أنه سمع جدي -يعني: عدي بن عميرة، رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الله 10 لا يُعذِّب العامَّة بعَمَلِ الخاصة، حتى يَرَوا المنكر بين ظهْرانيْهِم، وهم قادرون على أن ينكروه. فلا ينكرونه فإذا فعلوا ذلك عَذَّبَ الله العامة والخاصة".

ثم رواه أحمد، عن أحمد بن الحجاج، عن عبد الله بن المبارك، عن سيف بن أبي سليمان، عن عدي بن عدي الكندي، حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره. هكذا رواه الإمام أحمد من هذين الوجهين.

عن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبًا، فكان فيما قال: "ألا لا يمنعن رجلا هَيْبَةُ الناس أن يقول الحق إذا علمه". قال: فبكى أبو سعيد وقال: قد -والله- رأينا أشياء، فَهِبْنَا.

عن أبي أمامة قال: عَرَض لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ عند الجَمْرة الأولى فقال: يا رسول الله، أيّ الجهاد أفضل؟ فسكت عنه. فلما رَمَى الجمرة الثانية سأله، فسكت عنه. فلما رمى جمرة العَقَبة، ووضع رجله في الغَرْز ليركب، قال:"أين السائل؟ "قال: أنا يا رسول الله، قال:"كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر". تفرد به.

وقال ابن ماجه: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الله بن نُمَيْر وأبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البَخْترِي، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحْقِر أحدكم نفسه". قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟. قال:"يرى أمرًا لله فيه مَقَال، ثم لا يقول فيه. فيقول الله له يوم القيامة: ما منعك أن تقول فيّ كذا وكذا وكذا؟ فيقول: خَشْيَةَ الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تَخْشَى". تفرد به.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن منكر ما من المنكرات مهما اشتد قبحها وعظم ضررها، وإنما النهي عن المنكر حفاظ الدين، وسياج الآداب والفضائل، فإذا ترك تجرأ الفساق على إظهار فسقهم وفجورهم، ومتى صار الدهماء يرون المنكرات بأعينهم، ويسمعونها بآذانهم. تزول وحشتها وقبحها من أنفسهم، ثم يتجرأ الكثيرون أو الأكثرون على اقترافها. فالأخبار بهذا الشأن من شؤونهم، أخبار بفشو المنكرات فيهم، وانتشار مفاسدها بينهم، لأن وجود العلة يقتضي وجود المعلول، ولولا استمرار وقوع المنكرات، لما صح أن يكون ترك التناهي شأنا من شؤون القوم ودأبا من دؤوبهم. [وقد بسطنا في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تفسير {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} [النساء: 104] الآية فليراجع في جزء التفسير الرابع وسنعود إليه إن شاء الله تعالى].

{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} هذا تأكيد قسمي لذم ما كانوا يفعلونه مصرين عليه من اقترف المنكرات والسكوت عليها والرضاء بها، وكفى بذلك إفسادا ذلك شأنهم ودأبهم الذي مردوا واصروا عليه، بينه الله تعالى لرسوله وللمؤمنين عبرة لهم، حتى لا يفعلهم فيكونوا مثلهم، ويحل بهم من لعنة الله وغضبه ما حل بهم... وورد في المعنى عدة أحاديث، فهل من معتبر أو مذكر؟ بل رأينا من آثار غضب الله تعالى مثلما رأى بنو إسرائيل أو قريبا منه، وقد عرفنا سببه ولم نتركه، ونراه يزداد بالإصرار على السبب، ولا نتوب ولا نتذكر!! فإلى متى إلى متى؟؟

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولم تكن المعصية والاعتداء أعمالا فردية في مجتمع بني إسرائيل. ولكنها انتهت إلى أن تصبح طابع الجماعة كلها؛ وأن يسكت عنها المجتمع. ولا يقابلها بالتناهي والنكير:

(كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون!)..

