فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۚ قُلۡ فَمَن يَمۡلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ أَن يُهۡلِكَ ٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗاۗ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (17)

{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } قضى الله الحق على من زعموا أن عيسى ابن مريم هو الله- قضى ربنا عليهم بأنهم كفروا ، أخفوا الصدق ، وأظهروا الباطل ، وستروا الحق ، ونطقوا بالزور والإفك والبهتان ؛ وربما كانت فتنتهم تلك لما أُيد به من نفخه- مثلا- في طينة فإذا هي طير ، ومن إبرائه للمرضى ، وإحيائه لبعض الموتى ؛ فحين أجرى الله تعالى على يدي عبده ونبيه عيسى عليه السلام الخوارق والمعجزات سولت لهم شياطينهم أنه لا يفعل ذلك إلا من كان إلها فنسبوه إلى الألوهية ، مع أنه صلوات الله عليه وسلامه علمهم منذ البداية أنه ما قدر على شيء مما شاهدوه من هذه الآيات إلا بإقدار الله تعالى له : ( . . . أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم . . ) ( {[1710]} ) ، ثم يقول عنه الكتاب الحكيم : ( . . وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون . إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ) ( {[1711]} ) ؛ وما من نبي إلا وقد أوتى من الآيات والمعجزات ما آمن على مثله البشر ، وما ادعى أقوامهم أنهم بما أجرى الله على أيديهم من خوارق العادات صاروا آلهة ؛ { قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } حجة لله تعالى يعلمها خاتم أنبيائه ، ويعلمها الأمة ، ليدفع بها فرية النصارى وادعاءهم أن عيسى هو الله ؛ والاستفهام هنا متضمن معنى الإنكار والنفي ، أي : لا يملك أحد مدافعة الله ، ولا يقدر كائن على رد ما يمضيه القوي الفعال لما يشاء ، إذا اتجهت مشيئته-جل علاه- إلى إهلاك عيسى وأمه وجميع من في الأرض فلا يصرفه عن ذلك صارف ، ولا يغالبه مغالب ، ولا يستطيع عيسى أن يدفع عن نفسه أو عن أمه ضرا أو سوءا ، فما هو إلا عبد الله ورسوله ، وما من إله إلا الله ؛ يقول ابن جرير : . . لو كان المسيح كما يزعمون أنه هو الله- وليس كذلك- لقدر أن يرد أمر الله إذا جاء بإهلاكه وإهلاك أمه ، وقد أهلك أمه فلم يقدر على دفع أمره فيها إذ نزل ذلك ، ففي ذلك لكم معتبر إن اعتبرتم ، وحجة عليكم إن عقلتم ، في أن المسيح بشر كسائر بني آدم ، وأن الله عز وجل هو الذي لا يُغلَب ولا يقهر ، ولا يُرَد له أمر ، بل هو الحي الدائم القيوم الذي يحي ويميت ، وينشئ ويفني ، وهو حي لا يموت . ا ه .

{ ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء } الله مالك جميع الكون ، وبارئ كافة الخلق ، يوجد ما يشاء ، ويمضي ما يريد ؛ ومِن بالِغ تخبط هؤلاء الغلاة الضالين عن سبيل الله ، الزاعمين أن المسيح هو الله ، افتراؤهم فيما ادعوه إنجيلا ( {[1712]} ) أن إبليس قد حبس عيسى حتى خلصه الله من أسر عدوه ؛ فكيف ينسبون إلى الألوهية من لا يملك قهر إبليس ، ولا يقوى على جلب النفع لنفسه ولا درء الأذى عنها ؟ ! ؛ { والله على كل شيء قدير } مقتدر ربنا على صنع ما يشاء ، فعال لما يريد ، فهو المستحق للعبادة ، ولا المسيح الذي يعجز عن دفع ما يصيبه مِن ضر ، أو صرف ما ينزل بأمه من هلاك ؛ فلا يفتننكم أن يولد عيسى دون أب ، فإن الله تعالى يخلق سلالة من ذكر وأنثى ، كشأن خلقه سائر البشر ، ويخلق دون ذكر ولا أنثى ، كخلقه آدم أبي البشر ، فلا أب له ولا أم ، ويخلق من أنثى دون ذكر ، كالمسيح ابن مريم .


[1710]:من سورة آل عمران. من الآية 39.
[1711]:من سورة آل عمران. من الآية 50 والآية 51.
[1712]:إنجيل متى.الإصحاح الرابع: ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس، فبعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا، فتقدم إليه المجرب وقال له: إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزا.