{ بسم الله الرحمن الرحيم }{ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين } يعني العرب كانت أمة أمية لا تكتب ولا تقرأ { رسولاً منهم } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم نسبه نسبهم . { يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } أي ما كانوا قبل بعثة الرسول إلا في ضلال مبين يعبدون الأوثان .
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على خلقه ، فقال : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة . . . } .
وقوله : { الأميين } جمع أمى ، وهو صفة لموصوف محذوف . أى : فى الناس أو فى القوم الأميين ، والمراد بهم العرب ، لأن معظمهم كانوا لا يعرفون القراءة والكتابة .
وسمى من لا يعرف القراءة والكتابة بالأمى ، لغلبة الأمية عليه ، حتى لكأن حاله بعد تقدمه فى السن ، كحاله يوم ولدته أمه فى عدم معرفته للقراء ة والكتابة .
و " من " فى قوله - تعالى - : { مِّنْهُمْ } للتبعيض ، باعتبار أنه واحد منهم ، ويشاركهم فى بعض صفاتهم وهى الأمية .
وقوله : { يَتْلُواْ . . . } من التلاوة ، وهى القراءة المتتابعة المرتلة ، التى يكون بعضها تلو بعض .
وقوله : { وَيُزَكِّيهِمْ } من التزكية بمعنى التطهير والتنقية من السوء والقبائح .
والمراد بالكتاب : القرآن ، والمراد بتعليمه : بيان معانيه وحقائقه ، وشرح أحكامه وأوامره ونواهيه .
والمراد بالحكمة : العلم النافع ، المصحوب بالعمل الصالح ، وفى وضعها إلى جانب الكتاب إشارة إلى أن المقصود بها السنة النبوية المطهرة ، إذ بالكتاب وبالسنة ، يعرف الناس أصلح الأقوال والأفعال ، وأعدل الأحكام وأقوم الآداب ، وأسمى الفضائل .
أى : هو - سحبانه - وحده ، الذى { بَعَثَ } بفضله وكرمه ، { فِي } العرب { الأميين رَسُولاً } كريما عظيما ، كائنا { مِّنْهُمْ } أى : من جنسهم يعرفون حسبه ونسبه وخلقه . . . هذا الرسول الكريم أرسلناه إليهم ، ليقرأ عليهم آيات الله - تعالى - التى أنزلها عليه لهدايتهم وسعادتهم ، متى آمنوا بها ، وعملوا بما اشتملت عليه من توجيهات سامية .
وأرسلناه إليهم - أيضا - ليزكيهم ، أى : وليطهرهم من الكفر والقبائح والمنكرات وليعلمهم الكتاب ، بأن يحفظهم إياه ، ويشرح لهم أحكامه ، ويفسر لهم ما خفى عليهم من ألفاظه ومعانيه .
وليعلمهم - أيضا - الحكمة . أى : العلم النافع المصحوب بالعمل الطيب وصدر - سبحانه - الآية الكريمة بضمير اسم الجلالة ، لتربية المهابة فى النفوس ، ولتقوية ما اشتملت عليه من نعم وأحكام ، إذ هو - سبحانه - وحده الذى فعل ذلك لا غيره .
وعبر - سبحانه - بفى المفيدة للظرفية فى قوله - تعالى - : { فِي الأميين } . للإشعار بأن هذا الرسول الكريم الذى أرسله إليهم ، كان مقيما فيهم ، وملازما لهم ، وحريصا على أن يبلغهم رسالة الله - تعالى - فى كل الأوقات والأزمان .
والتعبير بقوله : { مِّنْهُمْ } فيه ما فيه من دعوتهم إلى الإيمان به ، لأن هذا الرسول الكريم ، ليس غريبا عنهم ، بل هو واحد منهم شرفهم من شرفه ، وفضلهم من فضله . . .
وهذه الآية الكريمة صريحة فى أن الله - تعالى - قد استجاب دعوة نبيه إبراهيم - عليه السلام - عندما دعاه بقوله : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم . . } وقد جاء ترتيب هذه الآية الكريمة وأمثالها فى أسمى درجات البلاغة والحكمة ، لأن أول مراحل تبليغ الرسالة ، يكون بتلاوة القرآن ، ثم ثنى - سبحانه - بتزكيه النفوس من الأرجاس ، ثم ثلث بتعليم الكتاب والحكمة لأنهما يكونان بعد التبليغ والتزكية للنفوس .
ولذا قالوا : إن تعليم الكتاب غير تلاوته ، لأن تلاوته معناها ، قراءته قراءة مرتلة ، أما تعليمه فمعناه : بيان أحكامه ، وشرح ما خفى من ألفاظه وأحكامه . . .