إن العصيان والعدوان قد يقعان في كل مجتمع من الشريرين المفسدين المنحرفين. فالأرض لا تخلو من الشر؛ والمجتمع لا يخلو من الشذوذ، ولكن طبيعة المجتمع الصالح لا تسمح للشر والمنكر أن يصبحا عرفا مصطلحا عليه؛ وأن يصبحا سهلا يجترئ عليه كل من يهم به.. وعندما يصبح فعل الشر أصعب من فعل الخير في مجتمع من المجتمعات؛ ويصبح الجزاء على الشرك رادعا وجماعيا تقف الجماعة كلها دونه؛ وتوقع العقوبة الرادعة عليه.. عندئذ ينزوي الشر، وتنحسر دوافعه. وعندئذ يتماسك المجتمع فلا تنحل عراه. وعندئذ ينحصر الفساد في أفراد أو مجموعات يطاردها المجتمع، ولا يسمح لها بالسيطرة؛ وعندئذ لا تشيع الفاحشة. ولا تصبح هي الطابع العام!

والمنهج الإسلامي -بعرضه لهذه الظاهرة في المجتمع الإسرائيلي- في صورة الكراهية والتنديد، يريد للجماعة المسلمة أن تكون لها كيان حي متجمع صلب؛ يدفع كل بادرة من بوادر العدوان والمعصية، قبل أن تصبح ظاهرة عامة؛ ويريد للمجتمع الإسلامي أن يكون صلبا في الحق، وحساسا تجاه الاعتداء عليه؛ ويريد للقائمين على الدين أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها، فيقفوا في وجه الشر والفساد والطغيان والاعتداء.. ولا يخافوا لومة لائم. سواء جاء هذا الشر من الحكام المتسلطين بالحكم؛ أو الأغنياء المتسلطين بالمال؛ أو الأشرار المتسلطين بالأذى؛ أو الجماهير المتسلطة بالهوى. فمنهج الله هو منهج الله، والخارجون عليه علو أم سفلوا سواء.

والإسلام يشدد في الوفاء بهذه الأمانة؛ فيجعل عقوبة الجماعة عامة بما يقع فيها من شر إذا هي سكتت عليه؛ ويجعل الأمانة في عنق كل فرد، بعد أن يضعها في عنق الجماعة عامة.

روى الإمام أحمد -بإسناده- عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم. فضرب الله بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم... [ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون]." وكان الرسول صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس، فقال: "ولا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرًا".

وروى أو داود -بإسناده- عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض"، ثم قال: "(لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم) -إلى قوله: (فاسقون)" ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً- أو تقصرنه على الحق قصراً -"

فليس هو مجرد الإمر والنهي، ثم تنتهي المسألة، إنما هو الإصرار، والمقاطعة، والكف بالقوة عن الشر والفساد والمعصية والاعتداء.

وروي مسلم- بإسناده -عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.. وذلك أضعف الإيمان".

وروى الإمام أحمد- بإسناده -عن عدي بن عميرة قال- سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم -وهم قادرون على أن ينكروه- فلا ينكرونه. فإذا فعلوا عذب الله العامة والخاصة".

وروى أبو داود والترمذي -بإسناده- عن أبي سعيد قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر"..

وتتوارد النصوص القرآنية والنبوية تترى في هذا المعنى؛ لأن هذا التماسك في كيان الجماعة بحيث لا يقول أحد فيها -وهو يرى المنكر يقع من غيره -: وأنا مالي؟! وهذه الحمية ضد الفساد في المجتمع، بحيث لا يقول أحد- وهو يرى الفساد يسري ويشيع -وماذا أصنع والتعرض للفساد يلحق بي الأذى؟! وهذه الغيرة على حرمات الله، والشعور بالتكليف المباشر بصيانتها والدفع عنها للنجاة من الله.. هذا كله هو قوام الجماعة المسلمة الذي لا قيام لها إلا به..

