قوله تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } ، وهم اليعقوبية من النصارى ، يقولون : المسيح هو الله تعالى .
قوله تعالى : { قل فمن يملك من الله شيئاً } ، أي : من يقدر أن يدفع من أمر الله شيئاً إذا قضاه .
قوله تعالى : { إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السماوات والأرض و ما بينهما يخلق ما يشاء و الله على كل شيء قدير }
وبعد أن أرشد - سبحانه - أهل الكتاب إلى الطريق القويم الذي يجب عليهم أن يسلكوه ، عقب ذلك ببيان ما عليه النصارى من ضلال وبطلان فقال :
{ لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ . . . }
اللام في قوله : { لَّقَدْ كَفَرَ } واقعة جواباً لقسم مقدر .
والمراد بالكفر : ستر الحق وإنكاره ، والانغماس في الباطل والضلال . والمعنى : أقسم لقد كفر أولئك النصارى الذين قالوا كذبا وزورا : إن الله المستحق للعبادة والخضوع هو المسيح عيسى ابن مريم .
قال بعض العلما ما ملخصه : " لقد اتفق النصارى على أن يسوع عندهم فيه عنصر إلهي " وإذا كان الأمر المعروف عندهم أن يسوع ابن الله وفيه عنصر إلهي فقد قالوا : إن الألوهية قد حلت فيه . ولازم ذلك القول أن يكون هو الله ، أو هو إله يعبد ومهما يكون فقد قالوا باتحاد عنصر الألوهية فيه . وقد قال في ذلك البيضاوي : " هم الذين قالوا بالاتحاد منهم . وقيل : لم يصرح به أحد منهم . ولكنهم لما زعموا أن فيه لاهوتا ، وقالوا : لا إله إلا واحد لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم " .
وذلك بلا ريب ينتهي إلى القول بأنهم يعتقدون أن المسيح هو الله ، وإن لم يصرحوا بذلك ، فهو لازم قولهم باتحاد عنصر الأولوهية فيه مع الله .
وإن ذلك الكلام تخريج على أن النصارى مذهب واحد في اعتقاد الألوهية وأنه ابن الله وبذلك يكون قوله - تعالى - في أواخر هذه السورة { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } متلاقيا مع هذا النص الكريم فهنا صرح بلازم قولهم وهناك صرح بذات قولهم .
والحقيقة أن النصارى اليوم - وهم لا يزالون يغيرون ويبدلون - يصرحون بأن الأقانيم ثلاثة . وأنها شيء واحد . وينتهون إلى أن المسيح هو الله ، والله هو روح القدس . فقد قال الدكتور بوست في تاريخ الكتاب المقدس : " طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر هي : الله الأب ، والله الإِبن والله الروح القدس فإلى الأب ينتمي الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفداء ، وإلى الروح القدس التطهير . غير أن ثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء . أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم ، كما هي في العهد الجديد .
وفي هذا الكلام يتبين أن النصارى يصرحون بأن الابن هو الله ، ولا يكون الكلام بطريق اللازم لقولهم ، بل بطريق الصريح منه . فهم يصرحون بأن الله هو الابن ، كما أن الله هو الأب ، كما أن الله هو روح القدس .
هذا ، وقد أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد على أولئك الذين قالوا { إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } بما يكشف عن جهلهم وضلالهم فقال - تعالى - :
{ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } .
أي : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء النصارى الذين قالوا : { إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } قل لهم على سبيل الإِنكار والتوبيخ والتجهيل : من ذا الذي يملك من أمر الله وإرادته شيئاً يدفع به الهلاك عن المسيح وعن أمه وعن سائر أهل الأرض ، إن أراد الله - سبحانه - أن يهلكهم ويبيدهم ؟ لا شك أن أحد لن يستطيع أن يمنع إرادته - سبحانه - لأنه هو المالك لأمر الوجود كله ، ولا يملك أحد من أمره شيئاً يستطيع به أن يصرفه عن عمل يريده ؛ أو يحمله على أمر لا يريده ، أو يستقل بعمل دونه .
وما دام الأمر كذلك فدعوى أن الله هو المسيح ابن مريم ظاهرة البطلان ، لأن المسيح وأمه من مخلوقات الله التي هي قابلة لطروء الهلاك والفناء عليها . وحاشا للمخلوق الفاني أن يكون إلها وإنما الألوهية لله الخالق الباقي { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } قال الإِمام الرازي ما ملخصه : " احتج - سبحانه - على فساد ما ذهب إليه النصارى بقوله : { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } وهذه جملة شرطية قدم فيها الجزاء على الشرط .