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، قد اشتملت على جملة من الصفات الجليلة التى منحها - سبحانه - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حال الناس قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - فقال : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } .
وهذه الجملة الكريمة فى موضع الحال من قوله : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين . . } و " إن " فى قوله { وَإِن كَانُواْ . . } مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف .
أى : هو - سبحانه - بفضله وكرمه ، الذى بعث فى الأميين رسولا منهم ، وحالهم أنهم كانوا قبل إرسال هذا الرسول الكريم فيهم ، فى ضلال واضح لا يخفى أمره على عاقل ، ولا يلتبس قبحه على ذى ذوق سليم وحقا لقد كان الناس قبل أن يبزغ نور الإسلام ، الذى جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه ، فى ضلال واضح ، وظلام دامس ، من حيث العقائد والعبادات ، والأخلاق والمعاملات .
فكان من رحمة الله - تعالى - بهم ، أن أرسل فيهم رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - لكى يخرجهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان ، إلى نور الهداية والاستقامة والإيمان .
وقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ } الأميون هم : العرب كما قال تعالى : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ آل عمران : 314 ] وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم ، ولكن المنة عليهم أبلغ وآكد ، كما في قوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به . وكذا قوله : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ] وهذا وأمثاله لا ينافي قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] وقوله : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] وقوله إخبارا عن القرآن : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق{[28804]} أحمرهم وأسودهم ، وقد قدمنا تفسير ذلك في سورة الأنعام ، بالآيات والأحاديث الصحيحة ، ولله الحمد والمنة .
وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم ، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . فبعثه الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة ، على حين فترة من الرسل ، وطُمُوس من السبل ، وقد اشتدت الحاجة إليه ، وقد مقت الله أهلَ الأرض عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب - أي : نزرا يسيرا - ممن تمسك بما بعث الله به عيسى ابن مريم عليه السلام ؛ ولهذا قال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } وذلك أن العرب كانوا [ قديما ] {[28805]} متمسكين بدين إبراهيم [ الخليل ] {[28806]} عليه السلام فبدلوه وغيروه ، وقلبوه وخالفوه ، واستبدلوا بالتوحيد شركا{[28807]} وباليقين شكا ، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله{[28808]} وكذلك أهل الكتابين قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها ، فبعث الله محمدًا صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق ، فيه هدايتهم ، والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم ، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة ، ورضا الله عنهم ، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله . حاكم ، فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الأصول والفروع . وجمَعَ له تعالى ، وله الحمد والمنة ، جميع المحاسن ممن كان قبله ، وأعطاه ما لم يُعطِ أحدًا من الأولين ، ولا يعطيه أحدًا من الآخرين ، فصلوات الله وسلامه عليه [ دائمًا ] {[28809]} إلى يوم الدين .
هو الذي بعث في الأميين أي في العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرؤون رسولا منهم من جملتهم أميا مثلهم يتلو عليهم آياته من كونه أميا مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم ويزكيهم من خبائث العقائد والأعمال ويعلمهم الكتاب والحكمة القرآن والشريعة أو معالم الدين من المنقول والمعقول ولو لم يكن له سواه معجزة لكفاه وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين من الشرك وخبث الجاهلية وهو بيان لشدة احتياجهم إلى نبي يرشدهم وإزاحة لما يتوهم أن الرسول تعلم ذلك من معلم و إن هي المخففة واللام تدل عليها .
و { الأميين } : يراد بهم العرب ، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ كتاباً ، قيل هو منسوب إلى الأم ، أي هو على الخلقة الأولى في بطن أمه ، وقيل هو منسوب إلى الأمة ، أي على سليقة البشر دون تعلم ، وقيل منسوب إلى أم القرى وهي مكة وهذا ضعيف ، لأن الوصف ب { الأميين } على هذا يقف على قريش ، وإنما المراد جميع العرب ، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا »{[11089]} .
وهذه الآية تعديد نعمة الله عندهم فيما أولاهم ، والآية المتلوة : القرآن { يزكيهم } معناه : يطهرهم من الشرك وينمي الخير فيهم ، و { الكتاب } : الوحي المتلو ، { والحكمة } : السنة التي هي لسانه عليه السلام ، ثم أظهر تعالى تأكيد النعمة بذكر حالهم التي كانت في الضد من الهداية ، وذلك في قوله تعالى : { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } ، { وآخرين } في موضع خفض عطفاً على { الأميين } وفي موضع نصب عطفاً على الضمائر المتقدمة .