الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِن فَاتَكُمۡ شَيۡءٞ مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ إِلَى ٱلۡكُفَّارِ فَعَاقَبۡتُمۡ فَـَٔاتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتۡ أَزۡوَٰجُهُم مِّثۡلَ مَآ أَنفَقُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ أَنتُم بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ} (11)

قوله : { شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } : يجوز أَنْ يتعلَّقَ " مِنْ أزواجِكم " ب " فاتَكم " أي : مِنْ جهةِ أزواجِكم ، ويُراد بالشيء المَهْرُ الذي غُرِّمَه الزوجُ ؛ لأنَّ التفسيرَ وَرَدَ : أنَّ الرجلَ المسلمَ إذا فَرَّتْ زوجتُه إلى الكفار أَمَرَ اللَّهُ تعالى المؤمنين أَنْ يُعْطُوْه ما غُرِّمَه ، وفَعَله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع جمعٍ مِن الصحابة ، مذكورون في التفسير ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوف على أنَّه صفةٌ لشيء ، ثم يجوز في " شيء " أَنْ يُرادَ به ما تقدَّم من المُهورِ ، ولكن على هذا لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي : مِنْ مُهورِ أزواجِكم ليتطابقَ الموصوفُ وصفتُه ، ويجوزُ أَنْ يُرادَ بشيء النساءُ أي : شيءٌ من النساء أي : نوعٌ وصنفٌ منهنَّ ، وهو ظاهرٌ ، وصَفَه بقولِه : " مِن أزواجِكم " .

وقد صرَّح الزمخشري بذلك فإنه قال : " وإنْ سبقكم وانفَلَت منكم شيءٌ مِنْ أزواجكم ، أحدٌ منهن إلى الكفار وفي قراءة ابنِ مسعود " أحد " فهذا تصريحٌ بأنَّ المرادَ بشيء النساءُ الفارَّاتُ . ثم قال : " فإنْ قلتَ : هل لإِيقاع " شيء " في هذا الموقعِ فائدةٌ ؟ قلت : نعم الفائدةُ فيه : أن لا يُغادِرَ شيئاً من هذا الجنسِ ، وإنْ قَلَّ وحَقُر ، غيرَ مُعَوَّضٍ منه ، تَغْليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه " ولولا نَصُّهُ على أنَّ المرادَ ب " شيء " " أحد " كما تقدَّم لكَان قولُه : " أن لا يغادِرَ شيئاً من هذا الجنس وإن قَلَّ وحَقُر " ظاهراً في أنَّ المرادَ ب " شيء " المَهْرُ ؛ لأنه يُوْصَفُ بالقلة والحَقارة وصفاً شائعاً . وقوله : " تغليظاً وتشديداً " فيه نظرٌ ؛ لأنَّ المسلمين ليس [ لهم ] تَسَبُّبٌ في فِرار النساءِ إلى الكفار ، حتى يُغَلَّظَ عليهم الحكمُ بذلك . وعَدَّى " فات " ب " إلى " لأنه ضُمِّن معنى الفِرار والذَّهابِ والسَّبْقِ ونحوِ ذلك .

قوله : { فَعَاقَبْتُمْ } عطفٌ على " فاتَكم " . وقرأ العامَّةُ " عاقَبْتُم " وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّه من العقوبة . قال الزجاج : " فعاقبْتُم : فَأَصَبْتُموهم في القتالِ بعقوبةٍ حتى غَنِمْتُم " . الثاني : أنه من العُقْبة وهي النَّوْبَةُ ، شبَّه ما حَكَم به على المسلمين والكافرين مِنْ أداءِ هؤلاء مهورَ نساءِ أولئك تارةً ، وأولئك مهورَ نساءِ هؤلاء أخرى ، بأَمْرٍ يتعاقبون فيه كما يُتعاقَبُ في الرُّكوب وغيرِه ، ومعناه : فجاءَتْ عُقْبَتُكم مِنْ أداء المَهْر " انتهى .

وقرأ مجاهدٌ والأعرجُ والزهريُّ وأبو حيوةَ وعكرمةُ وحميدٌ بشَدِّ القاف ، دون ألفٍ ، ففَسَّرها الزمخشريُّ على أصلِه بعَقَّبه إذا قفَاه ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتعاقِبَيْن يَقْفي صاحبه وكذلك " عَقَبْتُم " بالتخفيف يقال : " عَقَبه يَعْقُبُه " انتهى . قلت : والذي قرأه بالتخفيف وفتحِ القافِ النخعيُّ وابن وثاب والزهري والأعرج أيضاً ، وبالتخفيف وكسر القافِ مَسْروقٌ والزهريُّ والنخعي أيضاً .

وقرأ مجاهد " أَعْقَبْتُمْ " . قال الزمخشريُّ معناه : " دَخَلْتُم في العُقْبة " .

وأمَّا الزجَّاجُ ففَسَّر القراءاتِ الباقيةَ : فكانت العُقْبى لكم أي : كانت الغلبةُ لكم حتى غَنِمْتُم . والظاهرُ أنه كما قال الزمخشريُّ من المعاقبة بمعنى المناوَبة . يقال : عاقَبَ الرجلُ صاحبَه في كذا أي : جاء فِعْلُ كلِّ واحد منهما بعَقِبِ فِعْلِ الآخرِ ويُقال : أَعْقَبَ أيضاً ، وأُنشِد :

وحارَدَتِ النُّكْدُ الجِلادُ ولم يكُنْ *** لعُقْبَةِ قِدْرِ المُسْتعيرينَ مُعقِبُ