والتقدير : إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره . وقوله { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً } أي : فمن يملك من أفعال الله شيئاً والملك هو القدرة . يعني فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله - تعالى - ومنع شيء من مراده .
وقوله : { وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } يعني : أن عيسى مشاكل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال ، فلما سلم كونه - تعالى - خالقا للكل مدبراً للكل وجب أن يكون أيضاً خالقاً لعيسى .
وفي توجيه الأمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم للرد عليهم تثبيت له وتقوية لحجته حتى يبطل قولهم الفاسد إبطالا يزداد معه المؤمنون إيمانا بالحق الذي آمنوا به .
قال أبو السعود : وإنما نفيت المالكية المذكورة بالاستفهام الإنكاري عن أحد مع تحقيق الإِلزام والتبكيت لا بنفيها عن المسيح فقط ، لتحقيق الحق بنفي الألوهية عن كل ما عداه - سبحانه - وإثبات المطلوب في ضمنه بالطريق البرهاني .
وتعميم إرادة الإِهلاك للكل - مع حصول المطلوب بقصرها على المسيح - لتهويل الخطب ، وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره - تعالى - وملكوته . لا يقدر أحد على دفع ما أريد به . فضلا عن دفع ما أريد بغيره .
وللإِيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك ، كما أنه أسوة لها فيما ذكر من العجز ، وعدم استحقاق الألوهية .
وتخصيص الأم بالذكر مع اندارجها في عموم المعطوف ، لزيادة تأكيد عجز المسيح ، وأنه هو وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما .
وعطف عليهما قوله { وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } من باب عطف العام على الخاص ، ليكونا قد ذكرا مرتين . مرة بالنص عليهما . ومرة بالاندراج في العام ، وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة في تعلق نفاذ الإِرادة فيهما .
وقوله { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } تأكيد لاختصاص الألوهية به - تعالى - إثر بيان انتفائها عما سواه .
أي : والله - تعالى - وحده دون أن ينازعه منازع . أو يشاركه مشارك ، ملك جميع الموجودات ، والتصرف المطلق فيها ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماته . فهو المالك للسموات وما فيها وللأرض وما عليها ، ولما بينهما من فضاء تجري فيه السحب بأمره ، ويطير فيه الطير بإذنه وقدرته . وما المسيح وأمه إلا من جملة ما في الأرض ، فهما عبدان من عباد الله يدينان له - سبحانه - بالعبادة والطاعة والخضوع .
وقال - سبحانه - { وَمَا بَيْنَهُمَا } ولم يقل وما بينهن مع أن السموات بلفظ الجمع ، لأن المراد بالسموات والأرض النوعان أو الصنفان .
أي : ولله - تعالى - وحده ملك السموات والأرض وما بين هذين النوعين من مخلوقات خاخضعة لمشيئة الله وقدرته .
وقوله { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعترى النصارى من شبه في أمر المسيح لولادته من غير أب ، وإحيائه الموتى ، وإبرائه الأكمه والأبرص ، كل ذلك بإذن الله .
أي أنه - سبحانه - يخلق ما يشاء أن يخلقه من أنواع الخلق بالكيفية التي يريدها تبعا لمشيئته وإرداته .
فتارة يخلق الإنسان من ذكر وأنثى كما هو المعتاد بين الناس ، وتارة يخلقه بدون أب أو أم كما هو الشأن في خلق آدم ، وتارة يخلقه بدون أب كما هو الشأن في خلق عيسى ، إلى ذلك من مخلوقاته التي ليست مقصورة على نوع واحد بل هي شاملة لهذا الكون بما فيه من إنسان وحيوان وجماد ، فكل ما تعلقت إرادته بإيجاده أوجده ، وكل ما تعلقت إرادته بإعدامه أعدمه ، لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه ولا حائل دون نفاذ قدرته .
وقوله : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .
أي : والله - تعالى - قدير على كل شيء ومالك لكل شيء ومهيمن على كل شيء لا يغلبه شيء طلبه ، ولا يعجزه أمر أراده وما عيسى وأمه إلا من مخلوقاته وعبيده ، وحاشا للمخلوق العاجز أن يكون إلها من دون الله - عز وجل - .
فهذه الآية الكريمة تحكي أقوال النصارى الباطلة في شأن عيسى - عليه السلام - وترد عليهم بما يزهق باطلهم ، ويثبت أن عيسى إنما هو عبد من عباد الله وأن العبادة إنما تكون لله الواحد القهار .
