قوله تعالى :{ ألم تر إلى ربك كيف مد الظل } معناه ألم تر إلى مد ربك الظل ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، جعله ممدوداً لأنه ظل لا شمس معه ، كما قال :في ظل الجنة ، { وظل ممدود } لم يكن معه شمس { ولو شاء لجعله ساكناً } دائماً ثابتاً لا يزول ولا تذهبه الشمس . قال أبو عبيدة : الظل : ما نسخته الشمس ، وهو بالغداة ، والفيء : ما نسخ الشمس ، وهو بعد الزوال ، سمي فيئاً لأنه فاء من جانب المشرق إلى جانب المغرب ، { ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً } أي : على الظل . ومعنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرف الظل ، ولولا النور لما عرفت الظلمة ، والأشياء تعرف بأضدادها .
ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى الحديث عن مظاهر قدرة الله - تعالى - وعن جانب من الآلاء التى أنعم بها على عباده ، فإن من شأن هذه النعم المبثوثة فى هذا الكون ، أن تهدى المتفكر فيها إلى منشئها وواهبها وإلى وجوب إخلاص العبادة له ، قال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ . . . } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل . . } يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين ، ويجوز أن تكون من العلم .
قال الحسن وقتادة وغيرهما : مد الظل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس . وحكى أبو عبيدة عن رؤبة أنه قال : " كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فىء وظل ، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل " .
والجملة الكريمة شروع فى بعض دلائل قدرته - سبحانه - وواسع رحمته ، إثر بيان جهالات المشركين ، وغفلتهم عما فى هذا الكون من آثار تدل على وحدانية الله - تعالى - .
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والاستفهام للتقرير .
والمعنى لقد رأيت - أيها الرسول الكريم - بعينيك ، وتأملت بعقلك وبصيرتك ، فى صنع ربك الذى أحسن كل شىء خلقه ، وكيف أنه - سبحانه - مد الظل ، أى : بسطه وجعله واسعا متحركا مع حركة الأرض فى مواجهة الشمس ، وجعله مكانا يستظل فيه الناس من وهج الشمس وحرها ، فيجدون عنده الراحة بعد التعب . . . وهذا من عظيم رحمة ربك بعباده .
وقوله - تعالى - : { وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً } جملة معترضة لبيان مظهر من مظاهر قدرته - تعالى - . أى : " ولو شاء " - سبحانه - لجعل هذا الظل " ساكنا " أى : ثابتا دائما مستقرا على حالة واحدة بحيث لا تزيله الشمس ، ولا يذهب عن وجه الأرض ، ولكنه - سبحانه - لم يشأ ذلك ، لأن مصلحة خلقه ومنفعتهم فى وجوده على الطريقة التى أوجده عليها بمقتضى حكمته .
وقوله - سبحانه - : { ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً } معطوف على قوله { مَدَّ الظل } داخل فى حكمه . أى : ألم ترى إلى عجيب صنع ربك كيف مد الظل ، ثم جعلنا بقدرتنا وحكمتنا الشمس دليلا عليه ، إذ هو يزول بتسلطها عليه ويظهر عند احتجاجها عنه ، ويستدل بأحوالها على أحواله ، فهو يتبعها كما يتبع الإنسان من يدله على الشىء ، من حيث إنه يزيد كلما احتجبت عنه ، ويتقلص كلما ظهرت عليه .
قال الجمل : قوله : { ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً } أى : جعلنا الشمس بنسخها الظل عند مجيئها دالة على أن الظل شىء ، لأن الأشياء تعرف بأضدادها ، ولولا الشمس ما عرف الظل ، ولولا النور ما عرفت الظلمة . . . ولم يؤنث الدليل - وهو صفة الشمس - لأنه فى معنى الاسم ، كما يقال : الشمس برهان ، والشمس حق .
استئناف ابتدائي فيه انتقال من إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإثبات أن القرآن من عند الله أنزله على رسوله ، وصفات الرسل وما تخلل ذلك من الوعيد وهو من هذا الاعتبار متصل بقوله : { وقال الذين كفروا لولا نُزِّل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] الآية .
