قوله تعالى : { من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال } . خصهما بالذكر من جملة الملائكة مع دخولهما في قوله وملائكته تفضيلاً وتخصيصاً ، كقوله تعالى : ( فيهما فاكهة ونخل ورمان ) خص النخل والرمان بالذكر مع دخولهما في ذكر الفاكهة ، والواو فيهما بمعنى : أو ، يعني من كان عدواً لأحد هؤلاء فإنه عدو للكل ، لأن الكافر بالواحد كافر بالكل .
قوله تعالى : { فإن الله عدو للكافرين } . قال عكرمة : جبر وميك وإسراف هي العبد بالسريانية ، وال وإيل هو الله تعالى ومعناهما عبد الله ، وعبد الرحمن . وقرأ ابن كثير جبريل بفتح الجيم غير مهموز بوزن فعليل قال حسان :
وجبريل رسول الله فينا *** وروح القدس ليس له كفاء
وقرأ حمزة والكسائي بالهمز والإشباع بوزن سلسبيل ، وقرأ أبو بكر بالاختلاس ، وقرأ الآخرون بكسر الجيم غير مهموز ، وميكائيل قرأ أبو عمرو ، ويعقوب وحفص ميكال بغير همز قال جرير :
عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد *** وبجبرائيل وكذبوا ميكالاً
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد *** فيه مع النصر جبريل وميكال
وقرأ نافع وأهل المدينة : بالهمزة والاختلاس ، بوزن ميفاعل ، وقرأ الآخرون : بالهمز والإشباع بوزن ميفاعيل ، قال ابن صوريا : ما جئتنا بشيء نعرفه ، فأنزل الله تعالى :{ ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون } .
ثم بين - تعالى - حقيقة الأمر فيمن يعادي جبريل وأن عداواته عداوة الله - تعالى - فإنه أمين وحيه إلى رسله ليس له في ذلك شيء إلا أن يبلغ ما أمر به فقال تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } .
والمعنى : أن عداوة جبريل عداوة لله ، وأن عداوة محمد صلى الله عليه وسلم عداوة لله - أيضاً - فالإِيمان بالله وملائكته ورسله وحدة لا تتجزأ فمن كفر بواحد منهم فهو كافر بالجميع .
ومعنى عداوة العبد لله : كفره به ومخالفته لأوامره ونواهيه ومعنى عداوته لملائكته : إنكار فضلهم ووصفهم بما ينافي عصمتهم ورفعة منزلتهم . ومعنى عداوته لرسله : تكذيبه لهم وتعمده إلحاق الأذى بهم ومعنى عداوة الله لعبده : غضبه سبحانه - عليه ، ومجازاته له على كفره . وصدر - سبحانه - الكلام باسمه الجليل تفخيماً لشأن ملائكته ورسله وإشعاراً بأن عداوتهم إنما هي عداوة له - تعالى- .
وأفرد - سبحانه - جبريل وميكال بالذكر ، مع اندراجهما تحت عموم ملائكته ، لتصريح اليهود بعداوة جبريل وتعظيم ميكائيل ، فأفردهما بالذكر للتنبيه على أن المعاداة لأحدهما معاداة للجميع ، وأن الكفر بأحدهما كفر بالآخر .
قال ابن جرير : " فإن قال قائل : أو ليس جبريل وميكائيل من الملائكة ؟ قيل بلى ، فإن قال : فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما في الآية في جملة أسماء الملائكة ؟ قيل : معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما أن اليهود لما قالت جبريل عدونا وميكائيل ولينا ، وزعمت أنها كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم من أجل أن جبريل صاحبه ، أعلمهم الله - تعالى - أن من كان لجبريل عدواً فإن الله عدو له وأنه من الكافرين ، فنص عليه باسمه وعلى ميكائيل باسمه ، لئلا يقول منهم قائل : إنما قال الله : من كان عدواً لله وملائكته ورسله ، ولسنا لله ولا لملائكته ، ولا لرسله أعداء ، لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصاً ، وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه ، وكذلك قوله ورسله فلست يا محمد داخلا فيهم ، فنص الله - تعالى - على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم ليقلع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم ، ويحسم تمويهم أمورهم على ضعاف الإِيمان " .
