السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَإِن فَاتَكُمۡ شَيۡءٞ مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ إِلَى ٱلۡكُفَّارِ فَعَاقَبۡتُمۡ فَـَٔاتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتۡ أَزۡوَٰجُهُم مِّثۡلَ مَآ أَنفَقُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ} (11)

روي أن المسلمين قالوا : رضينا بما حكم الله تعالى ، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزل قوله تعالى : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم } أي : واحدة فأكثر منهن ، أو شيء من مهورهن بالذهاب { إلى الكفار } مرتدات { فعاقبتم } فغزوتم وغنمتم من أموال الكفار فجاءت نوبة ظفركم بأداء المهر إلى إخوانكم طاعة وعدلاً عقب نوبتهم التي اقتطعوا فيها ما أنفقتم ظلماً { فآتوا } أي : فاحضروا وأعطوا من مهر المهاجرة { الذين ذهبت أزواجهم } أي : منكم من الغنيمة ، { مثل ما أنفقوا } أي : لفواته عليهم من جهة الكفار . روى الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت : حكم الله تعالى بينهم فقال جلّ ثناؤه { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا } فكتب إليهم المسلمون قد حكم الله تعالى بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منا أن توجهوا إلينا صداقها ، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها ، فكتبوا أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئاً فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به فأنزل الله تعالى : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم } الآية . وقال ابن عباس : في قوله تعالى : { ذلكم حكم الله } أي : بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يرد بعضهم على بعض . قال الزهري : ولولا العهد لأمسك النساء ولم يرد عليهم صداقاً ، وقال قتادة ومجاهد : إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة ، وقالا : هي فيمن بيننا وبينه عهد ، وقالا : فمعنى { فعاقبتم } فاقتصصتم { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } أي : من المهور . وقال ابن عباس : معنى الآية إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة ، وليس بينكم وبينهم عهد ، ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس . وقال الزهري : يعطي من مال الفيء ، وعنه يعطى من صداق من لحق بها .

تنبيه : محصل مذهب الشافعي في هذه الآية : أنّ الهدنة لو عقدت بشرط أن يردوا من جاءهم منا مرتداً صح ، ولزمهم الوفاء به سواء أكان رجلاً أو امرأة ، حرّاً أو رقيقاً ، فإن امتنعوا من ردّه فناقضون للعهد لمخالفتهم الشرط ، أو عقدت على أن لا يردوه جاز ، ولو كان المرتدّ امرأة فلا يلزمهم ردّه لأنه صلى الله عليه وسلم شرط ذلك في مهادنة قريش ، حيث قال لسهل بن عمرو وقد جاء رسولاً منهم «من جاءنا منكم رددناه ، ومن جاءكم منا فسحقاً سحقاً » ومثله ما لو أطلق العقد كما فهم بالأولى ، ويغرمون فيهما مهر المرتدّة . فإن قيل : لم غرموا مهر المرتدّة ، ولم نغرم نحن مهر المسلمة على ما تقدم من الخلاف ؟ أجيب : بأنهم قد فوتوا عليه الاستتابة الواجبة علينا ، وأيضاً المانع جاء من جهتها ، والزوج غير متمكن منها بخلاف المسلمة الزوج متمكن منها بالإسلام ، وكذا يغرمون قيمة رقيق ارتدّ دون الحرّ ، فإن عاد الرقيق المرتد إلينا بعد أخذنا قيمته رددناها عليهم .

بخلاف نظيره في المهر لأنّ الرقيق بدفع القيمة يصير ملكاً لهم ، والنساء لا يصرن زوجات .

فإن قيل : كونه يصير ملكاً لهم مبنى على جواز بيع المرتد للكافر ، والصحيح خلافه .

أجيب : بأنّ هذا ليس مبنياً عليه لأن هذا ليس بيعاً حقيقة فاغتفر ذلك أجل المصلحة ، وإن شرطنا عدم الرد .

فإن قيل : هل يغرم الإمام لزوج المرتدة ما أنفق من صداقها ، لأنا بعقد الهدنة حلنا بينه وبينها ، ولولاه لقاتلناهم حتى يردوها ؟ .

أجيب : بأنّ هذا ينبني على أنّ الإمام هل يغرم لزوج المسلمة المهاجرة ما أنفق ، وقد تقدم الكلام على ذلك .

فائدة : روي عن ابن عباس أنه قال : لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة أم الحكم بنت أبي سفيان ، وكانت تحت شداد بن عياض الفهري ، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب ، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وعزة بنت عبد العزيز بن نضلة ، وزوجها عمرو بن عبد ود ، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل ، وأمّ كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر بن الخطاب رجعن عن الإسلام ، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهنّ مهور نسائهم من الغنيمة .

ولما كان التحرّي في مثل ذلك عسراً فإنّ المهور تتفاوت تارة وتتساوى أخرى قال تعالى : { واتقوا } أي : في الإعطاء والمنع وغير ذلك { الله } الذي له صفات الكمال ، وقد أمركم بالتخلق بصفاته على قدر ما تطيقون { الذي أنتم به مؤمنون } أي : متمكنون في رتبة الإيمان .