البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَـٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبۡرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوّٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ} (98)

ميكائيل : الكلام فيه كالكلام في جبريل ، أعني من منع الصرف .

وبعد قول من ذهب إلى أنه مشتق من ملكوت الله ، أو ذهب إلى أن معنى ميكا : عبد ، وايل : اسم من أسماء الله تعالى ، وقد تصرفت فيه العرب .

قالوا : ميكال ، كمفعال ، وبها قرأ أبو عمرو وحفص ، وهي لغة الحجاز .

وقال الشاعر :

ويوم بدر لقيناكم لنا مدد *** فيه مع النصر ميكال وجبريل

وكذلك .

إلا أن بعد الألف همزة ، وبها قرأ نافع وابن شنبوذ لقنبل ، وكذلك .

إلا أنه بياء بعد الهمزة ، وبها قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر ، وغير ابن شنبوذ لقنبل والبزي .

وميكييل كميكعيل ، وبها قرأ ابن محيصن ، وكذلك .

إلا أنه لا ياء بعد الهمزة .

وقرئ بها : وميكاييل بياءين بعد الألف ، أولاهما مكسورة ، وبها قرأ الأعمش .

{ من كان عدوًّا لله } : العداوة بين الله والعبد لا تكون حقيقة ، وعداوة العبد لله تعالى مجاز ، ومعناها : مخالفة الأمر ، وعداوة الله للعبد ، مجازاته على مخالفته .

{ وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين } .

أكد بقوله : وملائكته ، أمر جبريل ، إذ اليهود قد أخبرت أنه عدوهم من الملائكة ، لكونه يأتي بالهلاك والعذاب ، فرد عليهم في الآية السابقة ، بأنه أتى بأصل الخيور كلها ، وهو القرآن الجامع لتلك الصفات الشريفة ، من موافقته لكتبهم ، وكونه هدى وبشرى ، فكانت تجب محبته .

وردّ عليهم في هذه الآية ، بأن قرنه باسمه تعالى مندرجاً تحت عموم ملائكته ، ثم ثانياً تحت عموم رسله ، لأن الرسل تشمل الملائكة وغيرهم ممن أرسل من بني آدم ، ثم ثالثاً بالتنصيص على ذكره مجرداً مع من يدّعون أنهم يحبونه ، وهو ميكال ، فصار مذكوراً في هذه الآية ثلاث مرار ، كل ذلك رد على اليهود وذم لهم ، وتنويه بجبريل .

ودلت الآية على أن الله تعالى عدوّ لمن عادى الله وملائكته ورسله وجبريل وميكال .

ولا يدل ذلك على أن المراد من جمع عداوة الجميع ، فالله تعالى عدوّه ، وإنما المعنى أن من عادى واحداً ممن ذكر ، فالله عدوه ، إذ معاداة واحد ممن ذكر معاداة للجميع .

وقد أجمع المسلمون على أن من أبغض رسولاً أو ملكاً فقد كفر .

فقال بعض الناس : الواو هنا بمعنى أو ، وليست للجمع .

وقال بعضهم : الواو للتفصيل ، ولا يراد أيضاً أن يكون عدواً لجميع الملائكة ، ولا لجميع الرسل ، بل هذ من باب التعليق على الجنس بصورة الجمع ، كقولك : إن كلمت الرجال فأنت طالق ، لا يريد بذلك إن كلمت كل الرجال ، ولا أقل ما ينطلق عليه الجمع ، وإنما علق بالجنس ، وإن كان بصورة الجمع ، فلو كلمت رجلاً واحداً طلقت ، فكذلك هذا الجمع في الملائكة والرسل .

فالمعنى أن من عادى الله ، أو ملكاً من ملائكته ، أو رسولاً من رسله ، فالله عدوّ له .

وقال الماتريدي : يحتمل أن يكون الافتتاح باسم الله ، على سبيل التعظيم لمن ذكر بعده ، كقوله تعالى : { فأَن لله خمسهُ } وخص جبريل وميكال بالذكر تشريفاً لهما وتفضيلاً .

وقد ذكرنا عن أستاذنا أبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير ، قدس الله روحه ، أنه كان يسمي لنا هذا النوع بالتجريد ، وهو أن يكون الشيء مندرجاً تحت عموم ، ثم تفرده بالذكر ، وذلك لمعنى مختص به دون أفراد ذلك العام .

فجبريل وميكال جعلاً كأنهما من جنس آخر ، ونزل التغاير في الوصف كالتغاير في الجنس ، فعطف .

وهذا النوع من العطف ، أعني عطف الخاص على العام ، على سبيل التفضيل ، هو من الأحكام التي انفردت بها الواو ، فلا يجوز ذلك في غيرها من حروف العطف .

وقيل : خصا بالذكر ، لأن اليهود ذكرهما ، ونزلت الآية بسببهما .

فلو لم يذكرا ، لكان لليهود تعلق بأن يقولوا : لم نعاد الله ؟ ولا جميع ملائكته ؟ وقيل : خصاً بالذكر دفعاً لإشكال : أن الموجب للكفر عداوة جميع الملائكة ، لا واحد منهم .

فكأنه قيل : أو واحد منهم .

وجاء هذا الترتيب في غاية الحسن ، فابتدىء بذكر الله ، ثم بذكر الوسائط التي بينه وبين الرسل ، ثم بذكر الوسائط التي بين الملائكة وبين المرسل إليهم .

فهذا ترتيب بحسب الوحي .

ولا يدل تقديم الملائكة في الذكر على تفضيلهم على رسل بني آدم ، لأن الترتيب الذي ذكرناه هو ترتيب بالنسبة إلى الوسائط ، لا بالنسبة إلى التفضيل .

ويأتي قول الزمخشري : بأن الملائكة أشرف من الأنبياء ، إن شاء الله ، قالوا : واختصاص جبريل وميكال بالذكر يدل على كونهما أشرف من جميع الملائكة .

وقالوا : جبريل أفضل من ميكال ، لأنه قدم في الذكر ، ولأنه ينزل بالوحي والعلم ، وهو مادة الأرواح .

وميكال ينزل بالخصب والأمطار ، وهي مادة الأبدان ، وغذاء الأرواح أشرف من غذاء الأشباح ، انتهى .

ويحتاج تفضيل جبريل على ميكائيل إلى نص جلي واضح ، والتقدم في الذكر لا يدل على التفضيل ، إذ يحتمل أن يكون ذلك من باب الترقي .

ومن : في قوله : { من كان عدوًّا } شرطية .

واختلف في الجواب فقيل : هو محذوف ، تقديره : فهو كافر ، وحذف لدلالة المعنى عليه .

وقيل الجواب : { فإن الله عدوّ للكافرين } ، وأتى باسم الله ظاهراً ، ولم يأت بأنه عدوّ لاحتمال أن يفهم أن الضمير عائد على اسم الشرط فينقلب المعنى ، أو عائد على أقرب مذكور ، وهو ميكال ، فأظهر الاسم لزوال اللبس ، أو للتعظيم والتفخيم ، لأن العرب إذا فخمت شيئاً كررته بالاسم الذي تقدم له منه : { لينصرنه الله } { إن الله لقوي عزيز } وقول الشاعر :

لا أرى الموت يسبق الموت شيئا***

وهذه الجملة الواقعة خبراً للشرط ، تحتاج إلى رابط لجملة الجزاء باسم الشرط .

والرابط هنا الاسم الظاهر وهو : الكافرين ، أوقع الظاهر موقع الضمير لتواخي أواخر الآي ، ولينص على علة العداوة ، وهي الكفر ، إذ من عادى من تقدّم ذكره ، أو واحداً منهم ، فهو كافر .

أو يراد بالكافرين العموم ، فيكون الرابط العموم ، إذ الكفر يكون بأنواع ، وهؤلاء الكفار بهذا الشيء الخاص فرد من أفراد العموم ، فيحصل الربط بذلك .

وقال الزمخشري : عدوّ للكافرين ، أراد عدوّ لهم ، فجاء بالظاهر ليدل على أن الله عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر .

وإذا كانت عداوة الأنبياء كفراً ، فما بال الملائكة ؟ وهم أشرف .

والمعنى : من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشدّ العقاب .

انتهى كلامه .

وهذا مذهب المعتزلة يذهبون إلى أن الملائكة أفضل من خواص بني آدم .

ودل كلام الزمخشري على أن الظاهر وقع موقع الضمير ، وأنه لم يلحظ فيه العموم ، وقال ابن عطية : وجاءت العبارة بعموم الكافرين ، لأن عود الضمير على من يشكل ، سواء أفردته أو جمعته ، ولو لم يبال بالإشكال .

وقلنا : المعنى يدل السامع على المقصد للزم تعيين قوم بعداوة الله لهم .

ويحتمل أن الله قد علم أن بعضهم يؤمن ، فلا ينبغي أن يطلق عليه عداوة الله للمآل .

وروي أن عمر نطق بهذه الآية مجاوباً لبعض اليهود في قوله : ذلك عدوّنا ، يعني جبريل ، فنزلت على لسان عمر .

قال ابن عطية : وهذا الخبر ضعيف .

/خ103