وفيه انتقال إلى الاستدلال على بطلان شركهم وإثبات الوحدانية لله وهو من هذه الجهة متصل بقوله في أول السورة { واتخَذَوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً } [ الفرقان : 3 ] الآية .
وتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أن الكلام متصل بنظيره من قوله تعالى : { قل أنزله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض } [ الفرقان : 6 ] . وما عطف عليه { قل أذلك خير } [ الفرقان : 15 ] { وما أرسلنا قبلَك من المرسلين } [ الفرقان : 20 ] { وكفى بربك هادياً } [ الفرقان : 31 ] فكلها مخاطبات للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد جُعل مَدُّ الظل وقبْضُه تمثيلاً لحكمة التدريج في التكوينات الإلهية والعدول بها عن الطَفْرَة في الإيجاد ليكون هذا التمثيل بمنزلة كبرَى القياسسِ للتدليل على أن تنزيل القرآن منجَّماً جارٍ على حكمة التدرج لأنه أمكن في حصول المقصود ، وذلك ما دل عليه قوله سابقاً { كذلك لنُثَبّت به فؤادك } [ الفرقان : 32 ] . فكان في قوله : { ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظّل . . . } الآية زيادةٌ في التعليل على ما في قوله { كذلك لِنُثبّت به فؤادك } [ الفرقان : 32 ] .
ويستتبع هذا إيماءً إلى تمثيل نزول القرآن بظهور شمس في المواضع التي كانت مظلَّلة إذ قال تعالى : { ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً } فإن حال الناس في الضلالة قبل نزول القرآن تشبَّه بحال امتداد ظلمة الظل ، وصار ما كان مظلّلاً ضاحياً بالشمس وكان زوال ذلك الظل تدريجاً حتى ينعدم الفيء .
فنظم الآية بما اشتمل عليه من التمثيل أفاد تمثيل هيئة تنزيل القرآن منجَّماً بهيئة مدّ الظل مدرّجاً ولو شاء لجعله ساكناً .
وكان نظْمُها بحمله على حقيقة تركيبه مفيداً العبرة بمد الظل وقبضِه في إثبات دقائق قدرة الله تعالى ، وهذان المُفادان من قبيل استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه الذي ذكرناه في المقدمة التاسعة . وكان نظم الكلام بمعنى ما فيه من الاستعارة التصريحية من تشبيه الهداية بنور الشمس ، وتقلّص ضلال الكفر بانقباض الظل بعد أن كان مديداً قبل طلوع الشمس . وبهذه النكتة عُطف قوله { ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً } إلى قوله { وجعل النهار نشوراً } [ الفرقان : 47 ] .
والاستفهام تقريري فهو صالح لطبقات السامعين : مِن غافل يُسأل عن غفلته ليُقِرَّ بها تحريضاً على النظر ، ومِن جَاحد يُنكَر عليه إهماله النظر ، ومن موفق يُحَثّ على زيادة النظر .
والرؤية بصرية ، وقد ضمن الفعل معنى النظر فعدّي إلى المرْئي بحرف ( إلى ) . والمدّ : بسط الشيء المنقبض المتداخل يقال : مد الحبل ومد يده ، ويطلق المد على الزيادة في الشيء وهو استعارة شائعة ، وهو هنا الزيادة في مقدار الظل .
ثم إذا كان المقصود بفعل الرؤية حالةً من أحوال الذات تصحّ رؤيتها فلك تعدية الفعل إلى الحالة كقوله تعالى : { ألم ترَ كيفَ فَعَل ربّك بأصحاب الفيل } [ الفيل : 1 ] { ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً } [ نوح : 15 ] ، وصحّ تعديته إلى اسم الذات مقيّدة بالحالة المقصودة بحال أو ظرف أو صلة نحو { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } [ الغاشية : 17 ] { ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه } [ البقرة : 258 ] { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيء لهم ابعث لنا ملكاً } [ البقرة : 246 ] .
