وانتصب { هدى ورحمة } على الحال من { الكِتَاب } وهي قراءة الجمهور . وإذ كان { الكِتَاب } مضافاً إليه فمسوغ مجيء الحال من المضاف إليه أن { الكِتَاب } أضيف إليه ما هو اسم جزئه ، أو على أنه حال من آيات . والعامل في الحال ما في اسم الإشارة من معنى الفعل . وقرأه حمزة وحده برفع { رحمةٌ } على جعل { هدىً } خبراً ثانياً عن اسم الإشارة .
ومعنى المحسنين : الفاعلون للحسنات ، وأعلاها الإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ولذلك خصت هذه الثلاث بالذكر بعد إطلاق المحسنين لأنها أفضل الحسنات ، وإن كان المحسنون يأتون بها وبغيرها .
وزيادة وصف الكتاب ب { رحمة } بعد { هدى } لأنه لما كان المقصد من هذه السورة قصة لقمان نبَّه على أن ذكر القصة رحمة لما تتضمنه من الآداب والحكمة لأن في ذلك زيادة على الهدى أنه تخلق بالحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ، والخير الكثير : رحمة من الله تعالى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هدى} من الضلالة {ورحمة} من العذاب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله "هُدًى ورَحْمَةً "يقول: هذه آيات الكتاب بيانا ورحمة من الله، رحم به من اتبعه، وعمل به من خلقه...
وقوله: "للْمُحْسِنِينَ" وهم الذين أحسنوا في العمل بما أنزل الله في هذا القرآن، يقول تعالى ذكره: هذا الكتاب الحكيم هدى ورحمة للذين أحسنوا، فعملوا بما فيه من أمر الله ونهيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{هدى} أي توفيقا وعصمة ومعونة للمحسنين.
وأما ما يقوله أهل التأويل: {هدى} أي بيانا للمحسنين، فهو بيان للكل، ليس لبعض دون بعض، فلا يحتمل الهدى البيان في هذا الموضع...
والمحسن ههنا جائز أن يكون المؤمن كقوله: {إن في ذلك لآيات لكل صبّار شكور} [إبراهيم: 5]. الصبار، هو المؤمن، سمى المؤمن صبارا مرة وشكورا مرة ومحسنا مرة لأنه يعتقد بالإيمان كل ما ذكر من الصبر والشكر والإحسان وكل خير.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" هدى ورحمة للمحسنين "دلالة موصلة لهم إلى الصواب وما يستحق به الثواب، ورحمة رحمهم الله بها.
وأضافه إلى المحسنين وإن كان هدى لغيرهم لما كانوا هم المنتفعين به دون غيرهم كما قال "هدى للمتقين".
والإحسان النفع الذي يستحق به الحمد، فكل محسن يستحق الحمد وكل مسيئ يستحق الذم...
وقوله: {هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}
فقوله {هدى} أي بيانا وفرقانا، وأما التفسير فمثل تفسير قوله تعالى: {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى} [البقرة: 1 و2] وكما قيل هناك إن المعنى بذلك هذا، كذلك قيل بأن المراد بتلك هذه، ويمكن أن يقال كما قلنا هناك إن تلك إشارة إلى الغائب معناها آيات القرآن آيات الكتاب الحكيم وعند إنزال هذه الآيات التي نزلت مع {الم * تلك آيات الكتاب الحكيم} لم تكن جميع الآيات نزلت فقال تلك إشارة إلى الكل أي آيات القرآن تلك آيات، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال في سورة البقرة {ذلك الكتاب} [البقرة: 2] ولم يقل الحكيم، وههنا قال {الحكيم} [لقمان: 2] فلما زاد ذكر وصف الكتاب زاد ذكر أمر في أحواله فقال: {هدى ورحمة} وقال هناك {هدى للمتقين} [البقرة: 2] فقوله: {هدى} في مقابلة قوله: {الكتاب} وقوله: {ورحمة} في مقابلة قوله: {الحكيم} ووصف الكتاب بالحكيم على معنى ذي الحكم كقوله تعالى: {في عيشة راضية} [الحاقة: 21] أي ذات رضا.
المسألة الثانية: قال هناك {للمتقين} وقال ههنا {للمحسنين} لأنه لما ذكر أنه هدى ولم يذكر شيئا آخر قال: {للمتقين} أي يهتدي به من يتقي الشرك والعناد والتعصب، وينظر فيه من غير عناد، ولما زاد ههنا رحمة قال: {للمحسنين} أي المتقين الشرك والعناد الآتين بكلمة الإحسان فالمحسن هو الآتي بالإيمان والمتقي هو التارك للكفر، كما قال تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} ومن جانب الكفر كان متقيا وله الجنة، ومن أتى بحقيقة الإيمان كان محسنا وله الزيادة لقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} ولأنه لما ذكر أنه رحمة قال: {للمحسنين} لأن رحمة الله قريب من المحسنين.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{للمحسنين}: الذين يعملون الحسنات، وهي التي ذكرها، كإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيقان بالآخرة، وقيل: الذين يعملون بالحسن من الأعمال، وخص منهم القائمون بهذه الثلاثة، لفضل الاعتداد بها. وقال ابن سلام: هم السعداء. وقال ابن شجرة: هم المنجحون. وقيل: الناجون، وكرر الإشارة إليهم تنبيهاً على عظم قدرهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الإحسان ما دعت إليه سورة الروم من الإيمان بلقاء الله، منزهاً عن شوائب النقص، موصوفاً بأوصاف الكمال، معبوداً بما شرعه على وجه الإخلاص، والانقياد مع الدليل كيفما توجه، والدوران معه كيفما دار، وكان ذلك هو عين الحكمة، قال تعالى: {هدى} أي حال كونها أو كونه بياناً متقناً.
