جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۚ قُلۡ فَمَن يَمۡلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ أَن يُهۡلِكَ ٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗاۗ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (17)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ لّقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَآلُوَاْ إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ وَمَن فِي الأرْضِ جَمِيعاً وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . .

هذه ذمّ من الله عزّ ذكره للنصارى والنصرانية الذين ضلوا عن سبل السلام ، واحتجاج منه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في فريتهم عليه بادعائهم له ولدا ، يقول جلّ ثناؤه : أقسم لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح بن مريم ، وكفرهم في ذلك تغطيتهم الحقّ في تركهم نفي الولد عن الله جلّ وعزّ ، وادّعائهم أن المسيح هو الله فرية وكذبا عليه . وقد بينا معنى المسيح فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيئْا إنْ أرَادَ أنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وأُمّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعا .

يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للنصارى الذين افتروا عليّ ، وضلوا عن سواء السبيل ، بقيلهم : إن الله هو المسيح ابن مريم مَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئا يقول : من الي يطيق أن يدفع من أمر الله جلّ وعزّ شيئا ، فيردّه إذا قضاه من قول القائل : ملكت على فلان أمره : إذا صار لا يقدرأن ينفذ أمرا إلا به . وقوله : إنْ أرادَ أنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وأُمّهُ وَمَنْ في الأرْضِ جَمِيعا يقول : من ذا الذي يقدر أن يردّ من أمر الله شيئا إن شاء أن يهلك المسيح ابْن مريم بإعدامه من الأرض وإعدام أمه مريم ، وإعدام جميع من في الأرض من الخلق جميعا . يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء الجهلة من النصارى لو كان المسيح كما يزعمون أنه هو الله ، وليس كذلك لقدَر أن يردّ أمر الله إذا جاءه باهلاكه وإهلاك أمه ، وقد أهلك أمه فلم يقدر على دفع أمره فيها إذ نزل ذلك ، ففي ذلك لكم معتبر إن اعتبرتم ، وحجة عليكم إن عقلتم في أن المسيح بشر كسائر بني آدم ، وأن الله عزّ وجلّ هو الذي لا يغلب ولا يقهر ولا يردّ له أمر ، بل هو الحيّ الدائم القيوم الذي يُحيى ويميت ، وينشيء ويفني ، وهو حيّ لا يموت .

القول في تأويل قوله تعالى : ولِلّهِ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ .

يعني تبارك وتعالى بذلك : والله له تصريف ما في السموات والأرض وما بينهما ، يعني : وما بين السماء والأرض ، يهلك من يشاء من ذلك ، ويبقى ما يشاء منه ، ويوجد ما أراد ، ويعدم ما أحبّ ، لا يمنعه من شيء أراد من ذلك مانع ، ولا يدفعه عنه دافع ينفذ فيهم حكمه ، ويمضي فيهم قضاءه ، لا المسيح الذي إن أراد إهلاكه ربه وإهلاك أمه ، لم يملك دفع ما أراد به ربه من ذلك . يقول جلّ وعزّ : كيف يكون إلها يُعبد من كان عاجزا عن دفع ما أراد به غيره من السوء ، وغير قادر على صرف ما نزل به من الهلاك ؟ بل الإله المعبود الذي له ملك كلّ شيء ، وبيده تصريف كلّ من في السماء والأرض وما بينهما . فقال جلّ ثناؤه : وَما بَيْنَهُما ، وقد ذكر السموات بلفظ الجمع ، ولم يقل : وما بينهنّ ، لأن المعنى : وما بين هذين النوعين من الأشياء ، كما قال الراعي .

طَرَقا فَتِلكَ هَمَاهِمِي أقْرِيهِما ***قُلُصا لَوَاقِحَ كالقِسِيّ وحُولاً

فقال : طرقا ، مخبرا عن شيئين ، ثم قال : فتلك هما همي ، فرجع إلى معنى الكلام .

وقوله : يَخْلُقُ ما يَشاءُ يقول : جلّ ثناؤه : وينشيء ما يشاء ويوجده ، ويخرجه من حال العدم إلى حال الوجود ، ولن يقدر على ذلك غير الله الواحد القهار ، وإنما يعني بذلك أن له تدبير السموات والأرض وما بينهما ، وتصريفه وإفناءه وإعدامه ، وإيجاد ما يشاء مما هو غير موجود ولا منشأ ، يقول : فليس ذلك لأحد سواي ، فكيف زعمتم أيها الكذبة أن المسيح إليه ، وهو لا يطيق شيئا من ذلك ، بل لا يقدر على دفع الضرر عن نفسه ، ولا عن أمه ، ولا اجتلاب نفع إليها ، إلا بإذني .

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ على كُلّ شَيءٍ قَدِيرٌ .

يقول عزّ ذكره : الله المعبود هو القادر على كلّ شيء ، والمالك كل شيء ، الذي لا يعجزه شيء أراده ، ولا يغلبه شيء طلبه ، المقتدر على هلاك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعا ، لا العاجز الذي لا يقدر على منع نفسه من ضرّ نزل به من الله ولا منع أمه من الهلاك .