والفرق بين التعديتين أن الأولى يقصد منها العناية بالحالة لا بصاحبها ، فالمقصود من آية سورة الفيل : الامتنان على أهل مكة بما حلّ بالذين انتهكوا حرمتَها من الاستئصال ، والمقصود من آية سورة الغاشية العبرة بكيفية خلقه الإبل لِما تشتمل عليه من عجيب المنافع ، وكذلك الآيتان الأخِيرتان . وإذ قد كان المقام هنا مقام إثبات الوحدانية والإلهية الحقّ لله تعالى ، أوثرَ تعلق فعل الرؤية باسم الذات ابتداء ثم مجيء الحال بعد ذلك مجيئاً كمجيء بدل الاشتمال بعد ذكر المبدَل منه .
وأما قوله في سورة نوح ( 15 ) { ألم تَروا كيف خلق الله } دون أن يقال : ألم تروا رَبَّكم كيف خلق ، لأن قومه كانوا متصلبين في الكفر وكان قد جادلهم في الله غيرَ مرة فعَلِم أنه إن ابتدأهم بالدعوة إلى النظر في الوحدانية جعلوا أصابعهم في آذانهم فلم يسمعوا إليه فبادأهم باستدعاء النظر إلى كيفية الخلق .
وعلى كل فإن { كيف } هنا مجردة عن الاستفهام وهي اسم دال على الكيفية فهي في محلّ بدل الاشتمال من { ربك } ، والتقدير : ألم ترَ إلى ربك إلى هيئة مده الظل . وقد تقدم ذكر خروج ( كيف ) عن الاستفهام عند قوله تعالى : { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } في سورة آل عمران ( 6 ) ، فإنه لا يخلو النهار من وجود الظل .
وفي وجود الظل دقائقُ من أحوالِ النظام الشمسي فإن الظل مقدار محدد من الظلمة يحصل من حيلولة جسم بين شعاع الشمس وبين المكان الذي يقع عليه الشعاعُ فينطبع على المكان مقدار من الظل مقدَّر بمقدار كيفية الجسم الحائل بين الشعاع وبين موقع الشعاع على حسب اتجاه ذلك الجسم الحائل من جهته الدقيقة أو الضخمة ، ويكون امتداد تلك الظلمة المكيَّفية بكيفية ذلك الجسم متفاوتاً على حسب تفاوت بُعد اتجاه الأشعة من موقعها ومن الجسم الحائل ومختلفاً باستواء المكان وتحدُّبه ، فذلك التفاوت في مقادير ظل الشيء الواحد هو المعبر عنه بالمَدّ في هذه الآية لأنه كلما زاد مقدار الظلمة المكيّفية لكيفية الحائل زاد امتداد الظل . فتلك كلها دلائل كثيرة من دقائق التكوين الإلهي والقدرة العظيمة .
وقد أفاد هذا المعنى كاملاً فعلُ { مَدّ } .
وهذا الامتداد يكثر على حسب مقابلة الأشعة للحائل فكلّما اتجهت الأشعة إلى الجسم من أخفض جهةٍ كان الظل أوسع ، وإذا اتجهت إليه مرتفعةً عنه تقلّص ظلّه رويداً رويداً إلى أن تصير الأشعة مُسامتة أعلى الجسم ساقطة عليه فيزول ظِله تماماً أو يكاد يزول ، وهذا معنى قوله تعالى : { ولو شاء لجعله ساكناً } أي غير متزايد لأنه لما كان مدّ الظل يشبه صورة التحرك أطلق على انتفاء الامتدادِ اسم السكون بأن يلازم مقداراً واحداً لا ينقص ولا يزيد ، أي لو شاء الله لجعل الأرض ثابتة في سَمت واحد تُجاه أشعة الشمس فلا يختلف مقدار ظل الأجسام التي على الأرض وتلزم ظلالُها حالة واحدة فتنعدم فوائد عظيمة .