وقال - سبحانه - في ختام الآية الكريمة { فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } ولم يقل فإن الله عدو له أو لهم ، ليدل على أن عداوة كل واحد ممن اشتملت الآية الكريمة على ذكرهم كفر وجحود ، وليكون اندراجهم تحت هذا الحكم العام من باب إثبات الحكم بالدليل ، وللإِشعار بأن عداوة الله - تعالى - لهم سببها كفرهم فإن الله لن يعادي قوماً لذواتهم ولا لأنسابهم ، وإنما يكره لهم الكفر ويعاقبهم عليه معاقبة العدو للعدو .
قال صاحب المنار : " فهذه الآية الكريمة وعيد لهم بعد بيان فساد العلة التي جاءوا بها ، فهم لم يدعوا عداوة لهؤلاء كلهم ، لكنهم كذلك في نفس الأمر ، فأراد أن يبين حقيقة حالهم في الواقعِ ، وهي أنهم أعداء كل من يمثله ويدعو إليه ، فالتصريح بعداوة جبريل كالتصريح بعداوة ميكائيل الذي يزعمون أنهم يحبونه . وأنهم كانوا يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم لو كان هو الذي ينزل بالوحي عليه ، ومعاداة القرآن الكريم كمعاداة سائر الكتب الإِلهية لأن المقصود من الجميع واحد فقولهم السابق وحالهم يدلان على معاداة كل من ذكر ، وهذا من ضروب إيجاز القرآن الكريم التي انفرد بها " .
وبهذا تكون الآيتان الكريمتان قد دمغتا اليهود بالكفر والجهالة ، لمعاداتهم لجبريل وتكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم وبينتا ما عليه أمرهم من خزي وهوان بسبب هذه العداوة التي لا باعث عليها إلا الحسد ، وكراهية أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده .
قوله : { من كان عدواً لله } إلخ قد ظهر حسن موقعه بما علمتموه من وجه معنى { فإنه نزله على قلبك بإذن الله } أي لما كانت عداوتهم جبريل لأجل عداوتهم الرسول ورجعت بالأخرة إلى إلزامهم بعدواتهم الله المرسل ، لأن سبب العداوة هو مجيئه بالرسالة تسنى أن سجل عليهم أنهم أعداء الله لأنه المرسل ، وأعداء رسله لأنهم عادوا الرسول ، وأعداء الملائكة لذلك ، فقد صارت عداوتهم جبريل كالحد الوسط في القياس لا يلتفت إليه وإنما يلتفت للمقدمتين بالصغرى والكبرى فعداوتهم الله بمنزلة المقدمة الكبرى لأنها العلة في المعنى عند التأمل .
وعداوتهم الرسول بمنزلة المقدمة الصغرى لأنها السبب الجزئي المثبت له فلا يرد أنه لا وجه لذكر عداوة الله تعالى هنا حتى يجاب بأن عداوة الملائكة والرسل عداوة لله على حد { من يطع الرسول فقد أطاع الله } [ النساء : 80 ] فإن ذلك بعيد .
وقد أثبت لهم عداوة الملائكة والرسل مع أنهم إنما عادوا جبريل ومحمداً لأنهم لما عادوهما عادوا جبريل لأجل قيامه بما هو من خصائص جنسه الملكي وهو تبليغ أمر الله التكليفي فإن ذلك خصيصتهم قال تعالى : { وهم بأمره يعملون } [ الأنبياء : 27 ] كانت عداوتهم إياه لأجل ذلك آيلة إلى عداوة جنس الملائكة إذ تلك طريق ليس جبريل فيها بأوحد وكذلك لما عادوا محمداً لأجل مجيئه بالرسالة لسبب خاص بذاته ، كانت عداوتهم إياه آيلة إلى عداوة الوصف الذي هو قوام جنس الرسول فمن عادى واحداً كان حقيقاً بأن يعاديهم كلَّهم وإلا كان فعله تحكماً لا عذر له فيه . وخُص جبريل بالذكر هنا لزيادة الاهتمام بعقاب معاديه وليُذكَرَ معه ميكائيل ولعلهم عادَوهما معاً أو لأنهم زعموا أن جبريل رسول الخسف والعذاب وأن ميكائيل رسول الخصب والسلام وقالوا : نحن نحب ميكائيل فلما أريد إنذارهم بأن عداوتهم الملائكة تجر إليهم عداوة الله وأعيد ذكر جبريل للتنويه به وعطف عليه ميكائيل لئلا يتوهموا أن محبتهم ميكائيل تكسب المؤمنين عداوته .