يقول تعالى مخبرًا وحاكمًا بكفر النصارى في ادعائهم في المسيح ابن مريم - وهو عبدٌ من عباد الله ، وخلق من خلقه - أنه هو الله ، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا .
ثم قال مخبرًا عن قدرته على الأشياء وكونها تحت قهره وسلطانه : { قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا } أي : لو أراد ذلك ، فمن ذا الذي كان يمنعه{[9441]} ؟ أو من{[9442]} ذا الذي يقدر على صرفه عن ذلك ؟
ثم قال : { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي : جميعُ الموجودات ملكهُ وخلقه ، وهو القادر على ما يشاء ، لا يُسأل عما يفعل ، لقدرته وسلطانه ، وعدله وعظمته ، وهذا رد على النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة{[9443]} إلى يوم القيامة .
ثم أخبر تعالى بكفر النصارى القائلين بأن الله هو المسيح ، وهذه فرقة من النصارى وكل فرقهم على اختلاف أقوالهم يجعل للمسيح عليه السلام حظاً من الألوهية ، وقد تقدم القول في لفظ { المسيح } في سورة آل عمران ، ثم رد عليهم تعالى قوله لنبيه : { قل فمن يملك من الله شيئاً } أي لا مالك ولا رادَّ لإرادة الله تعالى في المسيح ولا في غيره فهذا مما تقضي العقول معه أن من تنفذ الإرادة فيه ليس بإله ، ثم قرر تعالى ملكه في السموات والأرض وما بينهما فحصل المسيح عليه السلام أقل أجزاء ملك الله تعالى ، وقوله تعالى : { يخلق ما يشاء } إشارة إلى خلقه المسيح في رحم مريم من غير والد . بل اختراعاً كآدم عليه السلام ، وقد تقدم في آل عمران الفرق بين قوله تعالى في قصة زكرياء { يفعل ما يشاء } [ آل عمران : 40 ] وفي قصة مريم { يخلق ما يشاء } وقوله تعالى : { والله على كل شيء قدير } عموم معناه الخصوص في ما عدا الذات والصفات والمحالات ، والشيء في اللغة هو الموجود .
هذا من ضروب عدم الوفاء بميثاق الله تعالى . كان أعظمَ ضلال النّصارى ادّعاؤُهم إلهيّة عيسى عليه السلام ، فإبطال زعمهم ذلك هو أهمّ أحوال إخراجهم من الظلمات إلى النّور وهديهم إلى الصراط المستقيم ، فاستأنف هذه الجملة { لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم } استئنافَ البيان . وتعيَّن ذكر الموصول هنا لأنّ المقصود بيان ما في هذه المقالة من الكفر لا بيان ما عليه النصارى من الضلال ، لأنّ ظلالهم حاصل لا محالة إذا كانت هذه المقالة كفراً .
وحُكي قولهم بما تؤدّيه في اللغة العربيّة جملة { إنّ الله هو المسيحُ ابن مريم } ، وهو تركيب دقيق المعنى لم يعطه المفسّرون حَقّه من بيان انتزاع المعنى المراد به ، من تركيبه ، من الدلالة على اتّحاد مسمّى هذين الاسمين بطريق تعريف كلّ من المسند إليه والمسند بالعلَمية بقرينة السياق الدالّة على أنّ الكلام ليس مقصوداً للإخبار بأَحداث لِذواتٍ ، المسمّى في الاصطلاح : حملَ اشتقاق بل هو حمل مواطأة ، وهو ما يسمّى في المنطق : حمل ( هُوَ هُوَ ) ، وذلك حين يكون كلّ من المسند إليه والمسند معلوماً للمخاطب ويراد بيان أنّها شيء واحد ، كقولك حين تقول : قال زياد ، فيقول سامعك : من هو زياد ، فتقول : زياد هو النّابغة ، ومثله قولك : ميمون هو الأعشى ، وابن أبي السّمْط هو مروان بن أبي حَفْصة ، والمُرعَّث هو بشّار ، وأمثال ذلك . فمجرّد تعريف جزأي الإسناد كاف في إفادة الاتّحاد ، وإقحام ضمير الفصل بين المسند إليه والمسند في مثل هذه الأمثلة استعمال معروف لا يكاد يتخلّف قصداً لتأكيد الاتّحاد ، فليس في مثل هذا التّركيب إفادةُ قصر أحد الجزأين على الآخر ، وليس ضمير الفصل فيه بمفيد شيئاً سوى التّأكيد . وكذلك وجود حرف ( إنّ ) لزيادة التّأكيد ، ونظيره قول رُوَيشد بن كثير الطائي من شعراء الحماسة :
وَقُلْ لَهم بَادِروا بالعُذر والتمسوا *** قولاً يبرئكم إنّي أنَا الموت
فلا يأتي في هذا ما لعلماء المعاني من الخلاف في أنّ ضمير الفصل هل يفيد قصر المسند إليه ، وهو الأصحّ ؛ أو العكس ، وهو قليل ، لأنّ مقام اتّحاد المسمَّيين يسوّي الاحتمالين ويصرف عن إرادة القصر . وقد أشار إلى هذا المعنى إشارة خفية قول صاحب « الكشّاف » عقب قوله : { الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم } « معناه بتُّ القول على أنّ حقيقة الله هو المسيح لا غير » . ومحلّ الشاهد من كلام « الكشّاف » ما عدا قوله ( لا غير ) ، لأنّ الظاهر أن ( لا غير ) يشير إلى استفادة معنى القصر من مثل هذا التّركيب ، وهو بعيد . وقد يقال : إنّه أراد أنّ معنى الانحصار لازم بمعنى الاتّحاد وليس ناشئاً عن صيغة قصر .