ودلت مقابلة قوله : { مد الظل } بقوله { لجعله ساكناً } على حالة مطوية من الكلام ، وهي حالة عموم الظل جميع وجه الأرض ، أي حالة الظلمة الأصلية التي سبقت اتجاه أشعة الشمس إلى وجه الأرض كما أشار إليه قول التوراة « وكانت الأرض خالية ، وعلى وجه القمر ظلمة » ثم قال « وقال الله ليكن نور فكان نور . . . » وفصل الله بين النور والظلمة ( إصحاح واحد من سفر الخروج ) ، فاستدلال القرآن بالظل أجدى من الاستدلال بالظلمة لأن الظلمة عدم لا يكاد يحصل الشعور بجمالها بخلاف الظل فهو جامع بين الظلمة والنور فكلا دلالتيه واضحة .
وجملة { ولو شاء لجعله ساكناً } معترضة للتذكير بأن في الظل منّة .
وقوله : { ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً } عطف على جملة { مد الظل } وأفادت { ثُمّ } أن مدلول المعطوف بها متراخ في الرتبة عن مدلول المعطوف عليه شأن { ثُم } إذا عطفت الجملة . ومعنى تراخي الرتبة أنها أبعد اعتباراً ، أي أنها أرفع في التأثير أو في الوجود فإن وجود الشمس هو علة وجود الظّل للأجسام التي على الأرض والسبب أرفع رتبة من المسبّب ، أي أن الله مد الظل بأن جعل الشمس دليلاً على مقادير امتداده . ولم يفصح المفسرون عن معنى هذه الجملة إفصاحاً شافياً .
والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله : { ثم جعلنا } لأن ضمير المتكلم أدخل في الامتنان من ضمير الغائب فهو مشعر بأن هذا الجعل نعمة وهي نعمة النور الذي به تمييز أحوال المرئيات وعليه فقوله ( تعالى ) : { ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً } ارتقاء في المنّة .
والدليل : المرشد إلى الطريق والهادي إليه ، فجُعل امتداد الظل لاختلاف مقاديره كامتداد الطريق وعلامات مقادير مثلَ صُوى الطريق ، وجعلت الشمس من حيث كانت سبباً في ظهور مقادير الظل كالهادي إلى مَراحلَ ، بطريقة التشبيه البليغ ، فكما أن الهادي يخبر السائر أين ينزل من الطريق ، كذلك الشمس بتسببها في مقادير امتداد الظل تعرّف المستدل بالظل بأوقات أعماله ليشرع فيها .
وتعدية { دليلاً } بحرف ( على ) تفيد أن دلالة الشمس على الظل هنا دلالة تنبيه على شيء قد يخفى كقول الشاعر : « إلا عليّ دليل »{[295]} . . . وشمل هذا حالتي المد والقبض .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس {ولو شاء لجعله ساكنا} يقول تبارك وتعالى: لو شاء لجعل الظل دائما لا يزول إلى يوم القيامة، {ثم جعلنا الشمس عليه} يعني: على الظل {دليلا}، تتلوه الشمس فتدفعه، حتى تأتي على الظل كله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"ألَمْ تَرَ يا محمد كَيْفَ مَدّ ربك الظّلّ"، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس...
قوله: "وَلَوْ شاءَ لجَعَلَهُ ساكِنا "يقول: ولو شاء لجعله دائما لا يزول، ممدودا لا تذهبه الشمس، ولا تنقصه...
وقوله: "ثُمّ جَعَلْنا الشّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً "يقول جلّ ثناؤه: ثم دللناكم أيها الناس بنسخ الشمس إياه عند طلوعها عليه، أنه خلْق من خلق ربكم، يوجده إذا شاء، ويفنيه إذا أراد، والهاء في قوله «عليه» من ذكر الظلّ. ومعناه: ثم جعلنا الشمس على الظلّ دليلاً. قيل: معنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس التي تنسخه لم يعلم أنه شيء، إذا كانت الأشياء إنما تعرف بأضدادها، نظير الحلو الذي إنما يعرف بالحامض، والبارد بالحارّ، وما أشبه ذلك... قال ابن زيد، في قول الله: "ثُمّ جَعَلْنا الشّمْسَ عَليْهِ دَلِيلاً" قال: أخرجت ذلك الظلّ فذهبت به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ألم تر} قد ذكرنا في غير موضع أن حرف {ألم تر} هو حرف تعجيب واستفهام، لكنه في الحقيقة على الإيجاب؛ أي: قد رأيت.
