التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۚ قُلۡ فَمَن يَمۡلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ أَن يُهۡلِكَ ٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗاۗ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (17)

وبعد أن أرشد - سبحانه - أهل الكتاب إلى الطريق القويم الذي يجب عليهم أن يسلكوه ، عقب ذلك ببيان ما عليه النصارى من ضلال وبطلان فقال :

{ لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ . . . }

اللام في قوله : { لَّقَدْ كَفَرَ } واقعة جواباً لقسم مقدر .

والمراد بالكفر : ستر الحق وإنكاره ، والانغماس في الباطل والضلال . والمعنى : أقسم لقد كفر أولئك النصارى الذين قالوا كذبا وزورا : إن الله المستحق للعبادة والخضوع هو المسيح عيسى ابن مريم .

قال بعض العلما ما ملخصه : " لقد اتفق النصارى على أن يسوع عندهم فيه عنصر إلهي " وإذا كان الأمر المعروف عندهم أن يسوع ابن الله وفيه عنصر إلهي فقد قالوا : إن الألوهية قد حلت فيه . ولازم ذلك القول أن يكون هو الله ، أو هو إله يعبد ومهما يكون فقد قالوا باتحاد عنصر الألوهية فيه . وقد قال في ذلك البيضاوي : " هم الذين قالوا بالاتحاد منهم . وقيل : لم يصرح به أحد منهم . ولكنهم لما زعموا أن فيه لاهوتا ، وقالوا : لا إله إلا واحد لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم " .

وذلك بلا ريب ينتهي إلى القول بأنهم يعتقدون أن المسيح هو الله ، وإن لم يصرحوا بذلك ، فهو لازم قولهم باتحاد عنصر الأولوهية فيه مع الله .

وإن ذلك الكلام تخريج على أن النصارى مذهب واحد في اعتقاد الألوهية وأنه ابن الله وبذلك يكون قوله - تعالى - في أواخر هذه السورة { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } متلاقيا مع هذا النص الكريم فهنا صرح بلازم قولهم وهناك صرح بذات قولهم .

والحقيقة أن النصارى اليوم - وهم لا يزالون يغيرون ويبدلون - يصرحون بأن الأقانيم ثلاثة . وأنها شيء واحد . وينتهون إلى أن المسيح هو الله ، والله هو روح القدس . فقد قال الدكتور بوست في تاريخ الكتاب المقدس : " طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر هي : الله الأب ، والله الإِبن والله الروح القدس فإلى الأب ينتمي الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفداء ، وإلى الروح القدس التطهير . غير أن ثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء . أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم ، كما هي في العهد الجديد .

وفي هذا الكلام يتبين أن النصارى يصرحون بأن الابن هو الله ، ولا يكون الكلام بطريق اللازم لقولهم ، بل بطريق الصريح منه . فهم يصرحون بأن الله هو الابن ، كما أن الله هو الأب ، كما أن الله هو روح القدس .

هذا ، وقد أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد على أولئك الذين قالوا { إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } بما يكشف عن جهلهم وضلالهم فقال - تعالى - :

{ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } .

أي : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء النصارى الذين قالوا : { إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } قل لهم على سبيل الإِنكار والتوبيخ والتجهيل : من ذا الذي يملك من أمر الله وإرادته شيئاً يدفع به الهلاك عن المسيح وعن أمه وعن سائر أهل الأرض ، إن أراد الله - سبحانه - أن يهلكهم ويبيدهم ؟ لا شك أن أحد لن يستطيع أن يمنع إرادته - سبحانه - لأنه هو المالك لأمر الوجود كله ، ولا يملك أحد من أمره شيئاً يستطيع به أن يصرفه عن عمل يريده ؛ أو يحمله على أمر لا يريده ، أو يستقل بعمل دونه .

وما دام الأمر كذلك فدعوى أن الله هو المسيح ابن مريم ظاهرة البطلان ، لأن المسيح وأمه من مخلوقات الله التي هي قابلة لطروء الهلاك والفناء عليها . وحاشا للمخلوق الفاني أن يكون إلها وإنما الألوهية لله الخالق الباقي { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } قال الإِمام الرازي ما ملخصه : " احتج - سبحانه - على فساد ما ذهب إليه النصارى بقوله : { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } وهذه جملة شرطية قدم فيها الجزاء على الشرط .

