الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَإِن فَاتَكُمۡ شَيۡءٞ مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ إِلَى ٱلۡكُفَّارِ فَعَاقَبۡتُمۡ فَـَٔاتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتۡ أَزۡوَٰجُهُم مِّثۡلَ مَآ أَنفَقُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ} (11)

وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَاءَكُمُ المؤمنات مهاجرات } الآيةُ نزلَتْ إثرَ صلح الحديبية ؛ وذلك أَنَّ ذلك الصلحَ تَضَمَّنَ أَنَّ مَنْ أتى مُسْلِماً من أهل مَكَّةَ ، رُدَّ إليهم ، سَواءٌ كان رجلاً أو امرأةً ، فَنَقَضَ اللَّهُ تعالى من ذلك أَمْرَ النساء بهذه الآية ، وحكم بأَنَّ المهاجرة المؤمنةَ لا تُرَدُّ إلى دار الكُفْرِ ، و{ فامتحنوهن } : معناه : جربوهن واستخبروا حقيقةَ ما عندهنَّ .

وقوله تعالى : { الله أَعْلَمُ بإيمانهن } إشارة إلى الاسترابة ببعضهنَّ .

( ت ) : وقوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات } الآية : العلم هنا : بمعنى الظن ، وذكر اللَّه تعالى العِلَّةَ في أَلاَّ يُرَدَّ النساءُ إلى الكُفَّارِ وهو امتناعُ الوطء وحُرْمَتُهُ .

وقوله تعالى : { وَآتُوهُم مَّا أَنفَقْتُمْ } الآية : أمر بأَنْ يؤتى الكُفَّارُ مهورَ نسائهم التي هاجرنَ مؤمناتَ ، ورفع سبحانه الجناحَ في أَنْ يتزوجنَ بصدقاتٍ هي أجورهِن ، وأمر المسلمين بفراق الكافراتِ وأَلاَّ يتمسكوا بعصمهن ، فقيل : الآية في عابداتِ الأوثان ومَنْ لا يجوزُ نكاحُها ابتداءً ، وقيل : هي عامَّةٌ نُسِخَ منها نساءُ أهل الكتاب ، والعِصَمُ : جمع عِصْمَة ، وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية ، وأمر تعالى أَنْ يسأل أيضاً المؤمنون : ما أنفقوا ؟ فرُوِيَ عنِ ابن شهاب أَنَّ قريشاً لَمَّا بلغهم هذا الحكم ، قالوا : نحن لا نرضى بهذا الحكم ، ولا نَلْتَزِمُهُ ، ولا ندفع لأحد صَدَاقاً ، فنزلت بسبب ذلك هذه الآيةُ الأخرى : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيء مِّنْ أزواجكم إِلَى الكفار } الآية : فأمر اللَّه تعالى المؤمنين أنْ يدفعوا إلى مَن فَرَّتْ زوجتُه ففاتتْ بنفسها إلى الكُفَّارِ صَدَاقَهُ الذي أنفق ، واخْتُلِفَ : مِنْ أَيِّ مَالٍ يُدْفَعُ إليه الصَّدَاقُ ؟ فقال ابن شهاب : يُدْفَعُ إليه من الصدقات التي كانت تُدْفَعُ إلى الكفار بسبب مَنْ هاجر من أزواجهم ، وأزال اللَّه دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه ، قال ( ع ) : وهذا قول صحيح يقتضيه قوله : { فعاقبتم } وقال قتادة وغيره : يُدْفَعُ إليه من مغانم المغازي ، وقال هؤلاء : التعقيب هو الغزو والمغنم ، وقال ابن شهاب أيضاً : يدفع إليه مِنْ أيِّ وجوه الفيء أمكن ، والمعاقبة في هذه الآية ليستْ بمعنى مجازاة السوء بسوءٍ ، قال الثعلبي : وقرأ مجاهد : ( فَأَعْقَبْتُمْ ) وقال : المعنى : صنعتم بهم كما صنعوا بكم ، انتهى . قال ( ع ) : أي : وذلك بأنْ يفوت إليكم شيء من أزواجهم ، وهكذا هو التعاقب على الجَمَلِ والدَّوَابِّ أنْ يركبَ هذا عقبة وهذا عقبة ، ويقال : عاقب الرجلُ صاحِبَه في كذا ، أي : جاء فِعْلُ كُلِّ واحد منهما بعقب فعل الآخر ، وهذه الآيةُ كُلُّها قدِ ارتفع حكمها .