{ألم تر إلى ربك} أي إلى تدبير ربك ولطفه: {كيف مد الظل} وهو لا يؤذي، ولا يضر، ولا يمس ولا يشعر به أحد، ولا يخف، ولا يستر، ولا يكشف عن وجود الأشياء، إنما النور هو الكاشف عن وجوه الأشياء، والظلمة هي الساترة لذلك. ونحو ذلك مما يكثر ذكره مما يحيط بالخلائق كلها ليعمل أن من المحسوسات التي تقع عليها الحواس ما لا تدرك حقيقته من نحو الظل الذي ذكرنا هو ما لا تدرك حقيقته، ومن نحو السمع والبصر والعقل والنطق، ليعلم أن الذي سبيل معرفته الاستدلال، وهو منشئ هذه الأشياء، أحق ألا يدرك، ولا يحاط بتدبيره ولطفه، ليعلم أن من بلغ تدبيره ولطفه هذا المبلغ، لا يحتمل أن يعجزه شيء، أو يخفى عليه شيء؛ يخبر عن قدرته و تدبيره ولطفه ليعلم أنه قادر ومدبر ولطيف بذاته.
{ولو شاء لجعله ساكنا} أي دائما، لا يذهب أبدا، ولا تصيبه الشمس، ولا يزول. وقال بعضهم: {ساكنا} أي مستقرا دائما، لا تنسخه الشمس كظل الجنة. {ثم جعلنا الشمس عليه دليلا}، قال بعضهم: أي تليه، وتتبعه، حتى تأتي على كله.
وقال بعضهم: قوله: {ثم جعلنا الشمس عليه دليلا}] يقول: حيثما تكن الشمس يكن الظل. وأصله: أنه بالشمس يعرف الظل أنه ظل، ولولا الشمس ما عرف الظل، فهي دليل معرفته وكونه أنه ظل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ} ألم تنظر إلى صنع ربك وقدرته، ومعنى مدّ الظل: أن جعله يمتدّ وينبسط فينتفع به الناس {وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً} أي لاصقاً بأصل كل مظلّ من جبل وبناء وشجرة. غير منبسط فلم ينتفع به أحد: سمي انبساط الظل وامتداده تحركاً منه وعدم ذلك سكوناً، ومعنى كون الشمس دليلاً: أنّ الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل، من كونه ثابتاً في مكان [و] زائلاً، ومتسعاً ومتقلصاً، فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك..
المخاطب بهذا الخطاب وإن كان هو الرسول عليه السلام بحسب ظاهر اللفظ، ولكن الخطاب عام في المعنى، لأن المقصود من الآية بيان نعم الله تعالى بالظل، وجميع المكلفين مشتركون في أنه يجب تنبههم لهذه النعمة وتمكنهم من الاستدلال بها على وجود الصانع...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
أخبر تعالى أنه بسط الظل ومده، وأنه جعله متحركا تبعا لحركة الشمس، ولو شاء لجعله ساكنا لا يتحرك، إما بسكون المظهر له والدليل عليه، وإما بسبب آخر. ثم أخبر أنه قبضه بعد بسطه قبضا يسيرا، وهو شيء بعد شيء، لم يقبضه جملة فهذا من أعظم آياته الدالة على عظيم قدرته وكمال حكمته. فندب الرب سبحانه عباده إلى رؤية صنعته وقدرته وحكمته في هذا الفرد من مخلوقاته. ولو شاء لجعله لاصقا بأصل ما هو ظل له، من جبل وبناء وشجر وغيره، فلم ينتفع به أهله، فإن كان الانتفاع به تابع لمده وبسطه وتحوله من مكان إلى مكان. وفي مده وبسطه، ثم قبضه شيئا فشيئا: من المصالح والمنافع ما لا يخفى ولا يحصى. فلو كان ساكنا دائما، أو قبض دفعة واحدة، لتعطلت مرافق العالم ومصالحه به وبالشمس، فمد الظل وقبضه شيئا فشيئا لازم لحركة الشمس على ما قدرت عليه من مصالح العالم. وفي دلالة الشمس على الظلال: ما تعرف به أوقات الصلوات، وما مضى من اليوم، وما بقي منه. وفي تحركه