اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِن فَاتَكُمۡ شَيۡءٞ مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ إِلَى ٱلۡكُفَّارِ فَعَاقَبۡتُمۡ فَـَٔاتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتۡ أَزۡوَٰجُهُم مِّثۡلَ مَآ أَنفَقُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ} (11)

قوله : { مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } .

يجوز أن يتعلق ب «فاتكم » أي : من جهة أزواجكم ، يراد بالشيء المهر الذي غرمه الزوج ، كما تقدم .

ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، على أنه صفة ل «شيء » .

ثم يجوز في «شيء » ، أن يراد به : المهر ، ولكن على هذا ، فلا بد من حذف مضاف ، أي : من مهور أزواجكم ليتطابق الموصوف وصفته .

ويجوز أن يراد ب «شيء » [ النساء ، أي : بشيء من النساء ، أي : نوع وصف منهن ، وهو ظاهر وصفه بقوله : { مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } .

وقد صرَّح الزمخشري بذلك ، فإنَّه قال : وإن سبقكم وانفلت منكم شيء من أزواجكم أحد منهن إلى الكُفَّار ، وفي قراء أبي مسعود : «أحد » .

فهذا تصريح بأن المراد ب «شيء » : النساء الفارات ]{[56295]} ، ثم قال{[56296]} : فإن قلت : هل لإيقاع شيء في هذا الموضع فائدة ؟ قلت : نعم ، الفائدة فيه ألا يغادر شيء من هذا الجنس ، وإن قلَّ وحقر غير معوض عنه ، تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه ، ولولا نصّه على أنَّ المراد ب «شيء » : أحد ، كما تقدم ، لكان قوله : «إلا أن يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر » ، ظاهراً في أن المراد ب «شيء » : المهر ؛ لأنه يوصف بالقلة والحقارة وصفاً سائغاً وقوله : «تغليظاً » فيه نظر ؛ لأن المسلمين ليس لهم تسبب في فرار النساء إلى الكفار ، حتى يغلظ عليهم

الحكم بذلك .

وعدي : «فات » ب «إلى » ؛ لأنه ضمن معنى الفرار والذهاب والسبق ونحو ذلك{[56297]} .

قوله : { فَعَاقَبْتُمْ } ، عطف على «فاتكم » .

وقرأ العامة : «عاقبتم » . وفيه وجهان{[56298]} :

أحدهما : أنه من العقوبة ، قال الزجاج{[56299]} : «فعَاقَبْتُم » فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم .

والثاني : أنَّه من العُقْبة ، وهي التوبة ، شبه ما حكم به على المسلمين ، والكافرين من أداء هؤلاء مهور النساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى ، بأمر يتعاقبون فيه ، كما يتعاقب في الركوب وغيره ، ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر . انتهى .

وقرأ مجاهد والأعرج والزهري وأبو حيوة وعكرمة{[56300]} وحميد : بتشديد القاف دون ألف .

ففسرها الزمخشري على أصله يعقبه : إذا قفاه ؛ لأن كل واحد من المتعاقبين ، يقفي صاحبه ، وكذلك عقبتم - بالتخفيف - يقال : عقبه يعقبه انتهى .

والذي قرأه بالتخفيف وفتح القاف : النخعي ، وابن وثاب ، والزهري ، والأعرج أيضاً . وبالتخفيف{[56301]} ، وكسر القاف : مسروق ، والزهري ، والنخعي أيضاً .

وعن مجاهد{[56302]} : أعقبتم .

قال الزمخشري : معناه : دخلتم في العقبة{[56303]} .

قال البغوي : «معناه : أي : صنعتم بهم ، كما صنعوا بكم »{[56304]} .

وفسَّر الزجاج القراءات الباقية : فكانت العقبى : أي : كانت الغلبة لكم حتى غنمتم{[56305]} .

والظَّاهر أنه كما قال الزمخشريُّ : من المعاقبة بمعنى المناوبة .

يقال : عاقب الرجل صاحبه في كذا ، أي : جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر ، ويقال : أعقب - أيضاً . وأنشد بعضهم رحمه الله : [ الطويل ]

4761 - وحَارَدَتِ النُّكْدُ الجِلادُ ولَمْ يَكُنْ***لِعُقبَةِ قِدْرِ المُستعيرِينَ مُعْقِبُ{[56306]}

قال البغوي{[56307]} : «وكلها لغات بمعنى واحد ، يقال : عَاقَبَ وأعقَبَ وتعقَّب وتعَاقَبَ واعتقَبَ ، إذا غنم » .

وقيل : التعقيب : غزوة بعد غزوة{[56308]} .

فصل :

روي أن المسلمين قالوا : رضينا بما حكم الله ، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا{[56309]} ، فنزل قوله تعالى : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَا أَنفَقُواْ } .

روى الزُّهري عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها وعنهم - قالت : حكم الله عز وجل بينهم ، فقال - جل ثناؤه - : { وَاسْأَلُواْ مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَا أَنفَقُواْ } ، فكتب إليهم المسلمون : قد حكم الله - عز وجل - بيننا بأنه إذا جاءتكم امرأة منا ، أن توجهوا إلينا بصداقها ، وإن جاءتنا امرأة منكم ، وجهنا إليكم بصداقها ، فكتبوا إليهم : أما نحن ، فلا نعلم لكم عندنا شيئاً ، فإن كان لنا عندكم شيء ، فوجهوا به ، فأنزل الله تعالى : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَا أَنفَقُواْ }{[56310]} . الآية .

وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي : بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة ، يرد بعضهم على بعض{[56311]} .

قال الزهريُّ : ولولا العهد ، لأمسك النساء ، ولم يرد إليهم صداقاً{[56312]} .

وقال قتادة ومجاهدٌ : إنَّما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة ، وقالا : هي فيما بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد ، وقالا : ومعنى { فَعَاقَبْتُمْ } فاقتصصتم{[56313]} .

{ فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } يعني : الصفات ، فهي عامة في جميع الكفار . وقيل : فعاقبتم المرتدة بالقتل .

وقال قتادة أيضاً : وإن فاتكم شيء من أزواجكم ، إلى الكفار ، الذين ليس بينكم وبينهم عهد ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ، ثم نسخ هذا في سورة براءة{[56314]} .

وقال الزهريُّ : انقطع هذا يوم الفتح . وقال سفيان الثوري : لا يعمل به اليوم . وقال قوم : هو ثابت الحكم الآن أيضاً . حكاه القشيري .

فصل :

قال القرطبي{[56315]} : الآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ، ارتدت وتركت زوجها عياض بن غنم الفهري ، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها ، ثم عادت إلى الإسلام .

وقال البغويُّ{[56316]} : روي عن ابن عبَّاسٍ قال : لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرات ، ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان ، وكانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة ، كانت تحت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت ، وبروعُ بنت عقبة ، وكانت تحت شماس بن عثمان ، وغرة بنت عبد العزيز بن نضلة ، وزوجها عمرو بن عبد ودّ ، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل ، وأم كلثوم بنت جرول ، وكانت تحت عمر بن الخطاب ، فلما رجعن إلى الإسلام ، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة .

فصل في رد مهر من أسلمت :

اختلفوا في رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن ، هل كان واجباً ، أو مندوباً ؟ وأصله أن الصلح هل كان قد وقع على رد النساء ؟ على قولين :

أحدهما : أنه وقع على رد الرجال ، والنساء جميعاً ، لما روي من قولهم : لا يأتيك منا أحد ، إلا رددته ، ثم صار الحكم في رد النساء منسوخاً بقوله : { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } ، فعلى هذا كان رد المهر واجباً .

والثاني : أن الصلح لم يقع على ردّ النساء ؛ لأنه روي أنه لا يأتيك منَّا رجل ، وإن كان على دينك إلا رددته ، وذلك ؛ لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها ، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت ، وأكرهت عليها ؛ لضعف قلبها ، وقلة هدايتها إلى المخرج منه ، بإظهار كلمة الكفر مع التورية ، وإضمار الإيمان ، ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته ، وهدايته إلى التقية ، فعلى هذا كان رد المهر مندوباً .

واختلفوا في أنه يجب به العمل اليوم في رد المال{[56317]} إذا اشترط في معاقدة الكفار فقال عطاء ومجاهد وقتادة : لا يجب ، وزعموا أن الآية منسوخة{[56318]} .

وقيل : هي غير منسوخة ، ويرد إليهم ما أنفقوا .

فصل في معنى الآية :

معنى الآية{[56319]} : إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل «مكة » ، وليس بينكم وبينهم عهد ، ولها زوج مسلم قبلكم ، فغنمتم فأعطوا هذا الزَّوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس{[56320]} ، [ وهو قول ابن عبَّاس رضي الله عنهما ]{[56321]} . وقال الزهري : يعطى من الفيء ، وعنه : يعطى من صداق من لحق منا .

وقيل : إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم ، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم ، فخذوا ذلك منهم { واتقوا الله } ، أي : احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به .


[56295]:سقط من أ.
[56296]:ينظر: الكشاف 4/519، والدر المصون 6/307.
[56297]:الدر المصون 6/307.
[56298]:ينظر السابق.
[56299]:ينظر: معاني القرآن 5/160.
[56300]:ينظر: الكشاف 6/519، والمحرر الوجيز 5/298، والبحر المحيط 8/255، والدر المصون 6/307.
[56301]:ينظر السابق.
[56302]:السابق.
[56303]:ينظر: الكشاف 4/519.
[56304]:ينظر: معالم التنزيل 4/334.
[56305]:ينظر معاني القرآن للزجاج 5/160.
[56306]:قائله الكميت بن زيد الأسدي. ينظر: الأمالي للقالي 1/91، وسمط اللالىء 1/34، واللسان (عقب) و(نكد)، والكميت وقصائده الهاشميات ص126، والبحر 8/255 والدر المصون 6/307.
[56307]:ينظر: معالم التنزيل 4/334.
[56308]:ينظر: تفسير الرازي 29/266.
[56309]:ينظر القرطبي 18/46.
[56310]:ينظر القرطبي في "تفسيره" (18/44).
[56311]:ينظر المصدر السابق.
[56312]:ينظر المصدر السابق.
[56313]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/71-72) عن مجاهد.
[56314]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/46).
[56315]:ينظر: القرطبي (18/47).
[56316]:ينظر: معالم التنزيل 4/334.
[56317]:في أ: المال الذي.
[56318]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (9/311) عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن هذه الآية تعلمها قال: لا. وعزاه إلى أبي داود في "ناسخه" وابن المنذر.
[56319]:في أ: قال ابن عباس رضي الله عنهما.
[56320]:ينظر: القرطبي 18/46.
[56321]:سقط من أ.