معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِن فَاتَكُمۡ شَيۡءٞ مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ إِلَى ٱلۡكُفَّارِ فَعَاقَبۡتُمۡ فَـَٔاتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتۡ أَزۡوَٰجُهُم مِّثۡلَ مَآ أَنفَقُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ} (11)

/خ10

فلما نزلت هذه الآية أقر المؤمنون بحكم الله عز وجل وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمروا به من أداء نفقات المسلمين على نسائهم ، فأنزل الله عز وجل :{ وإن فاتكم } أيها المؤمنون { شيء من أزواجكم إلى الكفار } فلحقن بهم مرتدات ، { فعاقبتم } قال المفسرون : معناه غنمتم ، أي : غزوتم فأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة ، وقيل ظهرتم ، وكانت العاقبة لكم . وقيل : أصبتموهم ، في القتال بعقوبة حتى غنمتم . قرأ حميد الأعرج " فعقّبتم " بالتشديد . وقرأ الزهري " فعقبتم " خفيفة بغير ألف . وقرأ مجاهد : عاقبتم أي صنعتم بهم كما صنعوا بكم ، وكلها لغات بمعنى واحد ، يقال : عاقب وعقب وعقب ، وأعقب وتعقب وتعاقب واعتقب : إذا غنم . وقيل : التعقيب : غزوة بعد غزوة ، { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم } إلى الكفار منكم ، { مثل ما أنفقوا } عليهن من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار . وقيل : فعاقبتم المرتدة بالقتل . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لحق بالمشركين من نساء المؤمنين والمهاجرين ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان ، وكانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة ، كانت تحت عمر بن الخطاب ، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت ، وبروع بنت عقبة ، كانت تحت شماس بن عثمان ، وعزة بن عبد العزيز بن نضلة ، وزوجها عمرو بن عبد ود ، وهند بنت أبي جهل بن هشام ، كانت تحت هشام بن العاص بن وائل ، وأم كلثوم بنت جرول ، كانت تحت عمر بن الخطاب ، فكلهن رجعن عن الإسلام ، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة . { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } واختلف القول في أن رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن ، كان واجباً أو مندوباً ؟ . وأصله أن الصلح هل كان وقع على رد النساء ؟ فيه قولان : أحدهما أنه وقع على رد النساء والرجال جميعاً ، لما روينا : أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، ثم صار الحكم في رد النساء منسوخاً بقوله : { فلا ترجعوهن إلى الكفار } فعلى هذه كان رد المهر واجباً . والقول الآخر : أن الصلح لم يقع على رد النساء ، لأنه روي عن علي : أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وذلك لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها ، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت ، وأكرهت عليها لضعف قلبها وقلة عقلها ، وقلة هدايتها إلى المخرج منها بإظهار كلمة الكفر مع التورية ، وإضمار الإيمان ، ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته وهدايته إلى التقية ، فعلى هذا كان رد المهر مندوباً . واختلفوا في أنه هل يجب العمل به اليوم في رد المال إذا شرط في معاقدة الكفار ؟ . فقال قوم : لا يجب ، وزعموا أن الآية منسوخة ، وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة ، وقال قوم : هي غير منسوخة ويرد إليهم ما أنفقوا .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِن فَاتَكُمۡ شَيۡءٞ مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ إِلَى ٱلۡكُفَّارِ فَعَاقَبۡتُمۡ فَـَٔاتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتۡ أَزۡوَٰجُهُم مِّثۡلَ مَآ أَنفَقُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ} (11)

وقوله - سبحانه - : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ } بيان لحكم آخر يتعلق بالنساء اللائى التحقن بالمشركين ، وتركن أزواجهن المسلمين ، وأبى المشركون أن يدفعوا للمسلمين مهور هؤلاء الزوجات .

والجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } .

وقد ذكروا أن المسلمين لما نزل قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ . . } الآية . كتبوا إلى المشركين يعلمونهم بما تضمنته هذه الآية .

فامتنع المشركون عن دفع مهور النساء اللاتى ذهبن إليهم ، بعد أن تركن أزواجهن المسلمين ، فنزل قوله - تعالى - : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ } .

قال ابن كثير : أقر المؤمنون بحكم الله فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التى انفقوها على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين ، فقال الله - تعالى - للمؤمنين به ، { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } الآية .

وقوله { فَاتَكُمْ } من الفَوْتِ بمعنى الفراق والترك والهرب . . . يقال : فاتنى هذا الشىء ، إذا لم أتمكن من الحصول عليه ، وعدى حرف إلى لتضمنه معنى الفرار .

ولفظ " شىء " هنا المراد به بعض ، وقوله : { مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } بيان للفظ شىء .

وقوله : { فَعَاقَبْتُمْ } يرى بعضهم أنه من العقوبة .

وعليه يكون المعنى : وإن تفلتت وفرت امرأة من أزواجكم - أيها المؤمنون - إلى الكفار ، وامتنعوا عن دفع مهرها لكم ، { فَعَاقَبْتُمْ } أى : فغزوتم أنتم بعد ذلك هؤلاء الكافرين وانتصرتم عليهم وظفرتم بمغانم منهم .

{ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ } منكم إلى الكفار من هذه المغانم ، { مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } أى : مثل المهور التى أنفقوها على زوجاتهم اللائى فررن إلى المشركين .

ويرى بعضهم أن قوله : { فَعَاقَبْتُمْ } صيغة تفاعل من العُقْبة - بضم العين وسكون القاف وهى النوبة ، بمعنى أن يصير الإنسان فى حالة تشبه حالة غيره .

قال الآلوسى : قوله : { فَعَاقَبْتُمْ } من العُقْبَةِ لا من العقاب ، وهى فى الأصل النوبة فى ركوب أحد الرفيقين على دابة لهما والآخر بعده : أى : فجاءت عقبتكم أى نوبتكم من أداء المهر .

شبه الحكم بالأداء المذكور ، بأمر يتعاقبون فيه فى الركوب .

وحاصل المعنى : إن لحق أحد من أزواجكم بالكفار ، أو فاتكم شىء من مهورهن ، { فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } من مهر المهاجرة التى تزوجتموها ، ولا تعطوا شيئا لزوجها الكافر ، ليكون قصاص .

وعبر عن هؤلاء الزوجات اللائى تركن أزواجهن المؤمنين ، وفررن إلى المشركين ، بلفظ " شىء " لتحقير هؤلاء الزوجات ، وتهوين أمرهن على المسلمين ، وبيان أنهن بمنزلة الشىء الضائع المفقود الذى لا قيمة له .

قال صاحب الكشاف : وجميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة .

وقد أعطى الرسول - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين مهور نسائهم - اللاحقات بالمشركين - من الغنيمة .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { واتقوا الله الذي أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } أي : واتقوا الله - تعالى - أيها المؤمنون - فى كل شئونكم ، ونفذوا ما أمركم به أو نهاكم عنه ، فإن الإيمان الحق به - عز وجل - يستزلم منكم ذلك .

فالمقصود بهذا التذييل ، الحض على الوفاء بما أمر الله - تعالى - به ، بدون تهاون أو تقاعس .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِن فَاتَكُمۡ شَيۡءٞ مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ إِلَى ٱلۡكُفَّارِ فَعَاقَبۡتُمۡ فَـَٔاتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتۡ أَزۡوَٰجُهُم مِّثۡلَ مَآ أَنفَقُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ} (11)

{ وإن فاتكم }إن سبقكم وانفلت منكم { شيء من أزواجكم }أحد من أزواجكم وقد قرئ به وإيقاع شيء موقعه للتحقير والمبالغة في التعميم أو شيء من مهورهن ، { إلى الكفار فعاقبتم }فجاءت أي نوبتكم من أداء المهر شبه الحكم بأداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره ، { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا }من مهر المهاجرة ولا تؤتوه زوجها الكافر روي أنه لما نزلت الآية المتقدمة أبى المشركون أن يؤدوا مهر الكوافر فنزلت ، وقيل معناه إن فاتكم فأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة فآتوا بدل الفائت من الغنيمة ، { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون }فإن الإيمان به يقتضي التقوى منه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِن فَاتَكُمۡ شَيۡءٞ مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ إِلَى ٱلۡكُفَّارِ فَعَاقَبۡتُمۡ فَـَٔاتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتۡ أَزۡوَٰجُهُم مِّثۡلَ مَآ أَنفَقُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ} (11)

