الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (79)

وقوله تعالى : { عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } : متعلِّقٌ ب " يَتَناهَوْن " و " فعلوه " صفةٌ ل " منكر " . قال الزمخشري : " ما معنى وصفِ المنكرِ بفعلوه ، ولا يكونُ النهيُ بعد الفعلِ ؟ قلت : معناه لا يتناهَوْن عن معاودةِ منكرٍ فَعَلُوه ، أو عن مِثْلِ منكرٍ فَعَلوه ، أو عن منكرٍ أرادُوا فِعْلَه ، كما ترى أماراتِ الخوضِ في الفسقِ وآلاتِه تُسَوَّى وتُهَيَّأُ ، ويجوز أن يُرادَ : لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكرٍ فعلوه ، بل يُصِرُّون عليه ويُداومون ، يقال : تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه " .

وقوله تعالى : { لَبِئْسَ مَا } : و " بئسما قَدَّمَتْ قد تقدَّم إعرابُ نظيرِ ذلك فلا حاجةَ إلى إعادته ، وهنا زيادةٌ أخرى لخصوصِ التركيب وستعرِفُها . قوله : { أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } في محلِّه أوجهٌ ، أحدها : أنه مرفوعٌ على البدلِ من المخصوصِ بالذم ، والمخصوصُ قد حُذِفَ وأُقيمت صفتُه مُقامه فإنه تُعْرِبُ " ما " اسماً تاماً معرفةً في محلِّ رفعٍ بالفاعلية بفعلِ الذمِّ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ ، و " قَدَّمت لهم انفُسُهم " جملة في محلِّ رفعٍ صفةً له ، والتقديرُ لبئس الشيءُ شيءٌ قَدَّمَتْهُ لهم أنفُسُهم ، ف " أَنْ سَخِط اللّهُ عليهم " بدلٌ من " شيء " المحذوفِ ، وهذا هو مذهبُ سيبويه كما تقدَّم تقريرُه . الثاني : أنه المخصوصُ بالذمِّ فيكونُ فيه ثلاثةُ الأوجهِ المشهورةِ ، أحدُها : أنه مبتدأٌ والجملةُ قبلَه خبرُه ، والرابطُ على هذا العمومُ عند مَنْ يَجْعَلُ ذلك أو لا يَحْتاج إلى رابط لأن الجملةَ عينُ المبتدأ ، الثاني : أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ لأنك لَمَّا قلت : " بِئْسَ الرجل " قيل لك : مَنْ هو ؟ فقلت : فلان ، أي : هو فلان . الثالث : أنه مبتداٌ خبرُه محذوفٌ ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك ، وإلى كونه مخصوصاً بالذمِّ ذهب جماعةٌ كالزمخشري ولم يذكر غيرَه ، قال : { أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } هو المخصوص بالذمِّ كأنه قيل : لِبئْس زادُهم إلى الآخرة سُخْطُ اللّهِ عليهم ، والمعنى : موجِبُ سُخْطِ الله " قلت : وفي تقديرِ هذا المضاف من المحاسنِ ما لا يَخْفى على متأمِّله ، فإنَّ نفسَ السخطِ المضافَ إلى الباري تعالى لا يُقال هو المخصوص بالذم ، إنما المخصوصُ بالذم أسبابُه ، وذهبَ إليه أيضاً الواحدي ومكي وأبو البقاء إلاَّ أنَّ الشيخ بعد أَنْ حكى هذا الوجهَ عن أبي القاسم الزمخشري قال : " ولم يَصِحَّ هذا الإِعرابُ إلا على مذهبِ الفراء والفارسي/ في جَعْلِ " ما " موصولةً ، أو على مذهبِ مَنْ يجعلُ " ما " تمييزاً ، و " قَدَّمَتْ لهم " صفتها ، وأمَّا على مذهبِ سيبويه فلا يتأتَّى ذلك ثم ذَكَر مذهبَ سيبويه .

والوجه الثالث من أوجهِ " أَنْ سَخِطَ " : أنه في محل رفع على البدلِ من " ما " وإلى ذلك ذهب مكي وابنُ عطية ، إلا أن مكِّيّاً حكاه عن غيره ، قال : " وقيل : في موضعِ رفعٍ على البدلِ من " ما " في " لبئس " على أنها معرفةٌ " قال الشيخ - بعد ما حكى هذا الوجهَ عن ابن عطية - : ولا يَصِحُّ هذا سواءً كانت " ما " تامةً أو موصولةً لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدلِ منه ، و " أَنْ سَخِطَ " لا يجوزُ أَنْ يكونَ فاعلاً ل " بِئْسَ " لأنَّ فاعل " بِئْس " لا يكونُ أَنْ والفعل " وهو إيرادٌ واضِحٌ كما قاله .

الوجه الرابع : أنه في محلِّ نصبٍ على البدلِ من " ما " إذا قيل بأنها تمييزٌ ، ذَكَر مكي وأبو البقاء ، وهذا لا يجوزُ البتة ؛ وذلك لأنَّ شرطَ التمييز عند البصريين ان يكونَ نكرةً ، و " أَنْ " وما في حَيِّزها عندهم من قبيلِ أعرفِ المعارفِ لأنَّها تُشْبِهُ المُضْمَرَ ، وقد تقدم تقريرُ ذلك فيكف يَقعُ تمييزاً لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه ؟ وعند الكوفيين أيضاً لا يجوزُ ذلك لأنَّهم لا يُجيزون التمييزَ بكلِّ معرفةٍ خصوصاً أَنْ والفعل . الخامسُ : أنه في محلِّ نصبٍ على البدلِ من الضمير المنصوبِ ب " قَدَّمَتْ " العائدِ على " ما " الموصولة أو الموصوفة على حَسَبِ ما تقدَّم ، والتقديرُ : قَدَّمَتْه سُخْط الله ، كقولك : " الذي رأيت زيداً أخوك " وفي هذا بحثٌ في موضعِه . السادس : أنه موضع نصب على إسقاطِ الخافضِ ، إذ التقديرُ : لأَنْ سَخِط ، وهذا جارٍ على مذهبه سيبويه والفراء لأنهما يَزْعُمان أنَّ محلَّ " أَنْ " بعد حَذْفِ الخافض في محلِّ نصب . السابع : أنه في محلِّ جر بذلك الخافضِ المقدَّرِ ، هذا جارٍ على مذهبِ الخليلِ والكسائي لأنهما يُزْعُمان أنَّهما في محل جر ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك غيرَ مرةٍ ، وعلى هذا فالمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي : لَبِئْسما قَدَّمَتْ لهم أنفسُهم عملُهم أو صُنْعُهم ، ولامُ العلةِ المقدرةُ معلَّقَةٌ إمَّا بجملةِ الذمِّ أي : سببُ ذَمِّهم سخطُ اللّهِ عليهم أو بمحذوفٍ بعده ، أي : لأَنْ سَخِطَ اللّهُ عليهم كان كيتَ وكيتَ .