قوله : { مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } .
يجوز أن يتعلق ب «فاتكم » أي : من جهة أزواجكم ، يراد بالشيء المهر الذي غرمه الزوج ، كما تقدم .
ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، على أنه صفة ل «شيء » .
ثم يجوز في «شيء » ، أن يراد به : المهر ، ولكن على هذا ، فلا بد من حذف مضاف ، أي : من مهور أزواجكم ليتطابق الموصوف وصفته .
ويجوز أن يراد ب «شيء » [ النساء ، أي : بشيء من النساء ، أي : نوع وصف منهن ، وهو ظاهر وصفه بقوله : { مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } .
وقد صرَّح الزمخشري بذلك ، فإنَّه قال : وإن سبقكم وانفلت منكم شيء من أزواجكم أحد منهن إلى الكُفَّار ، وفي قراء أبي مسعود : «أحد » .
فهذا تصريح بأن المراد ب «شيء » : النساء الفارات ]{[56295]} ، ثم قال{[56296]} : فإن قلت : هل لإيقاع شيء في هذا الموضع فائدة ؟ قلت : نعم ، الفائدة فيه ألا يغادر شيء من هذا الجنس ، وإن قلَّ وحقر غير معوض عنه ، تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه ، ولولا نصّه على أنَّ المراد ب «شيء » : أحد ، كما تقدم ، لكان قوله : «إلا أن يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر » ، ظاهراً في أن المراد ب «شيء » : المهر ؛ لأنه يوصف بالقلة والحقارة وصفاً سائغاً وقوله : «تغليظاً » فيه نظر ؛ لأن المسلمين ليس لهم تسبب في فرار النساء إلى الكفار ، حتى يغلظ عليهم
وعدي : «فات » ب «إلى » ؛ لأنه ضمن معنى الفرار والذهاب والسبق ونحو ذلك{[56297]} .
قوله : { فَعَاقَبْتُمْ } ، عطف على «فاتكم » .
وقرأ العامة : «عاقبتم » . وفيه وجهان{[56298]} :
أحدهما : أنه من العقوبة ، قال الزجاج{[56299]} : «فعَاقَبْتُم » فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم .
والثاني : أنَّه من العُقْبة ، وهي التوبة ، شبه ما حكم به على المسلمين ، والكافرين من أداء هؤلاء مهور النساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى ، بأمر يتعاقبون فيه ، كما يتعاقب في الركوب وغيره ، ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر . انتهى .
وقرأ مجاهد والأعرج والزهري وأبو حيوة وعكرمة{[56300]} وحميد : بتشديد القاف دون ألف .
ففسرها الزمخشري على أصله يعقبه : إذا قفاه ؛ لأن كل واحد من المتعاقبين ، يقفي صاحبه ، وكذلك عقبتم - بالتخفيف - يقال : عقبه يعقبه انتهى .
والذي قرأه بالتخفيف وفتح القاف : النخعي ، وابن وثاب ، والزهري ، والأعرج أيضاً . وبالتخفيف{[56301]} ، وكسر القاف : مسروق ، والزهري ، والنخعي أيضاً .
وعن مجاهد{[56302]} : أعقبتم .
قال الزمخشري : معناه : دخلتم في العقبة{[56303]} .
قال البغوي : «معناه : أي : صنعتم بهم ، كما صنعوا بكم »{[56304]} .
وفسَّر الزجاج القراءات الباقية : فكانت العقبى : أي : كانت الغلبة لكم حتى غنمتم{[56305]} .
والظَّاهر أنه كما قال الزمخشريُّ : من المعاقبة بمعنى المناوبة .
يقال : عاقب الرجل صاحبه في كذا ، أي : جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر ، ويقال : أعقب - أيضاً . وأنشد بعضهم رحمه الله : [ الطويل ]
4761 - وحَارَدَتِ النُّكْدُ الجِلادُ ولَمْ يَكُنْ***لِعُقبَةِ قِدْرِ المُستعيرِينَ مُعْقِبُ{[56306]}
قال البغوي{[56307]} : «وكلها لغات بمعنى واحد ، يقال : عَاقَبَ وأعقَبَ وتعقَّب وتعَاقَبَ واعتقَبَ ، إذا غنم » .
وقيل : التعقيب : غزوة بعد غزوة{[56308]} .
