اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (79)

قوله تعالى : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ } التَّنَاهِي هاهُنَا له مَعْنَيَانِ :

أحدهما : الذي عَلَيْه الجُمْهُور أنَّهُ تَفَاعُل من النَّهي أي : كان لا ينهى بَعْضُهُم بَعْضاً .

روى ابنُ مسعُود - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - قال : " كَانَ فِيمَنْ كانَ قَبْلَكُم مِنْ بَني إسْرَائِيلَ إذا عَمِلَ العَامِلُ بالخَطِيئَةِ نَهَاهُ النَّاهِي تعذيراً ، فَإذَا كَانَ مِنَ الغَدِ جَاءَ لَهُ وواكلَهُ وشَارَبَهُ ، كَأنَّهُ لَمْ يَرَهُ على الخَطِيئَةِ بالأمْسِ ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُم ضَرَبَ قُلُوبَ بَعْضِهِم عَلَى بَعْضِ ، وجَعَلَ مِنْهُم القِرَدَةَ والخَنَازِيرَ ، ولَعَنَهُمْ على لِسَانِ دَاوُدَ وعيسَى ابْنِ مَريمَ ، ذَلِكَ بِمَا عَصوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ والَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ لَتَأمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكر ولتأخُذُنَّ عَلَى يَدِ السَّفِيهِ ولَتأطرنَّه على الحقِّ أطْراً أوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَلْعَنُكُم كَما لَعَنَهُم " {[12390]} .

المعنى الثاني : التَّنَاهِي بمعنى الانتِهَاء ، يُقَال : انْتَهَى الأمر ، وتَنَاهَى عَنْهُ إذا كَفَّ عَنْه .

وقوله تعالى : { عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } : متعلِّقٌ ب " يَتَناهَوْنَ " و " فَعَلُوهُ " صفةٌ ل " مُنْكَرٍ " ، قال الزمخشريُّ{[12391]} : " ما معنى وصفِ المنكرِ ب " فَعَلُوهُ " ، ولا يكونُ النَّهْيُ بعد الفِعْلِ ؟ قلتُ : معناه لا يتناهَوْنَ عن معاودةِ منْكَرٍ فعَلُوهُ ، أو عن مِثْلِ مُنْكَرٍ فَعلُوهُ ، أو عن منْكرٍ أرادُوا فِعْلَهُ ، كما ترى أماراتِ الخَوْضِ في الفسْقِ وآلاتِه تُسوَّى وتُهَيَّأُ ، ويجوز أن يُرادَ : لا ينتهون ولا يمتنعونَ عن مُنْكَرٍ فعلُوه ، بل يُصِرُّونَ عليه ويُداوِمُونَ ، يقال : تناهَى عن الأمر وانتهى عنه ، إذا امتنع منه " .

وقوله تعالى : " لَبِئْسَمَا " : و " بِئْسَمَا قَدَّمَتْ " قد تقدَّم إعرابُ نظيرِ ذلك [ الآية 9 في البقرة ] ؛ فلا حاجة إلى إعادته ، وهنا زيادةٌ أخرى ؛ لخصوصِ التركيب يأتي الكلامُ عليها .


[12390]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/657) وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/533) وزاد لنسبته لعبد بن حميد وأبي الشيخ والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن مسعود مرفوعا.
[12391]:ينظر: الكشاف 1/667.