وأمر تعالى أن يسأل أيضاً الكافرون أن يدفعوا الصدقات التي أعطاها المؤمنون لمن فر من أزواجهم إلى الكفار ، وقرر الحكم بذلك على الجميع ، فروي عن ابن شهاب أن قريشاً قالت : نحن لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقاً فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى : { وإن فاتكم } الآية ، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يدفعوا إلى من فرت زوجته ففاتت بنفسها إلى الكفار صداقه الذي أنفق ، قال ابن عباس في كتاب الثعلبي : خمس نسوة من نساء المهاجرين رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين : أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد{[11053]} ، وفاطمة بنت أبي أمية أخت أم سلمة ، كانت تحت عمر بن الخطاب ، وعبدة بنت عبد العزى كانت تحت هشام بن العاص ، وأم كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر ، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة{[11054]} .

واختلف الناس في أي مال يدفع إليه الصداق ، فقال محمد بن شهاب الزهري : يدفع إليه من الصدقات التي كانت تدفع إلى الكفار بسبب من هاجر من أزواجهم ، وأزال الله تعالى دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه حسبما ذكرناه ، وهذا قول صحيح يقتضيه قوله تعالى : { فعاقبتم } وسنبين ذلك في تفسير اللفظة إن شاء الله تعالى . وقال مجاهد وقتادة : يدفع إليه من غنائم المغازي ، وقال هؤلاء التعقيب بالغزو والمغنم وتأولوا اللفظة بهذا المعنى ، وقال الزهري أيضاً : يدفع إليه من اي وجوه الفيء أمكن ، والعاقبة في هذه الآية ، ليست بمعنى مجازاة السوء بالسوء لكنها بمعنى فصرتم منهم إلى الحال التي صاروا إليها منكم وذلك بأن يفوت إليكم شيء من أزواجكم ، وهكذا هو التعقيب على الجمل والدواب أن يركب هذا عقبة ويركب هذا عقبة .

وقرأ ابن مسعود : «وإن فاتكم أحد من أزواجكم » ويقال عاقب الرجل صاحبه في كذا ، أي جاء فعل كل واحد منهما بعقب فعل الآخر ، ومنه قول الشاعر [ الكميت ] :

وحاردت النكد الجلاد ولم يكن . . . لعقبة قدر المستعيرين معقب{[11055]} .

ويقال : «عقّب » بشد القاف ، أي أصاب عقبى ، والتعقيب : غزو إثر غزو ، ويقال «عقَب » بتخفيفها ، ويقال : «عقِب » بكسرها كل ذلك بمعنى : يقرب بعضه من بعض وبجميع ذلك قرئ ، قرأ جمهور الناس : «عاقبتم » وقرأ الأعرج ومجاهد والزهري وعكرمة وحميد : «عقَّبتم » بالتشديد في القاف ، وقرأ الأعرج أيضاً وأبو حيوة والزهري أيضاً : «عقَبتم » بفتح القاف خفيفة ، وقرأ النخعي والزهري أيضاً : «عقِبتم » بكسر القاف حكمها ، ثم ندب تعالى إلى التقوى وأوجبها ، وذكر العلة التي بها يجب التقوى وهي الإيمان بالله والتصديق بوحدانيته وصفاته وعقابه وإنعامه .