وانتقاله: ما يبرد به ما أصابه من حر الشمس، وينفع الحيوانات والشجر والنبات، فهو من الآيات الدالة عليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ألم تر} وأشار إلى عظم المقام وعلو الرتبة بحرف الغاية مع أقرب الخلق منزلة وأعلاهم مقاماً فقال: {إلى ربك} أي المحسن إليك، والأصل: إلى فعله؛ وأشار إلى زيادة التعجب من أمره بجعله في معرض الاستفهام فقال: {كيف مد الظل} وهو ظلمة ما منع ملاقاة نور الشمس، قال أبو عبيد: وهو ما تنسخه الشمس وهو بالغداة، والفيء ما نسخ الشمس وهو بعد الزوال. والظل هنا الليل لأنه ظل الأرض الممدود على قريب من نصف وجهها مدة تحجب نور الشمس بما قابل قرصها من الأرض حتى امتد بساطه، وضرب فسطاطه، كما حجب ظل ضلالهم أنوار عقولهم، وغفلة طباعهم نفوذَ أسماعهم.
{ولو شاء لجعله} أي الظل {ساكناً} بإدامة الليل لا تذهبه الشمس كما في الجنة لقوله {وظل ممدود} [الواقعة: 30] وإن كان بينهما فرق، ولكنه لم يشأ ذلك بل جعله متحركاً بسوق الشمس له. ولما كان إيجاد النهار بعد إعدامه، وتبيين الظل به غبّ إبهامه، أمراً عظيماً، وإن كان قد هان بكثرة الإلف، أشار إليه بأداة التراخي ومقام العظمة فقال: {ثم جعلنا} أي بعظمتنا {الشمس عليه دليلاً} أي يدور معها حيثما دارت، فلولا هي ما ظهر أن لشيء ظلاًّ، ولولا النور ما عرف الظلام، والأشياء تعرف بأضدادها..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في هذا الشوط يدع مقولات المشركين وجدالهم مع الرسول [صلى الله عليه وسلم] ليبدأ جولة في مشاهد الكون ومجاليه، يوجه إليها قلب الرسول ويصل بها مشاعره. وهذا الاتصال كاف وحده ليدفع خاطره عن مضايقات المشركين الصغيرة، ويفتح قلبه على تلك الآفاق الوسيعة التي يتضاءل معها كيد الكائدين وعداوة المجرمين.. والقرآن يوجه القلوب والعقول دائما إلى مشاهد هذا الكون؛ ويربط بينها وبين العقول والقلوب. ويوقظ المشاعر لاستقبالها بحس جديد متفتح، يتلقى الأصداء والأضواء، وينفعل بها ويستجيب، ويسير في هذا الكون ليلتقط الآيات المبثوثة في تضاعيفه، المنثورة في أرجائه، المعروضة في صفحاته، ويرى فيها يد الصانع المدبر، ويستشعر آثار هذه اليد في كل ما تقع عليه عينه، وكل ما يلمسه حسه، وكل ما يلتقطه سمعه، ويتخذ من هذا كله مادة للتدبر والتفكر، والاتصال بالله، عن طريق الاتصال بما صنعت يداه. وحين يعيش الإنسان في هذا الكون مفتوح العين والقلب، مستيقظ الحس والروح، موصول الفكر والخاطر؛ فإن حياته ترتفع عن ملابسات الأرض الصغيرة، وشعوره بالحياة يتسامى ويتضاعف معا. وهو يحس في كل لحظة أن آفاق الكون أفسح كثيرا من رقعة هذه الأرض؛ وأن كل ما يشهده صادر عن إرادة واحدة، مرتبط بناموس واحد، متجه إلى خالق واحد؛ وإن هو إلا واحد من هذه المخلوقات الكثيرة المتصلة بالله؛ ويد الله في كل ما حوله، وكل ما تقع عليه عينه، وكل ما تلمسه يداه. إن شعورا من التقوى، وشعورا من الأنس، وشعورا من الثقة لتمتزج في حسه، وتفيض على روحه، وتعمر عالمه، فتطبعه بطابع خاص من الشفافية والمودة والطمأنينة في رحلته على هذا الكوكب حتى يلقى الله. وهو يقضي هذه الرحلة كلها في مهرجان من صنع الله وعلى مائدة من يد الصانع المدبر الجميل