وفي ميكائيل لغات إحداها ميكائيل بهمزة بعد الألف وياء بعد الهمزة وبها قرأ الجمهور . الثانية ميكائيل بهمزة بعد الألف وبلا ياء بعد الهمزة وبها قرأ نافع . الثالثة ميكالَ بدون همز ولا ياء وبها قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة أهل الحجاز .
وقوله : { فإن الله عدو للكافرين } جواب الشرط . والعدو مستعمل في معناه المجازي وهو ما يستلزمه من الانتقام والهلاك وأنه لا يفلته كما قال النابغة :
* فإنك كالليل الذي هو مدركي * البيت .
وقوله تعالى : { ووجد الله عنده فوفاه حسابه } [ النور : 39 ] وما ظنك بمن عاداه الله . ولهذا ذكر اسم الجلالة بلفظه الظاهر ولم يقل فإني عدو أو فإنه عدو لما يشعر به الظاهر هنا من القدرة العظيمة على حد قول الخليفة : « أميرُ المؤمنين يأمر بكذا » حثًّا على الامتثال .
والمراد بالكافرين جميع الكافرين وجيء بالعام ليكون دخولهم فيه كإثبات الحكم بالدليل ، وليدل على أن الله عاداهم لكفرهم ، وأن تلك العداوة كفر ، ولتكون الجملة تذييلاً لما قبلها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا خبر من الله جل ثناؤه:"من كان عدوا لله": من عاداه وعادى جميع ملائكته ورسله، وإعلام منه أن من عادى جبريل فقد عاداه وعادى ميكائيل وعادى جميع ملائكته ورسله لأن الذين سماهم الله في هذه الآية هم أولياء الله وأهل طاعته، ومن عادى لله وليّا فقد عادى الله وبارزه بالمحاربة، ومن عادى الله فقد عادى جميع أهل طاعته وولايته لأن العدوّ لله عدوّ لأوليائه، والعدوّ لأولياء الله عدوّ له. فكذلك قال لليهود الذين قالوا: إن جبريل عدوّنا من الملائكة، وميكائيل ولينا منهم: {مَنْ كَانَ عَدُوّا لِلّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيل وَمِيكَالَ فَانّ اللّهَ عَدُوّ للكافِرِينَ} من أجل أن عدوّ جبريل عدوّ كل وليّ لله. فأخبرهم جل ثناؤه أن من كان عدوّا لجبريل فهو لكل من ذكره من ملائكته ورسله وميكال عدوّ، وكذلك عدوّ بعض رسل الله عدوّ لله ولكل وليّ...
وهذا الخبر يدل على أن الله أنزل هذه الآية توبيخا لليهود في كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإخبارا منه لهم أن من كان عدوّا لمحمد فالله له عدوّ، وأن عدوّ محمد من الناس كلهم لمن الكافرين بالله الجاحدين آياته.