[11053]:هو عياض بن شداد بن غنم بن زهير بن أبي شداد القرشي الفهري، شهد المواقع كلها، وكان يُسمى: زاد الراكب لأنه كان يؤثر رفقته بزاده.
[11054]:لم يذكر هنا غير أربع، والذي في كتاب الثعلبي أنهن ست نسوة، ويضاف إلى ما هنا: بروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان، وشهبة بنت غيلان، ولم يذكر اسم زوجها.
[11055]:هذا البيت للكميت، وهو في الديوان والتاج واللسان، وهو في وصف الإبل، ومعنى حاردت: انقطعت ألبانها أو قلت، يقال: ناقة مُحارد ومحاردة: بمعنى: شديدة الحِراد، والنُّكد: التي ماتت أولادها، والجلاد: الغِلاظ الجلود، القصار الشعور، الشداد النصوص، وهذا النوع من الإبل أقوى وأصبر وأقل لبنا من نوع آخر أغرز لبنا وأضعف ويقال له: الخور، والعُقبة من التعقيب، وهو أن يأتي شيء بعد شيء، يقال: عقب هذا هذا إذا جاء بعده، ويقال أيضا: أعقب هذا هذا، فهو عقبة له، والبيت شاهد على أن أعقب بمعنى عقب، فالشاعر يقول: مُعقب، والقدر: إناء يُطبخ فيه- وهي مؤنثة وقد تذكر-، يقول: لقد جفت ألبان الإبل حتى لم يبق شيء يأخذه أحد من المستعيرين بعد آخرهم، أي لم يبق بعد الآخر آخر ثان.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِن فَاتَكُمۡ شَيۡءٞ مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ إِلَى ٱلۡكُفَّارِ فَعَاقَبۡتُمۡ فَـَٔاتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتۡ أَزۡوَٰجُهُم مِّثۡلَ مَآ أَنفَقُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ} (11)

عطف على جملة { واسألوا ما أنفقتم } [ الممتحنة : 10 ] فإنها لما ترتب على نزولها إِباء المشركين من أن يردّوا إلى أزواج النساء اللاءِ بقين على الكفر بمكة واللاء فَرَرْنَ من المدينة والتحَقْنَ بأهل الكفر بمكة مهورَهم التي كانوا أَعطوها نساءهم ، عقبت بهذه الآية لتشريع ردّ تلك المهور من أموال المسلمين فيما بينهم .

روي أن المسلمين كتبوا إلى المشركين يعلمونهم بما تضمنته هذه الآية من الترادِّ بين الفريقين في قوله تعال : { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا } [ الممتحنة : 10 ] .

فامتنع المشركون من دفع مهور النساء اللاتي ذهبت إليهم فنزل قوله تعالى : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار } الآية .

وأصل الفوت : المفارقة والمباعدة ، والتفاوت : المتباعد . والفوت هنا مستعار لضياع الحق كقول رُويشد بن كثير الطائي أو عَمرو بن معد يكرب :

إن تُذنبوا ثم تأتِيني بقيتكم *** فمَا عَليَّ بذنب منكمُ فَوْت

أي فلا ضياع عليّ بما أذنبتم ، أي فإنا كمن لم يضعْ له حق .

والمعنى : إن فرت بعض أزواجكم ولحقت بالكفار وحصل التعاقب بينكم وبين الكفار فعقَّبتم على أزواج الكفار وعقَّب الكفار على أزواجكم وأبى الكفار من دفع مهور بعض النساء اللاء ذهبن إليهم ، فادفعوا أنتم لمن حرمه الكفار مهر امرأته ، أي ما هو حقه ، واحجزوا ذلك عن الكفار . وهذا يقتضي أنه إن أعطي جميع المؤمنين مهور مَن فاتهم من نسائهم وبقي للمشركين فضل يرده المسلمون إلى الكفار . هذا تفسير الزهري في رواية يونس عنه وهو أظهر ما فسرت به الآية .

وعن ابن عباس والجمهور : الذين فاتهم أزواجهم إلى الكفار يعطون مهور نسائهم من مغانم المسلمين . وهذا يقتضي أن تكون الآية منسوخة بآية سورة [ [ براءة : 7 ] { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله } .

والوجه أن لا يُصار إلى الإِعطاء من الغنائم إلا إذا لم يكن في ذمم المسلمين شيء من مهور نساء المشركين اللاءِ أتيْنَ إلى بلاد الإِسلام وصرن أزواجاً للمسلمين .

والكلام إيجاز حذف شديد دل عليه مجموع الألفاظ وموضع الكلام عقب قوله تعالى : وإن فاتكم شيء من أزواجكم } .

ولفظ { شيء } هنا مراد به : بعض { من أزواجكم } بيان ل { شيء } ، وأريد ب { شيء } تحقير الزوجات اللاءِ أبَيْن الإِسلام ، فإن المراد قد فاتت ذاتها عن زوجها فلا انتفاع له بها .

وضمّن فعل { فاتكم } معنى الفرار فعدّي بحرف { إلى } أي فررن إلى الكفار .

و« عاقبتم » صيغة تفاعل من العُقْبة بضم العين وسكون القاف وهي النوبة ، أي مصير أحد إلى حال كان فيها غيرُه . وأصلها في ركوب الرواحل والدوابّ أن يركب أحد عُقْبَة وآخر عَقبة شبه ما حكم به على الفريقين من أداء هؤلاء مهورَ نساء أولئك في بعض الأحوال ومن أداء أولئك مهور نساء هؤلاء في أحوال أخرى مماثلة بمركوب يتعاقبون فيه .

ففعل { ذهبت } مجاز مثل فعل { فاتكم } في معنى عدم القدرة عليهن .

والخطاب في قوله : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم } وفي قوله : { فآتوا } خطاب للمؤمنين والذين ذهبت أزواجهم هم أيضاً من المؤمنين .

والمعنى : فليعْط المؤمنون لإخوانهم الذين ذهبت أزواجهم ما يماثل ما كانوا أعطوه من المهور لزوجاتهم .

والذي يتولى الإِعطاء هنا هو كما قررنا في قوله : { آتوهم ما أنفقوا } [ الممتحنة : 10 ] أي يُدفع ذلك من أموال المسلمين كالغنائم والأخماس ونحوها كما بينته السنة : أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ، وعياض بن أبي شداد الفهري ، وشماس بن عثمان ، وهشام بن العاص ، مهور نسائهم اللاحقات بالمشركين من الغنائم .

وأفاد لفظ { مثل } أن يكون المهرُ المعطى مساوِياً لما كان أعطاه زوج المرأة من قبلُ لا نقص فيه .

وأشارت الآية إلى نسوة من نساء المهاجرين لم يسلمْن وهن ثمان نساء : أمّ الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد ، وفاطمة بنت أبي أمية ويقال : قُريبة وهي أخت أم سلمة كانت تحت عُمر بن الخطاب ، وأمّ كلثوم بنت جرول كانت تحت عُمَر ، وبَروع ( بفتح الباء على الأصح والمحدثون يكسرونها ) بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان وشَهبة بنت غيلان وعبدةُ بنتُ عبد العزى كانت تحت هشام بن العاص ، وقيل تحت عَمرو بن عبد وهندٌ بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص ، وأروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كانت تحت طلحة بن عبيد الله ، وكان قد هاجر وبقيت زوجه مشركة بمكة فلما نزلت الآية طلقها طلحة بن عبيد الله .

وقد تقدم أن عمر طلق زوجتيه قُريبَة وأمَّ جرول ، فلم تكونا ممن لحقن بالمشركين ، وإنما بقيتا بمكة إلى أن طلقهما عمر . وأحسب أن جميعهن إنما طلقهن أزواجهن عند نزول قوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } [ الممتحنة : 10 ] .

والتذييل بقوله : { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } تحريض للمسلمين على الوفاء بما أمرهم الله وأن لا يصدّهم عن الوفاء ببعضه معاملة المشركين لهم بالجور وقلة النصفة ، فأمر بأن يؤدي المسلمون لإِخوانهم مهور النساء اللاء فارقوهن ولم يرض المشركون بإعطائهم مهورهن ولذلك اتبع اسم الجلالة بوصف { الذي أنتم به مؤمنون } لأن الإِيمان يبعث على التقوى والمشركون لمّا لم يؤمنوا بما أمر الله انتفى منهم وازع الإِنصاف ، أي فلا تكونوا مثلهم .

والجملة الاسمية في الصلة للدلالة على ثبات إيمانهم .