وهذا كله في حاجة إلى الإيمان الصحيح بالله؛ ومعرفة تكاليف هذا الإيمان. وإلى الإدراك الصحيح لمنهج الله؛ ومعرفة أنه يشمل كل جوانب الحياة. وإلى الجد في أخذ العقيدة بقوة، والجهد لإقامة المنهج الذي ينبثق منها في حياة المجتمع كله.. فالمجتمع المسلم الذي يستمد قانونه من شريعة الله؛ ويقيم حياته كلها على منهجه؛ هو المجتمع الذي يسمح للمسلم أن يزاول حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بحيث لا يصبح هذا عملا فرديا ضائعا في الخضم؛ أو يجعله غير ممكن أصلا في كثير من الأحيان! كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية القائمة اليوم في أرجاء الأرض؛ والتي تقيم حياتها على تقاليد ومصطلحات اجتماعية تسترذل تدخل أحد في شأن أحد؛ وتعتبر الفسق والفجور والمعصية "مسائل شخصية "! ليس لأحد أن يتدخل في شأنها.. كما تجعل من الظلم والبطش والاعتداء والجور سيفا مصلتا من الإرهاب يلجم الأفواه، ويعقد الألسنة، وينكل بمن يقول كلمة حق أو معروف في وجه الطغيان..

إن الجهد الأصيل، والتضحيات النبيلة يجب أن تتجه أولا إلى إقامة المجتمع الخير.. والمجتمع الخير هو الذي يقوم على منهج الله.. قبل أن ينصرف الجهد والبذل والتضحية إلى إصلاحات جزئية، شخصية وفردية؛ عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إنه لا جدوى من المحاولات الجزئية حين يفسد المجتمع كله؛ وحين تطغى الجاهلية، وحين يقوم المجتمع على غير منهج الله؛ وحيت يتخذ له شريعة غير شريعة الله. فينبغي عندئذ أن تبدأ المحاولة من الأساس، وأن تنبت من الجذور؛ وأن يكون الجهد والجهاد لتقرير سلطان الله في الأرض.. وحين يستقر هذا السلطان يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئا يرتكن إلى أساس.

وهذا يحتاج إلى إيمان. وإلى إدراك لحقيقة هذا الإيمان ومجاله في نظام الحياة. فالإيمان على هذا المستوى هو الذي يجعل الاعتماد كله على الله؛ والثقة كلها بنصرته للخير- مهما طال الطريق -واحتساب الأجر عنده، فلا ينتظر من ينهض لهذه المهمة جزاء في هذه الأرض، ولا تقديرا من المجتمع الضال، ولا نصرة من أهل الجاهلية في أي مكان!

إن كل النصوص القرآنية والنبوية التي ورد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت تتحدث عن واجب المسلم في مجتمع مسلم. مجتمع يعترف ابتداء بسلطان الله، ويتحاكم إلى شريعته، مهما وجد فيه من طغيان الحكم، في بعض الأحيان، ومن شيوع الإثم في بعض الأحيان.. وهكذا نجد في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر".. فهو "إمام" ولا يكون إماما حتى يعترف ابتداء بسلطان الله؛ وبتحكيم شريعته. فالذي لا يحكم شريعة الله لا يقال له: "إمام" إنما يقول عنه الله- سبحانه -(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)..

فأما المجتمعات الجاهلية التي لا تتحاكم إلى شريعة الله، فالمنكر الأكبر فيها والأهم، فهو المنكر الذي تنبع منه كل المنكرات.. هو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة.. وهذا المنكر الكبير الأساسي الجذري هو الذي يجب أن يتجه إليه الإنكار، قبل الدخول في المنكرات الجزئية، التي هي تبع لهذا المنكر الأكبر، وفرع عنه، وعرض له..

إنه لا جدوى من ضياع الجهد.. جهد الخيرين الصالحين من الناس.. في مقاومة المنكرات الجزئية، الناشئة بطبيعتها من المنكر الأول.. منكر الجرأة على الله وادعاء خصائص الألوهية، ورفض ألوهية الله، برفض شريعته للحياة.. لا جدوى من ضياع الجهد في مقاومة منكرات هي مقتضيات ذلك المنكر الأول وثمراته النكدة بلا جدال.

على أنه إلام نحاكم الناس في أمر ما يرتكبونه من منكرات؟ بأي ميزان نزن أعمالهم لنقول لهم: إن هذا منكر فاجتنبوه؟ أنت تقول: إن هذا منكر؛ فيطلع عليك عشرة من هنا ومن هناك يقولون لك: كلا! ليس هذا منكرا. لقد كان منكرا في الزمان الخالي! والدنيا "تتطور"، والمجتمع" يتقدم "وتختلف الاعتبارات!

فلا بد إذن من ميزان ثابت نرجع إليه بالأعمال، ولا بد من قيم معترف بها نقيس إليها المعروف والمنكر. فمن أين نستمد هذه القيم؟ ومن أين نأتي بهذا الميزان؟

من تقديرات الناس وعرفهم وأهوائهم وشهواتهم- وهي متقلبة لا تثبت على حال؟ إننا ننتهي إذن إلى متاهة لا دليل فيها، وإلى خضم لا معالم فيه!

فلا بد ابتداء من إقامة الميزان.. ولا بد أن يكون هذا الميزان ثابتا لا يتأرجح مع الأهواء..

هذا الميزان الثابت هو ميزان الله..

فماذا إذا كان المجتمع لا يعترف -ابتداء- بسلطان الله؟ ماذا إذا كان لا يتحاكم إلى شريعة الله؟ بل ماذا إذا كان يسخر ويهزأ ويستنكر وينكل بمن يدعوه إلى منهج الله؟

ألا يكون جهدا ضائعا، وعبثا هازلا، أن تقوم في مثل هذا المجتمع لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، في جزئيات وجانبيات من شئون الحياة، تختلف عليها الموازين والقيم، وتتعارض فيها الآراء والأهواء؟!

إنه لا بد من الاتفاق مبدئيا على حكم، وعلى ميزان، وعلى سلطان، وعلى جهة يرجع إليها المختلفون في الآراء والأهواء..

لا بد من الأمر بالمعروف الأكبر وهو الاعتراف بسلطان الله ومنهجه للحياة. والنهي عن المنكر الأكبر وهو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة.. وبعد إقامة الأساس يمكن أن يقام البنيان! فلتوفر الجهود المبعثرة إذن، ولتحشد كلها في جبهة واحدة، لإقامة الأساس الذي عليه وحده يقام البنيان!

وإن الإنسان ليرثي أحيانا ويعجب لأناس طيبين، ينفقون جهدهم في" الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "في الفروع؛ بينما الأصل الذي تقوم عليه حياة المجتمع المسلم؛ ويقوم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مقطوع!

فما غناء أن تنهي الناس عن أكل الحرام مثلا في مجتمع يقوم اقتصاده كله على الربا؛ فيستحيل ماله كله حراما؛ ولا يملك فرد فيه أن يأكل من حلال.. لأن نظامه الاجتماعي والاقتصادي كله لا يقوم على شريعة الله. لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة؟!

وما غناء أن تنهي الناس عن الفسق مثلا في مجتمع قانونه لا يعتبر الزنا جريمة -إلا في حالة الإكراه- ولا يعاقب حتى في حالة الإكراه بشريعة الله.. لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة؟!

وما غناء أن تنهى الناس عن السكر في مجتمع قانونه يبيح تداول وشرب الخمر، ولا يعاقب إلا على حالة السكر البين في الطريق العام. وحتى هذه لا يعاقب فيها بحد الله. لأنه لا يعترف ابتداء بحاكمية الله؟!

وما غناء أن تنهى الناس عن سب الدين؛ في مجتمع لا يعترف بسلطان الله؛ ولا يعبد فيه الله. إنما هو يتخذ أربابا من دونه؛ ينزلون له شريعته وقانونه؛ ونظامه وأوضاعه، وقيمة وموازينه. والساب والمسبوب كلاهما ليس في دين الله. إنما هما وأهل مجتمعهما طرا في دين من ينزلون لهم الشرائع والقوانين؛ ويضعون لهم القيم والموازين؟!