ويفيد قولهم هذا أنّهم جعلوا حقيقة الإله الحقّ المعلوم متّحدة بحقيقة عيسى عليه السلام بمنزلة اتّحاد الاسمين للمسمّى الواحد ، ومرادهم امتزاج الحقيقة الإلهيّة في ذات عيسى .
ولمّا كانت الحقيقة الإلهيّة معنونة عند جميع المتديّنين باسم الجلالة جَعَل القائلون اسم الجلالة المسندَ إليه ، واسمَ عيسى المسند ليدلّوا على أنّ الله اتّحدَ بذات المسيح .
وحكاية القول عنهم ظاهرة في أنّ هذا قالوه صراحة عن اعتقاد ، إذ سرى لهم القول باتّحاد اللاهوت بناسوتِ عيسى إلى حدّ أن اعتقدوا أنّ الله سبحانه قد اتّحد بعيسى وامتزج وجود الله بوجود عيسى . وهذا مبالغة في اعتقاد الحلول . وللنّصارى في تصوير هذا الحلول أو الاتّحاد أصل ، وهو أنّ الله تعالى جوهر واحد ، هو مجموع ثلاثة أقانيم ( جمع أقنوم بضمّ الهمزة وسكون القاف وهو كلمة رومية معناها : الأصل ، كما في القاموس ؛ وهذه الثلاثة هي أقنوم الذات ، وأقنوم العلم وأقنوم الحياة ، وانقسموا في بيان اتّحاد هذه الأقانيم بذات عيسى إلى ثلاثة مذاهب : مذهب المَلْكانِيَّة وهم الجاثلقية ( الكاثوليك ) ، ومذهب النَّسْطُورية ، ومذهب اليَعقوبية . وتفصيله في كتاب « المقاصد » . وتقدّم مفصّلاً عند تفسير قوله تعالى : { فآمِنوا بالله ورسُله ولا تقولوا ثلاثة } في سورة [ النّساء : 171 ] . وهذا قول اليعاقبة من النصارى ، وهم أتباع يعقوب البرذعاني ، وكان راهباً بالقسطنطينية ، وقد حدثت مقالته هذه بعد مقالة المَلْكَانية ، ويقال لِليعاقبة : أصحاب الطبيعة الواحدة ، وعليها درج نصارى الحبشة كلّهم . ولا شكّ أنّ نصارى نجران كانوا على هذه الطريقة .
ولقرب أصحابها الحبشة من بلاد العرب تصدّى القرآن لبيان ردّها هنا وفي الآية الآتية في هذه السورة . وقد بيّنا حقيقة معتقد النصارى في اتّحاد اللاهوت بالناسوت وفي اجتماع الأقانيم عند قوله تعالى : { وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } في سورة [ النساء : 171 ] .
وبيّن الله لرسوله الحجّة عليهم بقوله : { قل فمن يملك من الله شيئاً } الآية ، فالفاء عاطفة للاستفهام الإنكاري على قولهم : إنّ الله هو المسيح ، للدلالة على أنّ الإنكار ترتّب على هذا القول الشنيع ، فهي للتعقيب الذِكري ، وهذا استعمال كثير في كلامهم ، فلا حاجة إلى ما قيل : إنّ الفاء عاطفة على محذوف دلّ عليه السياق ، أي ليس الأمر كما زعمتم ، ولاَ أنّها جواب شرط مقدّر ، أي إن كان ما تقولون فمن يملك من الله شيئاً ، إلخ .