روي أن المسلمين قالوا : رضينا بما حكم الله ، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا{[56309]} ، فنزل قوله تعالى : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَا أَنفَقُواْ } .
روى الزُّهري عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها وعنهم - قالت : حكم الله عز وجل بينهم ، فقال - جل ثناؤه - : { وَاسْأَلُواْ مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَا أَنفَقُواْ } ، فكتب إليهم المسلمون : قد حكم الله - عز وجل - بيننا بأنه إذا جاءتكم امرأة منا ، أن توجهوا إلينا بصداقها ، وإن جاءتنا امرأة منكم ، وجهنا إليكم بصداقها ، فكتبوا إليهم : أما نحن ، فلا نعلم لكم عندنا شيئاً ، فإن كان لنا عندكم شيء ، فوجهوا به ، فأنزل الله تعالى : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَا أَنفَقُواْ }{[56310]} . الآية .
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي : بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة ، يرد بعضهم على بعض{[56311]} .
قال الزهريُّ : ولولا العهد ، لأمسك النساء ، ولم يرد إليهم صداقاً{[56312]} .
وقال قتادة ومجاهدٌ : إنَّما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة ، وقالا : هي فيما بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد ، وقالا : ومعنى { فَعَاقَبْتُمْ } فاقتصصتم{[56313]} .
{ فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } يعني : الصفات ، فهي عامة في جميع الكفار . وقيل : فعاقبتم المرتدة بالقتل .
وقال قتادة أيضاً : وإن فاتكم شيء من أزواجكم ، إلى الكفار ، الذين ليس بينكم وبينهم عهد ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ، ثم نسخ هذا في سورة براءة{[56314]} .
وقال الزهريُّ : انقطع هذا يوم الفتح . وقال سفيان الثوري : لا يعمل به اليوم . وقال قوم : هو ثابت الحكم الآن أيضاً . حكاه القشيري .
قال القرطبي{[56315]} : الآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ، ارتدت وتركت زوجها عياض بن غنم الفهري ، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها ، ثم عادت إلى الإسلام .
وقال البغويُّ{[56316]} : روي عن ابن عبَّاسٍ قال : لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرات ، ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان ، وكانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة ، كانت تحت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت ، وبروعُ بنت عقبة ، وكانت تحت شماس بن عثمان ، وغرة بنت عبد العزيز بن نضلة ، وزوجها عمرو بن عبد ودّ ، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل ، وأم كلثوم بنت جرول ، وكانت تحت عمر بن الخطاب ، فلما رجعن إلى الإسلام ، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة .
اختلفوا في رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن ، هل كان واجباً ، أو مندوباً ؟ وأصله أن الصلح هل كان قد وقع على رد النساء ؟ على قولين :
أحدهما : أنه وقع على رد الرجال ، والنساء جميعاً ، لما روي من قولهم : لا يأتيك منا أحد ، إلا رددته ، ثم صار الحكم في رد النساء منسوخاً بقوله : { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } ، فعلى هذا كان رد المهر واجباً .
والثاني : أن الصلح لم يقع على ردّ النساء ؛ لأنه روي أنه لا يأتيك منَّا رجل ، وإن كان على دينك إلا رددته ، وذلك ؛ لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها ، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت ، وأكرهت عليها ؛ لضعف قلبها ، وقلة هدايتها إلى المخرج منه ، بإظهار كلمة الكفر مع التورية ، وإضمار الإيمان ، ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته ، وهدايته إلى التقية ، فعلى هذا كان رد المهر مندوباً .
واختلفوا في أنه يجب به العمل اليوم في رد المال{[56317]} إذا اشترط في معاقدة الكفار فقال عطاء ومجاهد وقتادة : لا يجب ، وزعموا أن الآية منسوخة{[56318]} .
وقيل : هي غير منسوخة ، ويرد إليهم ما أنفقوا .
معنى الآية{[56319]} : إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل «مكة » ، وليس بينكم وبينهم عهد ، ولها زوج مسلم قبلكم ، فغنمتم فأعطوا هذا الزَّوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس{[56320]} ، [ وهو قول ابن عبَّاس رضي الله عنهما ]{[56321]} . وقال الزهري : يعطى من الفيء ، وعنه : يعطى من صداق من لحق منا .
وقيل : إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم ، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم ، فخذوا ذلك منهم { واتقوا الله } ، أي : احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.