ما غناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الأحوال؟ ما غناء النهي عن هذه الكبائر -فضلا عن أن يكون النهي عن الصغائر- والكبيرة الكبرى لا نهي عنها.. كبيرة الكفر بالله؛ برفض منهجه للحياة؟!

إن الأمر أكبر وأوسع وأعمق، مما ينفق فيه هؤلاء" الطيبون "جهدهم وطاقتهم واهتمامهم.. إنه -في هذه المرحلة- ليس أمر تتبع الفرعيات -مهما تكن ضخمة حتى ولو كانت هي حدود الله. فحدود الله تقوم ابتداء على الاعتراف بحاكمية الله دون سواه. فإذا لم يصبح هذا الاعتراف حقيقة واقعة؛ تتمثل في اعتبار شريعة الله هي المصدر الوحيد للتشريع؛ واعتبار ربوبية الله وقوامته هي المصدر الوحيد للسلطة.. فكل جهد في الفروع ضائع؛ وكل محاولة في الفروع عبث.. والمنكر الأكبر أحق بالجهد والمحاولة من سائر المنكرات..

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان"..

وقد يجيء على المسلمين زمان لا يستطيعون فيه تغيير المنكر بأيديهم؛ ولا يستطيعون فيه تغيير المنكر بألسنتهم؛ فيبقى أضعف الإيمان؛ وهو تغييره بقلوبهم؛ وهذا ما لا يملك أحد أن يحول بينهم وبينه، إن هم كانوا حقا على الإسلام!

وليس هذا موقفا سلبيا من المنكر- كما يلوح في بادئ الأمر -وتعبير الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته. فإنكار المنكر بالقلب، معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر.. إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له، ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به.. وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر، ولإقامة الوضع "المعروف" في أول فرصة تسنح، وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة.. وهذا كله عمل إيجابي في التغيير.. وهو على كل حال أضعف الإيمان. فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان! أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع، ولأن له ضغطا- قد يكون ساحقا -فهو الخروج من آخر حلقة، والتخلي حتى عن أضعف الإيمان! هذا وإلا حقت على المجتمع اللعنة التي حقت على بني إسرائيل:

(لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. لبئس ما كانوا يفعلون!)..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

..وأطلق التناهي بصيغة المفاعلة على نهي بعضهم بعضاً باعتبار مجموع الأمّة وأنّ نَاهيَ فاعل المنكر منهم هو بصدد أن يَنهاه المنهيّ عندما يرتكب هو مُنكراً فيحصل بذلك التّناهي. فالمفاعلة مقدّرة وليست حقيقيَّة، والقرينة عموم الضّمير في قوله {فَعلوه}، فإنّ المنكر إنّما يفعله بعضهم ويسكُت عليه البعض الآخر؛ وربّما فعل البعضُ الآخر منكراً آخرَ وسَكت عليه البعض الّذي كان فعَل منكراً قبله وهكذا، فهم يصانعون أنفسهم.

والمراد ب {ما كانوا يفعلون} تَرْكُهم التناهيَ.

وأطلق على ترك التناهي لفظ الفِعل في قوله {لبئس ما كانوا يفعلون} مع أنّه ترك، لأنّ السكوت على المنكر لا يخلو من إظهار الرّضا به والمشاركة فيه.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

كيف يتصور النهي عن الفعل بعده، فنقول: إن النهي عن المنكر بعد وقوعه إنما هو استنكاره، لأنه يمنع الفعل في المستقبل. وقد نسب الفعل إليهم أجمعين إذ وقع من بعضهم وسكت عنه سائرهم ولذا قال سبحانه: (لبئس ما كانوا يفعلون) وقد أكد سبحانه وتعالى نسبة الفعل إليهم باللام والقسم المطوي، وذمهم مؤكدا فالفعل بئس يدل على الذم، والذم كان منصبا على الفعل رجاء إيمانهم...والآية تدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوام الأمم، ولا صلاح لهم إلا إذا قاموا بحقه، فالأمم تصلح بالمعروف، وتفسد بتركه، ولذلك اعتبره القرآن خاصة الأمة الإسلامية، وبه خيرها، قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله...110) (آل عمران).