التنسيق. وفي هذا الدرس ينتقل السياق من مشهد الظل اللطيف، ويد الله تمده ثم تقبضه في يسر ولطف. إلى مشهد الليل وما فيه من نوم وسبات، والنهار وما فيه من حركة وانبعاث. إلى مشهد الرياح تبشر بالرحمة ثم يعقبها الماء المحيي للموات. إلى مشهد البحرين الفرات والأجاج وبينهما برزخ يمنعهما ويحجز بينهما فلا يختلطان. ومن ماء السماء إلى ماء النطفة، وإذا هو بشر يصرف الحياة. إلى مشهد خلق السماوات والأرض في ستة أيام. إلى مشهد البروج في السماء وما فيها من سراج مضيء وقمر منير. إلى مشهد الليل والنهار يتعاقبان على مدار الزمان. وفي خلال هذه المشاهد الموحية يوقظ القلب وينبه العقل إلى تدبر صنع الله فيها، ويذكر بقدرته وتدبيره، ويعجب معه إشراك المشركين، وعبادتهم مالا ينفعهم ولا يضرهم، وجهلهم بربهم وتطاولهم عليه، وتظاهرهم على الكفر والجحود والنكران. فإذا هو تصرف عجيب مريب في وسط هذا الحشد المعروض من آيات الله، ومشاهد الكون الذي خلقه الله. فلنعش نحن لحظات في ذلك المهرجان الذي يدعونا الخالق البارئ المصور إليه في طول الحياة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفيه انتقال إلى الاستدلال على بطلان شركهم وإثبات الوحدانية لله، وهو من هذه الجهة متصل بقوله في أول السورة {واتخَذَوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً} [الفرقان: 3] الآية. وتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أن الكلام متصل بنظيره من قوله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض} [الفرقان: 6]. وما عطف عليه {قل أذلك خير} [الفرقان: 15] {وما أرسلنا قبلَك من المرسلين} [الفرقان: 20] {وكفى بربك هادياً} [الفرقان: 31] فكلها مخاطبات للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد جُعل مَدُّ الظل وقبْضُه تمثيلاً لحكمة التدريج في التكوينات الإلهية والعدول بها عن الطَفْرَة في الإيجاد ليكون هذا التمثيل بمنزلة كبرَى القياسِ للتدليل على أن تنزيل القرآن منجَّماً جارٍ على حكمة التدرج لأنه أمكن في حصول المقصود، وذلك ما دل عليه قوله سابقاً {كذلك لنُثَبّت به فؤادك} [الفرقان: 32]. فكان في قوله: {ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظّل...} الآية زيادةٌ في التعليل على ما في قوله {كذلك لِنُثبّت به فؤادك} [الفرقان: 32]. ويستتبع هذا إيماءً إلى تمثيل نزول القرآن بظهور شمس في المواضع التي كانت مظلَّلة إذ قال تعالى: {ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً} فإن حال الناس في الضلالة قبل نزول القرآن تشبَّه بحال امتداد ظلمة الظل، وصار ما كان مظلّلاً ضاحياً بالشمس وكان زوال ذلك الظل تدريجاً حتى ينعدم الفيء. فنظم الآية بما اشتمل عليه من التمثيل أفاد تمثيل هيئة تنزيل القرآن منجَّماً بهيئة مدّ الظل مدرّجاً ولو شاء لجعله ساكناً. وكان نظْمُها بحمله على حقيقة تركيبه مفيداً العبرة بمد الظل وقبضِه في إثبات دقائق قدرة الله تعالى، وهذان المُفادان من قبيل استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه الذي ذكرناه في المقدمة التاسعة. وكان نظم الكلام بمعنى ما فيه من الاستعارة التصريحية من تشبيه الهداية بنور