فإن قال قائل: أَوَ ليس جبريل وميكائيل من الملائكة؟ قيل: بلى. فإن قال: فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما، وقد مضى ذكرهما في الآية في جملة أسماء الملائكة؟ قيل: معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما أن اليهود لما قالت: جبريل عدوّنا وميكائيل وليّنا، وزعمت أنها كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم من أجل أن جبريل صاحب محمد صلى الله عليه وسلم، أعلمهم الله أن من كان لجبريل عدوّا، فإن الله له عدوّ، وأنه من الكافرين. فنصّ عليه باسمه، وعلى ميكائيل باسمه، لئلا يقول منهم قائل: إنما قال الله: {من كان عدوّا لله وملائكته ورسله،} ولسنا لله ولا لملائكته ورسله أعداء لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصّا وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه. وكذلك قوله: "وَرُسُلِهِ "فلست يا محمد داخلاً فيهم، فنصّ الله تعالى على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم ليقطع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم، ويحسم تمويههم أمورهم على المنافقين. وأما إظهار اسم الله في قوله: {فانّ اللّهَ عَدُوّ للْكَافِرِين} وتكريره فيه، وقد ابتدأ أوّل الخبر بذكره فقال: {مَنْ كَانَ عَدُوّا لِلّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ}، فلئلا يلتبس، لو ظهر ذلك بكناية، فقيل: فإنه عدوّ للكافرين، على سامعه مَن المعنّي بالهاء التي في «فإنه» آلله أم رسل الله جل ثناؤه، أم جبريل، أم ميكائيل؟ إذ لو جاء ذلك بكناية على ما وصفت، فإنه يلتبس معنى ذلك على من لم يوقف على المعنيّ بذلك لاحتمال الكلام ما وصفت.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
من كان عدواً لأحد هؤلاء فإن الله عدو له والواو فيه بمعنى أو. كقوله تعالى {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} الآية [النساء: 136] لأن الكافر بالواحد كافر بالكل.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
{فإن الله عدو للكافرين} ولم يقل فإنه، فكرر اسم الله لئلا يظن أن الكناية راجعة إلى جبرائيل، أو ميكائيل، ولم يقل (لهم) لأنه يجوز أن ينتقلوا عن العداوة بالإيمان
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ثم قال إن مَنْ عادى جبريل وميكائيل فإِن الله عدو له، فإنَّ رسولَ الحبيبِ إلى الحبيبِ العزيزِ المَوْرِد -كريمُ المنزلة، عظيم الشرف. وما ضرَّتْ جبريلَ- عليه السلام -عداوةُ الكفار، والحق سبحانه وتعالى وليُّه، ومَنْ عَادَى جبريلَ فالحقُّ عَدُوُّه، وما أَعْزِزِ بهذا الشرف وما أَجَلَّه! وما أكبر علوه!...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{عَدُوٌّ للكافرين} أراد عدوّ لهم فجاء بالظاهر، ليدل على أنّ الله إنما عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر...والمعنى من عاداهم، عاداه الله وعاقبه أشدّ العقاب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الآية وعيد وذم لمعادي جبريل عليه السلام، وإعلام أن عداوة البعض تقتضي عداوة الله لهم، وعداوة العبد لله هي معصيته واجتناب طاعته ومعاداة أوليائه، وعداوة الله للعبد تعذيبه وإظهار أثر العداوة عليه...
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى: {من كان عدوا لجبريل} لأجل أنه نزل القرآن على قلب محمد، وجب أن يكون عدوا لله تعالى، بين في هذه الآية أن من كان عدوا لله كان عدوا له، فبين أن في مقابلة عداوتهم ما يعظم ضرر الله عليهم وهو عداوة الله لهم، لأن عداوتهم لا تؤثر ولا تنفع ولا تضر، وعداوته تعالى تؤدي إلى العذاب الدائم الأليم الذي لا ضرر أعظم منه،
وههنا سؤالان: السؤال الأول: كيف يجوز أن يكونوا أعداء الله ومن حق العداوة الإضرار بالعدو، وذلك محال على الله تعالى؟ والجواب: أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلا فينا لأن العدو للغير هو الذي يريد إنزال المضار به، وذلك محال على الله تعالى، بل المراد منه أحد وجهين،
إما أن يعادوا أولياء الله فيكون ذلك عداوة لله كقوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} وكقوله: {إن الذين يؤذون الله ورسوله} لأن المراد بالآيتين أولياء الله دونه لاستحالة المحاربة والأذية عليه،
وإما أن يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وعبادته وبعدهم عن التمسك بذلك فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له، شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة،
فأما عداوتهم لجبريل والرسل فصحيحة، لأن الإضرار جائز عليهم، لكن عداوتهم لا تؤثر فيهم لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم، وعداوتهم مؤثرة في اليهود لأنها في العاجل تقتضي الذلة والمسكنة، وفي الآجل تقتضي العذاب الدائم.
السؤال الثاني: لما ذكر الملائكة فلم أعاد ذكر جبريل وميكائيل مع اندراجهما في الملائكة؟
الأول: أفردهما بالذكر لفضلهما كأنهما لكمال فضلهما صارا جنسا آخر سوى جنس الملائكة.