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

ويقول الحق من بعد ذلك: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79)}.

ونعلم أن حراسة منهج الله تعطي الإنسان السلامة في الحركة الحياة على الأرض. وقد جعل الحق سبحانه في النفس البشرية مناعة ذاتية، فساعة توجد في الإنسان شهوة على أي لون سواء في الجنس أو في المال أو في الجاه، فقد يحاول الوصول إليها بأي طريق، ولا يمنعه من ذلك إلا الضمير الذي يفرض عليه أن يسير في الطريق الصحيح. هذا الضمير هو خميرة الإيمان، وهو الذي يلوم الإنسان إن أقدم على معصية، هذا إن كان من أصحاب الدين.

ولنا أن ندقق في هذا القول القرآني لأنه يحمل الوصف الدقيق للنفس البشرية في حالتها المتقلبة، فها هو ذا قابيل يتحدث عنه القرآن: {فطوعت له نفسه قتل أخيه} (من الآية 30 سورة المائدة)، ومن بعد ذلك، قتل قابيل هابيل، ثم هدأت النفس من سعار الغضب وسعار الحقد، وانتقل قابيل إلى ما يقول عنه القرآن: {فأصبح من الخاسرين} (من الآية 30 سورة المائدة).

فبعد أن غواه غضبه إلى أن قتل أخاه وسلبه الحياة. يبعث الله له غرابا ليريه كيف يواري سوأة أخيه؛ لأنه لم يكن يعرف كيف يواري جثمان أخيه. وانتقل بالندم من مرحلة أنه لم يرع حق أخيه في الحياة فأراد أن يرعى حق مماته، إذن فالنفس البشرية وإن كانت لها شهوات إلا أن لها اعتدالا مزاجيا يتدخل بالندم عندما يرتكب الإنسان إثما أو معصية. ولذلك تجد كثيرا من الناس تعاني من متاعب لأنهم ارتكبوا معاصي، لكنهم يريدون الاعتراف بها لأي إنسان وأي إنسان يتلقى الاعتراف ليست لديه القدرة على تدارك آثار تلك المتاعب؛ لأنها وقعت وانتهى الأمر.

لكن لماذا يريد الإنسان أن يعترف لآخر بمعاصيه؟. إنه اعتراف للتنفيس؛ لأن كل حركة في النفس البشرية ينتج عنها تأثير في النزوع، فعندما يغضبك أحد فأنت تنزع إلى الانتقام، ولهذا يأمرك الشرع حين يغضبك أحد أن تغير من وضعك وقل: (حسبك الله ونعم الوكيل). حتى تصرف الطاقة السعارية عندك، فإن أغضبك أحد وأنت قائم فاقعد، وإن كنت قاعدا فاضطجع، وإن كنت ثابتا في مكان فلتسر بضع خطوات. والشرع حين يطلب منك أن تتحرك لحظة الغضب فذلك ليزيل من جسدك بعض الطاقة الفائضة الزائدة التي تسبب لك الغليان فتقل حدة الغضب...

وعندما تكرر النفس البشرية فعل السوء، ولا تجد من ينهها أو ينهاها، فالسوء يعم وينتشر، هنا تتدخل السماء بإرسال رسول.

ويوضح الحق أن السبب في إرسال رسول لهؤلاء الناس أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، والتناهي عن المنكر إنما يكون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا يظنن المؤمن أنه بمنجاة عن خاطر السوء في نفسه لأن كلا منا بشر. وعرضة للأغيار، ومن لطف الله لحظة أن يهب خاطر السوء على مؤمن أن يجد أخا خاليا من خواطر السوء فيواصيه بالحق ويواصيه بالصبر؛ لأن الفرد إن جاءه سعار الشهوة في اللحظة التي يجيء فيه السعار نفسه عند صديق له فقد يتفقان على المنكر، أما إن جاء سعار الشهوة لإنسان وكان صديقه مؤمنا خاليا من خواطر السوء، فهو ينهاه ويواصيه بالحق والصبر. وهكذا. يتبادل المؤمنون التناهي بالتواصي؛ فمرة يكون الإنسان ناهيا، ومرة أخرى يكون الإنسان منهيا.

