قوله تعالى : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذريةً ضعافاً } . أولاداً صغاراً .
قوله تعالى : { خافوا عليهم } . الفقر ، هذا في الرجل يحضره الموت ، فيقول من بحضرته : انظر لنفسك فإن أولادك ورثتك لا يغنون عنك شيئاً ، قدم لنفسك : أعتق ، وتصدق وأعط فلاناً كذا وفلاناً كذا ، حتى يأتي على عامة ماله ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك ، وأمرهم أن يأمروه أن ينظر لولده ولا يزيد في وصيته على الثلث ، ولا يجحف بورثته كما أنه لو كان هذا القائل هو الموصي لسره أن يحثه من بحضرته على حفظ ماله لولده ولا يدعهم عالةً مع ضعفهم وعجزهم . وقال الكلبي : هذا الخطاب لولاة اليتامى يقول : من كان في حجره يتيم فليحسن إليه وليأت في حقه ما يحب أن يفعل بذريته من بعده .
قوله تعالى : { فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً } . أي : عدلاً ، والسديد : العدل والصواب من القول . وهو أن يأمره بأن يتصدق بما دون الثلث ويخلف الباقي لورثته .
ثم أمر الله - تعالى - عباده بتقواه ، وبالتمسك بالأقوال السديدة فقال تعالى : { وَلْيَخْشَ الذين . . . } .
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ( 9 )
وللمفسرين فى تفسير هذه الآية الكريمة أقوال :
أولها : أن الآية الكريمة أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه فى أمر اليتامى ، فيفعلوا بهم مثل ما يحبون أن يفعل بذريتهم الضعاف بعد وفاتهم .
فقد أخرج بان جرير عن ابن عباس أنه قال فى قوله تعالى : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ } . . . الخ .
يعنى بذلك الرجال يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة والضيعة ، ويخاف بعده ألا يحسن إليهم من يليهم يقول : فإن ولى مثل ذريته ضعافا يتامى ، فليحسن إليهم ولا يأكل أموالهم إسرافا وبدارا خشية أن يكبروا . .
قال الآلوسي : والآية الكريمة على هذا الوجه تكون مرتبطة بما قبلها ، لأن قوله تعالى : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } الخ . فى معنى الأمر للورثة . أى أعطوهم حقهم دفعا لأمر الجاهلية ، وليحفظ الأوصياء ما أعطوه ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم .
وعلى هذا الوجه يكون المقصود من الآية الكريمة حض الأوصياء على المحافظة على أموال اليتامى بأبلغ تعبير ، لأنه سبحانه قد نبههم بحال أنفسهم وذرياتهم من بعدهم ليتصوروها ويعرفوا مكان العبرة فيها ، ولا شك أن ذلك من أقوى الدواعى والبواعث فى هذا المقصود ؛ لأنه سبحانه كأنه يقول لهم : افعلوا باليتامى الفعل الذى تحبون أن يفعل مع ذرياتكم الضعاف من بعدكم ، فجعل - سبحانه - من شعورهم بالحنان على ذرياتهم باعثا لهم على الحنان على أيتامهم .
هذا ، ومن المفسرين الذين استحسنوا هذا القول الإِمام ابن كثير ، فقد قال بعد أن حكى هذا القول : وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد فى أكل أموال اليتامى ظلما .
أما القول الثاني : فيرى أصحابه أن الآية الكريمة أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم ؛ فيوصوا المريض فى أولاده خيراً ويشفقوا عليهم كما يشفقون على أولادهم .
وقد وضح هذا القول الإِمام الرازي فقال : إن هذا خطاب مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون له : إن ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا ، فأوص بمالك لفلان وفلان . ولا يزالون يأمرونه بالوصية إلى الأجانب إلى أن لا يبقى من ماله للورثة شئ أصلا . فقيل لهم : كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم فى الضعف والجوع من غير مال ، فاخشوا الله ولا تحملا المريض على أن يحرم أولاده الضعفاء من ماله .
وحاصل الكلام أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك ، فلا ترضه لأخيك المسلم . فعن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " .
وقد رجح هذا الوجه الإِمام ابن جرير فقال : وأولى التأويلات بالآية قول من قال : تأويل ذلك : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم العيلة لو كانوا فرقوا أموالهم فى حياتهم ، أوقسموها وصية منهم لأولى قرابتهم ، وأهل اليتيم والمسكنة ؛ فأبقوا أموالهم لولدهم خشية العيلة عليهم من بعدهم ، فليأمروا من حضروه - وهو يوصى لذوى قرابته وفى اليتامى والمساكين وفى غير ذلك - بما له بالعدل ، وليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ، وهو ان يعرفوه ما أباحه الله له من الوصية ، وما اختاره المؤمنون من أهل الإِيمان بالله وبكتابه وسنته .
