تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (2)

1

المفردات :

الأمين : العرب المعاصرين له صلى الله عليه وسلم ، أو الذين لا يقرأون ولا يكتبون .

رسولا منهم : رسولا أميّا مثلهم .

يزكّيهم : يطهرهم من أدناس الجاهلية .

الكتاب : القرآن .

الحكمة : السنّة ، وتطلق الحكمة أيضا على حسن التصرف في الأمور .

لفي ضلال مبين : بُعد واضح عن الحق والحكمة ، لجاهليتهم التي كانوا عليها .

التفسير :

2- { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } .

إنها لمنّة عظيمة أن يختار الله الزمان ، والمكان ، والأمّة ، والرسول :

فالزمان : القرن السادس الميلاديّ .

والمكان : بلاد العرب .

والأمة : أمة أمية لا تعرف الحساب ، أناجيلهم في صدورهم ، ومع ذلك فهم أهل بلاغة وفصاحة ، ولَسَن بالفطرة ، نبغ فيهم الشعراء والبلغاء والخطباء مع أمِّيتهم .

والرسول : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث أرسل الله فيهم رسولا منهم ، أمّيا مثلهم ، وأنزل عليه كتابا سماويا خالدا معجزا .

فكان الرسول الأميّ يقرأ عليهم القرآن من الذاكرة ، ويعلِّمهم الكتاب : وهو القرآن ، وأحكامه وآدابه .

وَالْحِكْمَةَ : وهي السنة المطهرة ، وفيها هدى السماء وتوجيه النبوة .

وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ .

كانوا في بُعد ظاهر عن الحق ، حيث عبدوا الأوثان والأصنام ، وقتلوا البنات صغيرات ، أو أمسكوهنّ على الذلّ كبيرات ، وكانوا في عدوان دائم على بعضهم البعض ، وفي حروب مستمرة ، فحسبك بهذا النبي الأميّ الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور ، وعلمهم آيات القرآن وآدابه وأحكامه وحكمه ، فصاروا بالإسلام خير أمة أخرجت للناس ، والحكمة من ذلك ظاهرة ، هي ألا يظنّ أحد أ محمدا تعلّم القرآن من دراسة كتب السابقين .

قال تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ } . ( العنكبوت : 48-49 ) .

ومن الحكمة أيضا : أن يكون في الأمة الأمية رسول أمّي مثلهم ، هو أعلم بحالهم ، وأخبر بما يناسبهم ، فكان صبورا عليهم ، يبطئ في إلقاء الكلام حتى يستطيع السامع أ يَعدّه عدّا ، وربما كرر الجملة ثلاثا حتى تُفهم عنه .

فكان الإعجاز والإبهار ظاهرا ، أن تجد كتابا معجزا مشتملا على أخبار السابقين ، وعلوم اللاحقين ، وأحكام الشريعة والدين ، وقوانين علمية لم يدرك الكون إعجازها إلا في القرون المتأخرة ، مما يدل على أن محمدا النبي الأميّ لم يكن يدرك بشخصه هذه المعلومات ، وإنما هي تنزيل رب العالمين .

ومن هذا الإعجاز الإخبار عن أمم بائدة ، كعاد وثمود ، وعن أمور مستقبلة في عالم الغيب ، كهزيمة الروم أمام الفرس ، ثم الانتصار عليهم في بضع سنين ، ومثل تكوين الجنين في بطن أمه ، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم هيكلا عظيما ، ثم كسو العظام لحما ، ولم يدرك ذلك إلاّ من عشرات السنين ، فأنّى لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي ولد في القرن السادس من ميلاد المسيح ، النبي الأميّ ، أنّى له – لو كان بشرا عاديا – أن يتكلم عن خلق الكون ، وخلق السماء والأرض ، وقصة آدم وقصص الرسل ، وأن يصوِِّب أخطاء وقعت في التوراة والإنجيل ، وأنى له – لو كان بشرا عاديا – أن يتكلم عن موضوعات علمية دقيقة متعددة في القرآن الكريم .

مثل حركة الأرض حول نفسها ، وحركتها أمام الشمس ، وحركة الشمس ، وحركة القمر ، والفضاء والهواء ، وأخبار عن الماء والمحيطات ، والأنهار والنبات ، وبدء الخليقة ، ونهاية الكون وما يحدث فيه ، بأسلوب علمي رائع ، وكلما تقدم العلم فإنه يؤيد ما في هذا الكتاب .

وصدق الله العظيم إذ يقول :

{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } . ( فصلت : 53 ) .

ويقول البوصيري :

كفاك بالعلم في الأميّ معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم

لقد شاء الله أن يكون يتيما أميّا لتظهر المعجزة ، وليدرك الناس أن الذي علّم الأمي مَلَك هو جبريل عليه السلام .

قال تعالى : { علّمه شديد القُوى } . ( النجم : 5 ) .

وقال سبحانه وتعالى : { والنجم إذا هوى*ما ضلّ صاحبكم وما غوى*وما ينطق عن الهوى*إن هو إلاّ وحي يوحى } . ( النجم : 1-4 ) .

ولقد زكّى القرآن الأمة العربية وطهّرها ، وأمدّها بمقومات القوة والطهارة ، فحملت دين الله من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وامتدت الفتوحات الإسلامية إلى بلاد الفرس والروم ، وأفريقيا وآسيا وسائر المعمورة ، وكل ذلك بفضل الله سبحانه وتعالى ثم بجهد هذا النبي الأمي ، الذي أرسله الله إلى العرب وجعله رحمة للعالمين ، فدخل في هذا الدين العجم ، وهم كل من آمن بالرسول من غير العرب ، وكان الإسلام رسالة عالمية ، ويحمل الفكرة إلى كل أمة ، ويتقبّل من أهلها من يصبحون قدوة وأعلاما ، فرأينا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم بلالا الحبشي ، وسلمان الفارسي ، وصهيبا الرومي .

واتسع صدر الإسلام لكل ثقافة أصيلة ، في الفقه والحديث والتشريع واللغة والأدب ، وكان علماء فارس والروم يقدمون خبرتهم ، وينالون كل تكريم من الشعوب التي تحيط بهم ، ومن الأمراء والخلفاء .

وفي الحديث الشريف : " ليت العربية لأحدكم باب ولا أم ، ولكن العربية اللسان ، من تكلّم العربية فهو عربي " .

وقال تعالى : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله . . . }( التوبة : 33 ) .

وقال تعالى : { وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيرا ونذيرا . . . }( سبأ : 28 ) .

وقال صلى الله عليه وسلم : " أُعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأُحلت لي الغنائم ، وجُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأُعطيت الشفاعة ، وأُرسل كل نبي إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " vi .