وكذلك أعطى الله هذه المسألة كلمة التواصي: {والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتوصوا بالصبر (3)} (سورة العصر).

ولم يخصص والحق قوما ليكونوا الناهين، وقوما آخرين ليكونوا المنهيين، لا، بل كل واحد منا عرضة أن يكون ناهيا إن اتجهت خواطر صاحبه إلى الحرام، وعرضة أيضا لأن يكون منهيا إن كانت نفسه تتجه إلى الحرام، وبذلك نتبادل النهي والتناهي، ويسمون ذلك (المفاعلة) مثلما نقول: (شارك زيد عمر)، ولا يشارك الإنسان نفسه إنما يشارك غيره، ومعنى هذا أن هناك شخصا قد كان فاعلا مرة، ومرة أخرى يكون مفعولا، وكيف تكون صيغة التفاعل هذه؟. إنها مثل (تشارك) و (تضارب) أي أن يأتي الفعل من اثنين. ومن السهل إذن أن ينهى إنسان صديقا له أو ينهاه صديق له، وقد نفسرها على أن الجميع ينهى نفسه بفعل القوة الخفية الفطرية التي توجد في كل نفس، أي أن كل نفس تنهي نفسها. إذن فالتفاعل إما أن يكون في النفس وإما أن يكون في المجتمع.

{كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} ولننتبه هنا إلى أنهم قد فعلوا المنكر بالفعل، فكيف يكون التناهي عن المنكر؟. يمكن أن نفهم العبارة على أساس أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله، أي أن الإنسان منهم كان يرى زميلا له يتهيأ لارتكاب منكر فلا ينهاه. ومثلها في ذلك قوله الحق: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم} (من الآية 6 سورة المائدة).

وهذا القول لا يعني أبدا أن يتوضأ الإنسان بعد أن يدخل في الصلاة. إنما يعني أن نبدأ الوضوء لحظة الاستعداد للصلاة، يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأداءها.

وقوله الحق: {كانوا لا يتناهون عن المنكر فعلوه} يجعلنا في حالة انتباه وفراسة إيمانية ويقظة. ويلتفت كل منا إلى نفسه ويرقبها ويراقبها، وإلى أي اتجاه تسير، فلا يترك الإنسان نفسه تتجه إلى أي مكان موبوء أو فعل غير مستقيم. وكذلك يتنبه الإنسان إلى أصدقائه وأخلائه حتى نتناهى عن أي منكر فلا نقع أبدا في دائرة هذا الحكم {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} فكأننا جميعا علينا أن نحيا في يقظة إيمانية، وأن نقول: (لا) لكل بادرة ولأي حركة من حركات المنكر.

{كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} وساعة نسمع (لبئس) فلنعرف أن اللام إذا سبقت فهي للقسم، وحين يقسم الله فهذا تأكيد للقضية، فهل هذا تأكيد على طريقتنا نحن البشر؟. لا. فليس أحد منا كالله، ونحن في حياتنا نعرف الأدلة على الحق، إما إقرار، وإما شهادة، وإما قسم.

والقاضي لا يحكم إلا بإقرار المتهم أو بشهادة الشهود، أو باليمين، وحين يأتي الحق بالحكم فهو يأتي به على معرفة بالخلق. وعدم التناهي عن المنكر هو فعل وقول معا، وبما أن الحق لم يقل: لبئس ما كانوا يقولون، ذلك أن القول مقابل للفعل، وكلاهما أيضا عمل، فالقول عمل جارحة اللسان، والفعل هو عمل الجوارح كلها، ويجمع القول والفعل وصف (العمل). ونلحظ أن المسألة لا تقتصر على القول، إنما هي عمل قد نتج عن فعل.

ولنر الحديث النبوي القائل: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده وإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان).

وقوله الحق: {لبئس ما كانوا يفعلون} دليل على أنهم كانوا يفعلون المنكر والقبيح قولا وعملا.