{ورحمة} أي حاملاً على القيام بكل ما دعا إليه، والتقدير على قراءة حمزة بالرفع: هي أو هو.
{للمحسنين} إشارة إلى أن من حكمته أنه خاص في هذا الكمال وضعاً للشيء في محله بهذا الصنف، وهم الذين لزموا التقوى فأدتهم إلى الإحسان.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الكتاب الحكيم. أو آياته. (هدى ورحمة للمحسنين) فهذه حاله الأصيلة الدائمة.. أن يكون هدى ورحمة للمحسنين. هدى يهديهم إلى الطريق الواصل الذي لا يضل سالكوه. ورحمة بما يسكبه الهدى في القلب من راحة وطمأنينة وقرار؛ وما يقود إليه من كسب وخير وفلاح؛ وبما يعقده من الصلات والروابط بين قلوب المهتدين به؛ ثم بين هذه القلوب ونواميس الكون الذي تعيش فيه، والقيم والأحوال والأحداث التي تتعارف عليها القلوب المهتدية، وتتعارف الفطر التي لا تزيغ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وزيادة وصف الكتاب ب {رحمة} بعد {هدى} لأنه لما كان المقصد من هذه السورة قصة لقمان نبَّه على أن ذكر القصة رحمة لما تتضمنه من الآداب والحكمة لأن في ذلك زيادة على الهدى أنه تخلق بالحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، والخير الكثير: رحمة من الله تعالى...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ووصف الحق سبحانه وتعالى كتابه بكونه: {هدى ورحمة للمحسنين (3)} و (المحسنون) هم الذين أحسنوا فهمه، وأحسنوا تطبيقه، وأحسنوا الدفاع عنه، وراقبوا منزل الكتاب، فلم يهجروا الكتاب، وبذلك يكون (هدى لهم) فلا تختلط عليهم السبل، ولا يعمهم الجهل والضلال، ويكون (رحمة لهم) فلا تصيبهم الشرور والآفات، ولا تحل بساحتهم الأزمات تلو الأزمات، وإنما يندرجون في عداد المحسنين، فينعموا بهداية الله ورحمته، إذا أدوا ما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد...
هنا يقول سبحانه {هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ} أما في صدر سورة البقرة فيقول {هدى للمتقين (2)} [البقرة] وفرق بين المعنيين، فالتقوى تقتضي الإيمان، ومطلوب الإيمان الافتراض يعني: أن تؤدي ما فرضه الله عليك. أما مطلوب الإحسان ففوق ذلك، فالإحسان في الأداء أن تحسن في كمه، وأن تحسن في كيفه: تحسن في كيفه بأن تستصحب مع العمل الإخلاص للمعمول له، وهو الحق سبحانه، وتحسن في كمه بأن تعشق التكليف حتى تؤدي فوق ما فرض عليك، فبدل أن تصلي ركعتين تصلي ثلاثا أو أربعا، هذا إحسان في الكم.
والهدى هو الدلالة على الخير بأقصر طريق، وقد نزل القرآن لهداية قوم قد ضلوا، فلما هداهم إلى الصواب وأراهم النور أراد أن يحفظ لهم هذه الهداية، وألا يخرجوا عنها فقال {وَرَحْمَةً} يعني: من رحمة الله بهم ألا يعودوا إلى الضلال مرة أخرى. كما في قوله سبحانه: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين (82)} [الإسراء] فالمعنى: شفاء لمن كان مريضا، ورحمة بألا يمرض أبدا بعد ذلك...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تذكر الآية التالية الهدف النهائي من نزول القرآن، فتقول: (هدىً ورحمةً للمحسنين).
إنّ الهداية في الحقيقة مقدّمة لرحمة الله، لأنّ الإنسان يجد الحقيقة أوّلا في ظلّ نور القرآن، ويعتقد بها ويعمل بها، وبعد ذلك يكون مشمولا برحمة الله الواسعة ونعمه التي لا حدّ لها.
وممّا يستحقّ الانتباه أنّ هذه السورة اعتبرت القرآن سبباً لهداية ورحمة «المحسنين»، وفي بداية سورة النمل: (هدىً وبشرى للمؤمنين) وفي بداية سورة البقرة: (هدىً للمتّقين). وهذا الاختلاف في التعبير ربّما كان بسبب أنّ روح التسليم وقبول الحقائق لا تحيا في الإنسان بدون التقوى، وعند ذلك سوف لا تتحقّق الهداية، وبعد مرحلة قبول الحقّ نصل إلى مرحلة الإيمان التي تتضمّن البشارة بالنعم الإلهية علاوة على الهداية، وإذا تقدّمنا أكثر فسنصل إلى مرحلة العمل الصالح، وعندها تتجلّى رحمة الله أكثر من ذي قبل. بناءً على هذا فإنّ الآيات الثلاث أعلاه تبيّن ثلاث مراحل متعاقبة من مراحل تكامل عباد الله: مرحلة قبول الحقّ، ثمّ الإيمان، فالعمل، والقرآن في هذه المراحل مصدر الهداية والبشارة والرحمة على الترتيب.