والتقدير : إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره . وقوله { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً } أي : فمن يملك من أفعال الله شيئاً والملك هو القدرة . يعني فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله - تعالى - ومنع شيء من مراده .

وقوله : { وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } يعني : أن عيسى مشاكل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال ، فلما سلم كونه - تعالى - خالقا للكل مدبراً للكل وجب أن يكون أيضاً خالقاً لعيسى .

وفي توجيه الأمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم للرد عليهم تثبيت له وتقوية لحجته حتى يبطل قولهم الفاسد إبطالا يزداد معه المؤمنون إيمانا بالحق الذي آمنوا به .

قال أبو السعود : وإنما نفيت المالكية المذكورة بالاستفهام الإنكاري عن أحد مع تحقيق الإِلزام والتبكيت لا بنفيها عن المسيح فقط ، لتحقيق الحق بنفي الألوهية عن كل ما عداه - سبحانه - وإثبات المطلوب في ضمنه بالطريق البرهاني .

وتعميم إرادة الإِهلاك للكل - مع حصول المطلوب بقصرها على المسيح - لتهويل الخطب ، وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره - تعالى - وملكوته . لا يقدر أحد على دفع ما أريد به . فضلا عن دفع ما أريد بغيره .

وللإِيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك ، كما أنه أسوة لها فيما ذكر من العجز ، وعدم استحقاق الألوهية .

وتخصيص الأم بالذكر مع اندارجها في عموم المعطوف ، لزيادة تأكيد عجز المسيح ، وأنه هو وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما .

وعطف عليهما قوله { وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } من باب عطف العام على الخاص ، ليكونا قد ذكرا مرتين . مرة بالنص عليهما . ومرة بالاندراج في العام ، وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة في تعلق نفاذ الإِرادة فيهما .

وقوله { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } تأكيد لاختصاص الألوهية به - تعالى - إثر بيان انتفائها عما سواه .

أي : والله - تعالى - وحده دون أن ينازعه منازع . أو يشاركه مشارك ، ملك جميع الموجودات ، والتصرف المطلق فيها ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماته . فهو المالك للسموات وما فيها وللأرض وما عليها ، ولما بينهما من فضاء تجري فيه السحب بأمره ، ويطير فيه الطير بإذنه وقدرته . وما المسيح وأمه إلا من جملة ما في الأرض ، فهما عبدان من عباد الله يدينان له - سبحانه - بالعبادة والطاعة والخضوع .

وقال - سبحانه - { وَمَا بَيْنَهُمَا } ولم يقل وما بينهن مع أن السموات بلفظ الجمع ، لأن المراد بالسموات والأرض النوعان أو الصنفان .

أي : ولله - تعالى - وحده ملك السموات والأرض وما بين هذين النوعين من مخلوقات خاخضعة لمشيئة الله وقدرته .

وقوله { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعترى النصارى من شبه في أمر المسيح لولادته من غير أب ، وإحيائه الموتى ، وإبرائه الأكمه والأبرص ، كل ذلك بإذن الله .

أي أنه - سبحانه - يخلق ما يشاء أن يخلقه من أنواع الخلق بالكيفية التي يريدها تبعا لمشيئته وإرداته .

فتارة يخلق الإنسان من ذكر وأنثى كما هو المعتاد بين الناس ، وتارة يخلقه بدون أب أو أم كما هو الشأن في خلق آدم ، وتارة يخلقه بدون أب كما هو الشأن في خلق عيسى ، إلى ذلك من مخلوقاته التي ليست مقصورة على نوع واحد بل هي شاملة لهذا الكون بما فيه من إنسان وحيوان وجماد ، فكل ما تعلقت إرادته بإيجاده أوجده ، وكل ما تعلقت إرادته بإعدامه أعدمه ، لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه ولا حائل دون نفاذ قدرته .

وقوله : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .

أي : والله - تعالى - قدير على كل شيء ومالك لكل شيء ومهيمن على كل شيء لا يغلبه شيء طلبه ، ولا يعجزه أمر أراده وما عيسى وأمه إلا من مخلوقاته وعبيده ، وحاشا للمخلوق العاجز أن يكون إلها من دون الله - عز وجل - .

فهذه الآية الكريمة تحكي أقوال النصارى الباطلة في شأن عيسى - عليه السلام - وترد عليهم بما يزهق باطلهم ، ويثبت أن عيسى إنما هو عبد من عباد الله وأن العبادة إنما تكون لله الواحد القهار .