الشمس، وتقلّص ضلال الكفر بانقباض الظل بعد أن كان مديداً قبل طلوع الشمس. وبهذه النكتة عُطف قوله {ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً} إلى قوله {وجعل النهار نشوراً} [الفرقان: 47]. والاستفهام تقريري فهو صالح لطبقات السامعين: مِن غافل يُسأل عن غفلته ليُقِرَّ بها تحريضاً على النظر، ومِن جَاحد يُنكَر عليه إهماله النظر، ومن موفق يُحَثّ على زيادة النظر. والرؤية بصرية، وقد ضمن الفعل معنى النظر فعدّي إلى المرْئي بحرف (إلى). والمدّ: بسط الشيء المنقبض المتداخل يقال: مد الحبل ومد يده، ويطلق المد على الزيادة في الشيء وهو استعارة شائعة، وهو هنا الزيادة في مقدار الظل. ثم إذا كان المقصود بفعل الرؤية حالةً من أحوال الذات تصحّ رؤيتها فلك تعدية الفعل إلى الحالة كقوله تعالى: {ألم ترَ كيفَ فَعَل ربّك بأصحاب الفيل} [الفيل: 1] {ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً} [نوح: 15]، وصحّ تعديته إلى اسم الذات مقيّدة بالحالة المقصودة بحال أو ظرف أو صلة نحو {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} [الغاشية: 17] {ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه} [البقرة: 258] {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيء لهم ابعث لنا ملكاً} [البقرة: 246]. والفرق بين التعديتين أن الأولى يقصد منها العناية بالحالة لا بصاحبها، فالمقصود من آية سورة الفيل: الامتنان على أهل مكة بما حلّ بالذين انتهكوا حرمتَها من الاستئصال، والمقصود من آية سورة الغاشية العبرة بكيفية خلقه الإبل لِما تشتمل عليه من عجيب المنافع، وكذلك الآيتان الأخِيرتان. وإذ قد كان المقام هنا مقام إثبات الوحدانية والإلهية الحقّ لله تعالى، أوثرَ تعلق فعل الرؤية باسم الذات ابتداء ثم مجيء الحال بعد ذلك مجيئاً كمجيء بدل الاشتمال بعد ذكر المبدَل منه. وأما قوله في سورة نوح (15) {ألم تَروا كيف خلق الله} دون أن يقال: ألم تروا رَبَّكم كيف خلق، لأن قومه كانوا متصلبين في الكفر وكان قد جادلهم في الله غيرَ مرة فعَلِم أنه إن ابتدأهم بالدعوة إلى النظر في الوحدانية جعلوا أصابعهم في آذانهم فلم يسمعوا إليه فبادأهم باستدعاء النظر إلى كيفية الخلق. وعلى كل فإن {كيف} هنا مجردة عن الاستفهام وهي اسم دال على الكيفية فهي في محلّ بدل الاشتمال من {ربك}، والتقدير: ألم ترَ إلى ربك إلى هيئة مده الظل.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وبرغم اختلاف المفسرين في تأويل الظلّ والسكون في الآيتين الأوليين، فإن الذي نرجحه أن سامعي القرآن العرب قد فهموا المقصد منهما بقرينة الصيغة الاستفهامية التي فيها معنى التقرير ولفت النظر لأمر أو مشهد مسلّم به على سبيل الاستشهاد والاستدلال على قدرة الله تعالى.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذه جولةٌ مع آيات الله في الكون وفي الحياة، يريد الله للإنسان أن يفكر بها ليهتدي بها إلى وجوده ووحدانيته، من خلال ما توحي به من دلائل عظمته وما تثيره في الفكر من الانفتاح على عالم الإيمان والكفر والهدى والضلال في شخصية الإنسان، من خلال الإِيحاءات والإشارات التي تقرّب للإنسان الصورة في ذلك.