والقول الثالث : يرى أصحابه أن الخطاب فى الآية للموصين ، وأن الآية تأمرهم بأن يشفقوا على ورثتهم ، فلا يسرفوا فى الوصية لغيرهم ؛ لأن الإِسراف فى ذلك يؤدى إلى ترك الورثة فقراء . ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبى وقاص : " إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " .
والذى نراه أن الأمر بالخشية من الله يتناول تجميع الأصناف المتقدمة : من الأوصياء ، وعواد المريض ، والموصين وغيرهم من هو أهل لهذا الخطاب ؛ لأن هؤلاء جميعا داخلون تحت الأمر بالخشية من الله - تعالى - ، وبالقول السديد الذى يحبه سبحانه ويرضاه .
وقوله تعالى { وَلْيَخْشَ } فعل مضارع مجزوم بلام الأمر . ومفعوله محذوف لتذهب نفس السامع فى تقديره كل مذهب ، فينظر كل سامع بحسب الاهم عنده مما يخشى أن يصيب ذريته .
والجملة الشرطية وهى قوله تعالى { لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ } صلة للموصول وهو قوله { الذين } وجملة { خَافُواْ عَلَيْهِمْ } جواب { لَوْ } .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى وقوع { لَوْ تَرَكُواْ } وجوابه صلة للذين ؟ .
قلت : معناه : وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا من خلفهم ذرية ضعافا - وذلك عند احتضارهم - خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم .
قال صاحب الانتصاف : وإنما لجأ الزمخشري إلى تقدير { تَرَكُواْ } بقوله شارفوا أن يتركوا ؛ لأن جوابه قوله { خَافُواْ عَلَيْهِمْ } والخوف عليهم إنما يكون قبل تركهم إياهم . وذلك فى دار الدنيا . فقد دل على أن المراد بالترك الإِشراف عليه ضرورة ، وإلا لزم وقوع الجواب قبل الشرط وهو باطل . ونظيره { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أى . شارفن بلوغ الأجل .
ثم قال : ولهذا المجاز فى التعبير عن المشارفة على الترك بالترك سر بديع . وهو التخويف بالحالة التي لا يبقى معها مطمع فى الحياة ، ولا فى الذنب عن الذرية الضعاف . وهى الحالة التى وإن كانت من الدنيا ، إلا أنها لقربها من الآخرة ، ولصوقها بالمفارقة ، صارت من حيزها ، ومعبرا عنها بما يعبر به عن الحالة الكائنة بعد المفارقة من الترك .
وقوله { ضِعَافاً } صفة لذرة . وفى وصف الذرية بذلك بعث على الترحم وحض على امتثال ما أمر الله به .
والفاء فى قوله { فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } لترتيب ما بعدها على ما قبلها .
فقد رتب الأمر بالتقوى على الأمر بالخشية وإن كانا أمرين متقاربين لأن الأمر الأول لما عضد بالحجة - وهى الخوف على ذريتهم - اعتبر كالحاصل فصح التفريع عليه .
والمعنى : فليتقوا الله فى كل شأن من شئونهم وفى أموال اليتامى فلا يعتدوا عليها . وليقولا لغيرهم قولا عادلا قويما مصيبا للحق وبعيدا عن الباطل .
قال الآلوسى وقوله { وَلْيَقُولُواْ } أى لليتامى أو للمريض أو لحاضرى القسمة ، أو ليقولوا فى الوصية { قَوْلاً سَدِيداً } فيقول الوصى لليتيم ما يقول لولده من القول الجميل الهادى له إلى حسن الآداب ومحاسن الأفعال . ويقول عائد المريض للمريض : ما يذكره بالتوبة وحسن الظن بالله ، وما يصده عن الإِسراف فى الوصية وتضييع الورثة . ويقول الوارث لحاضر القسمة : ما يزيل وحشته أو يزيد مسرته . ويقول الموصى فى إيصائه : مالا يؤدى إلى تجاوز الثلث .
ثم قال ، والسديد : المصيب العدل الموافق للشرع . يقال : سد قوله يسد - بالكسر - إذا صار سديدا والسداد - بالفتح - الاستقامة والصواب . وأما السداد - بالكسر - فهو ما يسد به الشئ .
قال بعض العلماء : وفى الآية الكريمة ما يبعث الناس كلهم على أن يغضبوا للحق من الظلم ، وأن يأخذوا على أيدى أولياء السوء ، وأن يحرسوا أموال اليتامى ، ويبلغوا حقوق الضعفاء إليه ، لأنهم إن أضاعوا ذلك يوشك أن يلحق أبناءهم وأموالهم مثل ذلك . وأن يأكل قويهم ضعيفهم ؛ فإن اعتياد السوء ينسى الناس شناعته ، ويكسب النفوس ضراوة على عمله .
وقوله : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ [ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ]{[6663]} } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هذا في الرجل يَحْضُره الموت ، فيسمعه الرجل يوصي بوصية تَضر بورثته ، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله ، ويوفقه ويسدده للصواب ، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضَّيْعَةَ .
وهكذا قال مجاهد وغير واحد ، وثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على سَعْد بن أبي وقاص يعوده قال : يا رسول الله ، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : " لا " . قال : فالشَّطْر ؟ قال : " لا " . قال : فالثلث ؟ قال : " الثلث ، والثلث كثير " . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنك إن تَذر وَرَثَتَك أغنياء خَيْر من أن تَذَرَهم عَالةً يتكَفَّفُون الناس " {[6664]} .
وفي الصحيح أن ابن عباس قال : لو أن الناس غَضّوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الثلث ، والثلث كثير " {[6665]} .
قال الفقهاء : إن كان ورثة الميت أغنياء استُحب للميت أن يَسْتَوفي الثلث في وصيته{[6666]} وإن كانوا فقراء استُحب أن يَنْقُص الثلث .
وقيل : المراد بقوله : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ } [ أي ]{[6667]} في مباشرة أموال اليتامى { وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا }
حكاه ابن جرير من طريق العَوْفي ، عن ابن عباس : وهو قول حسن ، يتأيد بما بعده من التهديد في أكل مال اليتامى ظلما ، أي : كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك ، فعامل الناس في ذرياتهم{[6668]} إذا وليتهم .
وقوله { وليخش } جزم بلام الأمر ، ولا يجوز إضمار هذه اللام عند سيبويه ، قياساً على حروف الجر ، إلا في ضرورة شعر ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ . . . إذا مَا خِفْتَ مِنْ أمْرٍ تَبَالاً{[3861]}
وقرأ أبو حيوة وعيسى بن عمر والحسن والزهري : بكسر لامات الأمر في هذه الآية ، وقد تقدم الكلام على لفظ { ذرية } في سورة آل عمران ، ومفعول يخشى محذوف لدلالة الكلام عليه ، وحسن حذفه من حيث يتقدر فيه التخويف بالله تعالى . والتخويف بالعاقبة في الدنيا ، فينظر كل متأول بحسب الأهم في نفسه ، وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وعائشة : «ضُعفاء » بالمد وضم الضاد ، وروي عن ابن محيصن «ضُعُفاُ » بضم الضاد والعين وتنوين الفاء ، وأمال حمزة { ضعافاً } وأمال - { خافوا } ، والداعي إلى إمالة { خافوا } الكسرة التي في الماضي في قولك : خفت ليدل عليها و { خافوا } جواب { لو } تقديره : لو تركوا لخافوا ويجوز حذف اللام في جواب - لو - تقول - لو قام زيد لقام عمرو ، ولو قام زيد قام عمرو ، واختلف مَن المراد بهذه الآية ؟ فقال ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد : المراد من حضر ميتاً حين يوصي فيقول له : قدم لنفسك وأعط فلان وفلانة ويؤذي الورثة بذلك ، فكأن الآية تقول لهم : كما كنتم تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم ، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم وذريته ، ولا تحملوه على تبذير ماله وتركهم عالة . وقال مقسم وحضرمي : نزلت في عكس ذلك ، وهو أن يقول للمحتضر : أمسك على ورثتك وأبق لولدك ، وينهاه عن الوصية فيضر بذلك ذوي القربى ، وكل من يستحق أن يوصي له ، فقيل لهم : كما كنتم تخشون على ذريتكم وتسرون بأن يحسن إليهم ، فكذلك فسددوا القول في جهة المساكين واليتامى ، واتقوا الله في ضرهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس ، بل الناس صنفان يصلح لأحدهما القول الواحد ، وللآخر القول الثاني ، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثة مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية ، ويحمل على أن يقدم لنفسه ، وإذا ترك ورثة ضعفاء مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين ، فالمراعى إنما هو الضعف ، فيجب أن يمال معه ، وقال ابن عباس أيضاً : المراد بالآية ولاة الأيتام ، فالمعنى : أحسنوا إليهم وسددوا القول لهم ، واتقوا الله في أكل أموالهم كما تخافون على ذريتكم أن يفعل بهم خلاف ذلك ، وقالت فرقة : بل المراد جميع الناس ، فالمعنى : أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس وإن لم يكونوا في حجورهم ، وأن يسددوا لهم القول كما يريد كل أحد أن يفعل بولده بعده ، ومن هذا ما حكاه الشيباني قال{[3862]} : كنا على قسطنطينة في عسكر مسلمة بن عبد الملك ، فجلسنا يوماً في جماعة من أهل العلم فيهم الديلمي فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان ، فقلت له : يا أبا بسر{[3863]} ، ودي أن لا يكون لي ولد ، فقال لي : ما عليك ، ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت أحب أم كره ، ولكن إن أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم ، ثم تلا هذه الآية ، «والسديد » معناه : المصيب للحق ، ومنه قول الشاعر :
أعلمه الرماية كل يوم . . . فلما اشتد ساعده رماني{[3864]}