ومعنى يملك شيئاً هنا يَقْدِر على شيء ، فالمركّب مستعمل في لازم معناه على طريقة الكناية ، وهذا اللازم متعدّد وهو المِلْك ، فاستطاعةُ التحويل ، وهو استعمال كثير ومنه قوله تعالى : { قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أرادَ بكم ضَرّا } الآية في سورة [ الفتح : 11 ] . وفي الحديث قال رسول الله لعُيينة بن حِصْن أفأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة لأنّ الذي يملك يتصرّف في مملوكه كيف شاء .
فالتنكير في قوله { شيئاً } للتقليل والتحقير . ولمّا كان الاستفهام هنا بمعنى النفي كان نفي الشيء القليل مقتضياً نفي الكثير بطريق الأولى ، فالمعنى : فمن يقدر على شيء من الله ، أي مِنْ فِعْله وتصرفِّه أنْ يحوّله عنه ، ونظيره
{ وما أغني عنكم من الله من شيء } [ يوسف : 67 ] . وسيأتي لمعنى « يملك » استعمال آخر عند قوله تعالى : { قل أتعبدون من دون الله ما لا يَملك لكم ضرّاً ولا نفعاً } [ المائدة : 76 ] في هذه السورة ، وسيأتي قريب من هذا الاستعمال عند قوله تعالى : { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً في هذه السورة } [ المائدة : 41 ] .
وحرف الشرْط من قوله : { إن أراد } مستعمل في مجرّد التّعليق من غير دلالة على الاستقبال ، لأنّ إهلاك أمّ المسيح قد وقع بلا خلاف ، ولأنّ إهلاك المسيح ، أي موته واقع عند المجادَلين بهذا الكلام ، فينبغي إرخاءُ العنان لهم في ذلك لإقامة الحجّة ، وهو أيضاً واقع في قول عند جمع من علماء الإسلام الّذين قالوا : إنّ الله أماته ورفعه دون أن يُمكَّن اليهودُ منه ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { وما قتلوه وما صلبوه } [ النساء : 157 ] ، وقوله : { إنّي متوفّيك ورافعك إليّ } [ آل عمران : 55 ] . وعليه فليس في تعليق هذا الشرط إشعار بالاستقبال . والمضارع المقترن بأن وهو { أن يهلك } مستعمل في مجرّد المصدرية . والمرادُ ب { مَن في الأرض } حينئذٍ من كان في زمن المسيح وأمِّه من أهل الأرض فقد هلكوا كلّهم بالضرورة . والتّقدير : مَن يملَك أن يصدّ الله إذْ أراد إهلاك المسيح وأمّه ومن في الأرض يومئذٍ .
ولك أن تلتزم كون الشرط للاستقبال باعتبار جَعْل { من في الأرض جميعاً } بمعنى نوع الإنسان ، فتعليق الشرط باعتبار مجموع مفاعيل { يُهلك } على طريقة التغليب ؛ فإنّ بعضها وقع هلكه وهو أمّ المسيح ، وبعضها لم يقع وسيقع وهو إهلاك من في الأرض جميعاً ، أي إهلاك جميع النّوع ، لأنّ ذلك أمر غير واقع ولكنّه مُمكن الوقوع .
والحاصل أنّ استعمال هذا الشرط من غرائب استعمال الشروط في العربية ، ومرجعه إلى استعمال صيغة الشرط في معنى حقيقي ومعنى مجازي تغليباً للمعنى الحقيقي ، لأنّ { مَنْ في الأرض } يعمّ الجميع وهو الأكثر . ولم يعطه المفسّرون حقّه من البيان . وقد هلكت مريم أمّ المسيح عليهما السلام في زمن غير مضبوط بعد رفع المسيح .
والتذييل بقوله : { ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء } فيه تعظيم شأن الله تعالى . وردّ آخر عليهم بأنّ الله هو الّذي خلق السماوات والأرض وملك ما فيها من قبل أن يَظهر المسيح ، فالله هو الإله حقّاً ، وأنّه يخلق ما يشاء ، فهو الّذي خلق المسيح خلقاً غير معتاد ، فكان موجِب ضلال من نسب له الألوهية . وكذلك قوله : { والله على كلّ شيء قدير } .