الثاني: أن الذي جرى بين الرسول واليهود هو ذكرهما والآية إنما نزلت بسببهما، فلا جرم نص على اسميهما، واعلم أن هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة وإلا لم يصح هذا التأويل...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{من كان عدوا لله} بكفره بما ينزله من الهداية {وملائكته} برفض الحق والخير الذي فطروا عليه وكراهة القيام بما يعهد به إليهم ربهم عز وجل، لأنهم (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)،
(قال الأستاذ الإمام) هذا وعيد لهم بعد بيان فساد العلة التي جاءوا بها وهم لم يدعوا عداوة هؤلاء كلهم ولكنهم كذلك في نفس الأمر، فأراد أن يبين حقيقة حالهم في الواقع. وهي أنهم أعداء الحق وأعداء كل من يمثله وينقله ويدعو إليه، فالتصريح بعداوة جبريل كالتصريح بعداوة ميكال الذي يزعمون أنهم يحبونه وأنهم كانوا يؤمنون بالنبي لو كان هو الذي ينزل بالوحي عليه. ومعاداة القرآن كمعاداة سائر الكتب الإلهية، لأن الغرض من الجميع واحد. ومعاداة محمد صلى الله عليه وسلم كمعاداة كل من ذكر. وهذا من ضروب إيجاز القرآن التي انفرد بها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكانوا -كعادتهم في تفريق الدين وتفريق الرسل- قد فرقوا بين ملائكة الله الذين يسمعون أسماءهم وأعمالهم، فقالوا: إنهم على صداقة مع ميكائيل أما مع جبريل فلا! لذلك جمعت الآية التالية جبريل وميكال وملائكة الله ورسله، لبيان وحدة الجميع، ولإعلان أن من عادى أحدا منهم فقد عاداهم جميعا، وعادى الله سبحانه، فعاداه الله. فهو من الكافرين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {من كان عدواً لله} إلخ قد ظهر حسن موقعه بما علمتموه من وجه معنى {فإنه نزله على قلبك بإذن الله} أي لما كانت عداوتهم جبريل لأجل عداوتهم الرسول ورجعت بالأخرة إلى إلزامهم بعدواتهم الله المرسل، لأن سبب العداوة هو مجيئه بالرسالة تسنى أن سجل عليهم أنهم أعداء الله لأنه المرسل، وأعداء رسله لأنهم عادوا الرسول، وأعداء الملائكة لذلك، فقد صارت عداوتهم جبريل كالحد الوسط في القياس لا يلتفت إليه وإنما يلتفت للمقدمتين بالصغرى والكبرى فعداوتهم الله بمنزلة المقدمة الكبرى لأنها العلة في المعنى عند التأمل. وعداوتهم الرسول بمنزلة المقدمة الصغرى لأنها السبب الجزئي المثبت له فلا يرد أنه لا وجه لذكر عداوة الله تعالى هنا حتى يجاب بأن عداوة الملائكة والرسل عداوة لله على حد {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80]...
وقد أثبت لهم عداوة الملائكة والرسل مع أنهم إنما عادوا جبريل ومحمداً لأنهم لما عادوهما عادوا جبريل لأجل قيامه بما هو من خصائص جنسه الملكي وهو تبليغ أمر الله التكليفي فإن ذلك خصيصتهم قال تعالى: {وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 27] كانت عداوتهم إياه لأجل ذلك آيلة إلى عداوة جنس الملائكة إذ تلك طريق ليس جبريل فيها بأوحد وكذلك لما عادوا محمداً لأجل مجيئه بالرسالة لسبب خاص بذاته، كانت عداوتهم إياه آيلة إلى عداوة الوصف الذي هو قوام جنس الرسول فمن عادى واحداً كان حقيقاً بأن يعاديهم كلَّهم وإلا كان فعله تحكماً لا عذر له فيه.
والعدو مستعمل في معناه المجازي وهو ما يستلزمه من الانتقام والهلاك وأنه لا يفلته كما قال تعالى: {ووجد الله عنده فوفاه حسابه} [النور: 39] وما ظنك بمن عاداه الله. ولهذا ذكر اسم الجلالة بلفظه الظاهر ولم يقل فإني عدو أو فإنه عدو لما يشعر به الظاهر هنا من القدرة العظيمة على حد قول الخليفة: « أميرُ المؤمنين يأمر بكذا» حثًّا على الامتثال.
والمراد بالكافرين جميع الكافرين وجيء بالعام ليكون دخولهم فيه كإثبات الحكم بالدليل.